آنا_نورث مدار الأوديسة على رجل. وهذا ما تقوله في مطلعها- فعلى سبيل المثل، في ترجمة روبرت فاغلز الصادرة في 1996، مطلع القصيدة يقول: «غ...
آنا_نورث
مدار الأوديسة على رجل. وهذا ما تقوله في مطلعها- فعلى سبيل المثل، في ترجمة روبرت فاغلز الصادرة في 1996، مطلع القصيدة يقول: «غني يا ربة الشعر عن الرجل، رجل الصعاب والظروف العسيرة». وفي القصيدة الافتتاحية، يعد هذا الرجل لعودته الى مسقط رأسه، إثر المشاركة في حرب طروادة، و(يعد) لذبح خطّاب زوجته بنيلوب، والاستواء من جديد ربَ بيته. ولكن الأوديسة تدور كذلك على غيره: بنيلوب، والحورية كاليبسو، والساحرة سيرسه، والأميرة نوزيكا، ورفاق عوليس البحارة الذين قضوا قبل بلوغ منازلهم؛ والرقيق. وعدد هؤلاء في بيت عوليس غير محدد وكأنه لا متناهٍ، وكثر منهم غفل بلا أسماء. ولكن إيميلي ويلسون، وهي أول امرأة تترجم الأوديسة الى الإنكليزية، تولي الشخصيات الثانوية هذه انشغالها قدر انشغالها بعوليس نفسه. وترجمتها، وهي مكتوبة بالإنكليزية المعاصرة، تميط اللثام عن بعض أوجه غياب المساواة والتفاوت الاجتماعي، بين الشخصيات، وهي لا مساواة أُغمطت في ترجمات أخرى. وهي لا تقترح صيغة جديدة من الملحمة الشعرية فحسب، بل طريقة تفكير جديدة في تناولها تُدرجها في سياق العلاقات الجندرية والسلطوية في عالم اليوم.
تأنيث لغة الأوديسة
الأوديسة هي من أقدم الأعمال الأدبية، وهي أبصرت النور، على وجه التقريب، في القرن الثامن قبل الميلاد. وهي أقدم من بيولف (قصيدة تتغنى بالبطل بيولف كُتبت بالإنكليزية القديمة). وفي وقت تروي الإلياذة قصة حرب طروادة، تبدأ الأوديسة بعد انتهاء الحرب هذه وتروي سعي عوليس، ملك إيثاكا، الى العودة الى موئله. ويُنسب العملان الشعريان الى هوميروس، ولكن المؤكد أنهما يتحدران من عالم الشفاهية وليس من عالم النصوص المكتوبة، ومن العسير البتّ في هوية المؤلف وإذا كان شخصاً مفرداً أم إذا كان العملان ثمرة مؤلفين مختلفين ومؤدين ينقحون العمل ويزيلون الشوائب منه ويساهمون في إغناء مضمونه على مر الزمن. والمترجمة ويلسون أستاذة دراسات الأدب الكلاسيكي في جامعة بنسلفانيا، ونقلت الى الإنكليزية عدداً من المسرحيات الإغريقية القديمة، منها أعمال يوريبيديس وسينيكا، الفيلسوف الروماني. وترجمتها الأوديسة واحدة من ترجمات كثيرة بالإنكليزية. لكن أصحابها (الترجمات هذه) جلهم من الرجال، منهم فاغلز وروبرت فيتزجيرالد وريتشموند لاتيمور وغيرهم. وترجمة لغة هوميروس البائدة– وهي ضرب من الإغريقية القديمة المسماة بالإغريقية الهوميرية- الى الإنكليزية المعاصرة ليست يسيرة. فالمترجم يأتي محملاً بخبراته ومواهبه وآرائه وحساسياته الأسلوبية، وينفخها في النص. لذا، تختلف كل ترجمة عن سابقتها، وكأنها تنظم القصيدة (الملحمة الشعرية) من جديد. وعلى خلاف الإلياذة، وشخصياتها النسائية البارزة قليلة، الأوديسة تصرف شطراً كبيراً من الوقت الى حياة بنيلوب وحتى أحلامها. وسيرسه وكاليبسو وأثينا يؤدين أدواراً بارزة. وهذا من دواعي انجذابي الى الأوديسة في مراهقتي، وعودتي أكثر من مرة الى قراءتها. ولكن الأوديسة ليست نصاً نسوياً. وعلى رغم أن عوليس يجبه صعوبات في بلوغ منزله، يتسنى له أن يجول العالم ومعاشرة نساء جميلات من أمثال كاليبسو وسيرسه. وفي وقت يجوب العالم، تنتظر بنيلوب زوجها وهي محاطة بخاطبي ودها الفظين والمسرفين في الشراب في منزل عائلتها، وهم يسعون الى حملها على الزواج بواحد منهم. ولكسب الوقت وتأجيل الرد، تعلن أنها لا تستطيع الزواج قبل إنجاز حياكة كفن يليق بحماها، ولكنها تفرط كل مساء ما حاكته في النهار، فتطول حالها على المنوال هذا قدر المستطاع. «يبلغ (عوليس) على الدوام مراد عمله، بينما شاغلها هو العودة عن عملها وفرط عقده. فمدار حياة بنيلوب وأعمالها على ستر نفسها ورغباتها، والإقدام على ما لا يفضي الى شيء»، تقول ويلسون عن بنيلوب. وبعض القراءات النسوية للأوديسة سعت الى إخراج صورة بنيلوب على أنها بطلة على منوالها الخاص، وتقارن في بعض القراءات بعوليس. وهذا ما ترى ويلسون أنه يجافي الصواب. «فديدن الحكم عليها يستند الى مقارنتها بعوليس، ومداره سؤال هل هي مثله؟»، تقول ويلسون. ومن يصور بنيلوب على أنها بطلة يسلط الضوء على ثروتها قياساً على غيرها من النساء المستعبدات أو المسترقات الكثيرات في الملحمة الشعرية، وبعضهن يلقين مصيراً قاتماً وعنيفاً. وحين عودته الى بيته وقتله الخطّاب كلهم، يطلب عوليس من ابنه أن يقتل كل الإماء اللواتي عاشرن الخطّاب (وبعضهن أُكرهن على ذلك، واغتصبن)». «قطعهن إرباً بسيوف طويلة، واخنق أنفاسهن. ستنسَين ما حملهن الخطّاب عليه سراً»، يقول عوليس في ترجمة ويلسون. وترى ويلسون أن مقاربتها الأوديسة بصفتها أنثى تختلف عن رؤية الترجمات السابقة. «فالمترجمات غالباً ما يتخذن مسافة نقدية حين مقاربة أعمال مؤلفين، ليسوا ذكوراً فحسب، بل ضالعين في إرث درج طوال قرون على اعتبار نفسه إرث الرجال ومعاييرهم»، كتبت في صحيفة «غارديان». ووصفت عملها في ترجمة هوميروس بـ «الاغتراب العاطفي». «المترجمون السابقون لم يشعروا بالقدر نفسه من انزعاجي أمام النص، وأستسيغ انزعاجي هذا»، شرحت لي المترجمة. فهي ترمي من ترجمتها الى نقل عدوى الانزعاج الى القارئ في عدد من المسائل، منها امتلاك عوليس الرقيق، وغياب المساواة في زواجه مع بِنيلوب. وإبراز هذه الجوانب من العمل الشعري، عوض طمسها، «يجعل النص أكثر إثارة للاهتمام».
وتتحدى ويلسون الترجمات أو القراءات السابقة لعوليس من طريق أسلوب مباشر، ولغة معاصرة الى حد ما لدعوة القارئ الى التجاوب مع النص. وفي افتتاح ملحمة الأوديسة تكتب: «أخبرني عن الرجل المبهم الأغوار»، عوض ما يكتبه فاغلز «غني لي عن الرجل...، يا ربة الشعر»؛ أو عن ترجمة فيتزجيرالد في 1961 «غني لي يا ربة الشعر، وأخبري من طريقي قصة ذلك الرجل الموهوب في الكفاح أو تجاوز العثرات». فهي تقول في مقدمة ترجمتها أن الخطابة والقوة اللغوية تضفيان الأهمية على العمل وتبعثان على الإعجاب، ولكنهما تطمسان التباينات والتناقضات». فثمة رأي شائع مفاده أن على هوميروس أن يكون علماً على الإقدام والبطولة والقِدم. ولكن الرأي هذا وثيق الصلة بنظام قيم يتبنى تراتبية المجتمع كما لو أنها صنو البطولة». وعوليس بترجمة ويلسون موشى بعبارات جميلة مثل «وُلد الغلس... وأينعت أناملها». وتقول عن الغابة في جزيرة كاليبسو حيث تكثر أعشاش العصافير: «كانت مليئة بالأجنحة». والى هذه الصور الجميلة، تغلب على لغة الكتاب المباشرة والصراحة. وعن العبدة يوريميدوزا في منزل الأميرة نوزيكا تكتب: «كانت تجالس نوزيكا يوم كانت طفلة أو كانت جليسة أطفال... واليوم تشعل موقدها وتطهو طعامها». وفي الترجمات الأخرى، العبيد لا يجالسون الأطفال- ولا يوصفون بالعبيد ولا الرقيق. فاغلز يسمي يوريميدوزا «الخادمة» أو «خادمة غرف النوم»، وفيتزجيرالد يسميها «ممرضة». «يدهشني حين مطالعة ترجمات أخرى السعي الحثيث الى إخفاء العبودية وكأنها غير مرئية»، تقول ويلسون. وهي تستخدم كلمة عبدة أو أمة في وصف يوريميدوزا وغيرها من الرقيق حتى حين يتوسل هوميروس بكلمة محددة: «عبدة منزلية»، وتقول ويلسون في ملاحظة على هامش النص أن الكلمة قد تترجم بخادمة ولكنها إذّاك توحي بأن الأنثى هذه حرة الإرادة. «وثمة حاجة الى الإقرار بالرق وفظاعته... وتسليط الضوء على أن المجتمع العوليسي المُبجل في النص والمحتفى به هو مجتمع يُسلِّم بالعبودية. لذا، شعرت بالحاجة الى تحديد نوع العبد المذكورة في كل مرة». ولغة ويلسون بسيطة ومباشرة وهي تختارها بعناية. وقالت في حديث مع «نيويورك تايمز» أنه كان في إمكانها بدء «عوليس» بالقول: «خبرني عن الزوج الشارد أو الضال». وهذه ترجمة مقبولة قياساً الى المفردة في النص الأصلي. ولكنها كانت لتغير مشهد الملحمة الشعرية كله. وحين كلامها عن ترجمتها تبدو مثل من يقف أمام خيارات عسيرة. وهذا العسر جلي في مقاربتها شخصية بنيلوب. فهي شخصية صعبة- فأسباب امتناعها عن طرد الخطّاب أو سبب عزوفها عن الزواج بواحد منهم، غامضة. و«الأوديسة» لا تطلع القارئ إلا على نذر قليل من مشاعرها وأفكارها. فـبنيلوب «غير شفافة». ولكن تفاصيل صغيرة تزيد حيرة القارئ أمام بنيلوب. ففي الكتاب 21، تفتح بنيلوب أبواب مخزن يحتفظ فيه عوليس بأسلحته- وهذه الخطوة تطلق عملية قتل الخطّاب. وحين تمسك بالمفتاح، يصف هوميروس يدها بـ «الغليظة». ولكن ويلسون تقول إن ثقافتنا تلفظ وصف يدي المرأة بالغليظة أم السمينة. وغالباً ما ذلل المترجمون المعضلة هذه بوصف يد بنيلوب بـ «المتينة»، على نحو ما فعل فاغلز. واختارت ويلسون عبارة» يدها القوية والثابتة أمسكت بمسكة المفتاح العاجية». وويلسون لا تقوض قوة بنيلوب ولكنها لا تصفها وصفاً يماشي الأنماط الجندرية المسبقة في العالم المعاصر. فالملحمة الشعرية هذه تذود عن مجتمع يهيمن عليه الذكور، وتدافع عن بطلها وفوزه على الآخرين كلهم. ولكنها (الملحمة...) تمنح القارئ كذلك سبل الوقوف على أوجه الفظاعة في الرواية هذه، وما تفتقر إليه.
ويدور في الآونة الأخيرة نقاش في الغرب حول سبل التعامل مع أعمال (الأعمال الفنية وغيرها) من يسيء الى النساء. والنقاش هذا وثيق الصلة بسبل الإقبال على فن يحمل أمارات تمييز عنصري وجنسي أو تعصب. ويغيب عن النقاش هذا أن الملونين والنساء من الأعراق كلها في أميركا كانوا طوال أجيال «تستهلك» مثل هذا الفن والأدب، فهم ليسوا في حيرة من أمرهم. وليست ترجمة ويلسون «الأوديسة» ترجمة نسوية، بل ترجمة تعري أخلاق ذلك العصر والمكان، وتدعونا الى الوقوف على أوجه الاختلاف ما بين اليوم والأمس.
* مراسلة، روائية، عن «فوكس.كوم» الأميركي، 20/11/2017، إعداد منال نحاس.
عن الحياة
ليست هناك تعليقات