"المدمن" لوليام بوروز بقلم أَلِن غينسبرغ

alrumi.com
By -
0
مقدمة كتاب "المدمن" لوليام س. بوروز، ترجمة الشاعرة ريم غنايم، تصدر قريبا عن منشورات الجمل.

تعارَفنا، أنا وبيل بوروز، في عيد الميلاد المجيد عام 1944، وفي مطلع الخمسينات كانَت بيننا مراسلات عميقة. كنت أكنّ له احترامًا على الدّوام، بِصِفته أكبر مني سنًا وأكثر ذكاءً. في السنوات الأولى لتعارفنا، أدهشني تعامله معي باحترام أساسًا. مع مرور الوقت والتغيّرات- انعزالي في مستشفى أمراض عقليّة، وانغماسه في مآسيه ورحلاته- أصبحتُ أكثر جرأة في اقتحام خجله، كما فهمتُه، وشجّعته على كتابة المزيد من النثر. في ذلك الوقت، اعتَبَرنا، أنا وكيرواك، أَنفسنا مخلوقَين لقدَر الشعر-الكتابة، لكن بيل كان خجولاً جدًا على خَلقِ هذه المسرحيّة المُسرفة في الأنويّة. على أيّة حال، فقد ردّ على مراسلاتي بإرسال فصولٍ من "المدمن"، والتي أظنّ أنّه وَضعها كمسوّدات من نابع الفضول، لكنه سرعان ما حوّلها بدهشة أثارت انفعالي، إلى مقاطع كتاب متسلسلة وبارعة، سردٍ لموضوع. وبالتالي فإنّ الجزء الأكبر من المخطوط وصل تباعًا عبر البريد، قسم منه وصل إلى مدينة باترسون، نيو جرسي. خِلتُ أنّي أشجّعه. يخطر في بالي اليوم أنّه ربّما يكون هو من شجّعني على الحفاظ على علاقة إيجابيّة مع العالم، بعدَ أن تريّفتُ في منزل والديّ بعدَ قضاء 8 أشهر في مستشفى الأمراض العقليّة نتيجة اشتباكات بين الهيبيّين والشرطة.
حَدَث هذا قبل أكثر من ربع قرن، ولا أذكُر شكلَ المراسلات التي دامَت سنواتٍ بيننا، من قارّةٍ إلى قارة ومن ساحلٍ إلى ساحل، وكانت هذه هي الطريقة التي قمنا من خلالها بتجميع الكتب، ليس فقط كتاب "المدمن" وإنّما أيضًا كتاب "رسائل الياغي"، وكتاب " المثليّ" (الذي لم ينشر بعد)، ومعظم كتاب "الغداء العاري". بشكل مُخجلٍ، أبادَ بوروز معظم الرسائل الشخصية التي كتبها في منتصف الخمسينات، والتي سلّمته إياها ليتولّى أرشفَتَها- وهي رسائل ذات طبيعة رقيقة أكثر وضوحًا من كتاباته المنشورةوهكذا، للأسف، حَكَمَ على الجانب السّاحر "للمحقّق الخفيّ لي"، بالاختفاء وراء كواليس الكتابات الأدبيّة.

بعد أن أكتمل المخطوط، شرعتُ بعَرضه على عدة زملاء في الكلية ومستشفى الأمراض العقلية ممن نجحوا في تأسيس أنفسهم في مجال النشر- وهو طموح كان عندي أيضًا، وخاب ؛ هكذا، وأنا لستُ كفؤًا في المسائل العملية، رأيت نفسي وكيلاً أدبيًا سريًا. قرأ جيسون إبشتاين مخطوط بوروز "المدمن" (بالطّبع، كان يعرفُ بوروز الأسطورة من أيام كولومبيا) وخلص إلى أنّه لو كان ونستون تشرشل من كتبه، لكان أمرًا مثيرًا للاهتمام، ولكن بما أنّ نثر بوروز لم يكن "مميزًا" (وهي نقطة جادلته فيها قدر مستطاعي في دار نشره "دابلداي"، ولكن فرط الواقع من حولي أنهكني ... غاز خردل محرّرين أذكياء وأشرار... ذعري أو قلة تجربتي مع "الغباء العظيم" للمباني التجارية في نيويورك)، لم يكن هناك اهتمام بِنَشر الكتاب. حملتُ معي وقتها فصولا بروستيّة من عمل كيرواك "رؤى كودي" والتي تطورت لاحقًا إلى رؤية كتاب "على الطريق". وحملت "على الطريق" من مكتب ناشر إلى آخر. لويس سيمبسون، الذي تعافى من انهيار عصبيّ في دار نشر "بوبس ميريل"، لم يجد هو أيضًا أيّ قيمة فنيّة في المخطوطات.

بالصّدفة البحتة، حّصل زميلي "كارل سولومون" من معهد الطبّ النفسيّ في ولاية نيو يورك، على وظيفة من عمّه، السيد أ. أ. وين من دار نشر "أيسب وكس". تمتّع سولومون بالذوق الأدبيّ والحسّ الفكاهيّ المطلوبين لقراءة هذا الورق، رغم أنّه بارتداده عن كتابته الأدبيّة- المبالِغة، الدادائية- الحرفويّة المصابة بذعر من النقد، فقد ارتابَ، مثل سيمبسون، من رومانسية الجريمة أو التشرّد التي امتاز بها بوروز وكيرواك. (كنت في ذلك الوقت فتى يهوديًا لطيفًا أخطو بقدم واحدة داخل الكتابة البورجوازية، وأكتب قصائد ميتافيزيقية مقفّاة ومنقّحة بدقّة) أوضحت هذه الكتب بشكل قاطع أنّنا كنّا في أوج أزمة هوية تُنبئ بانهيارٍ عصبيّ في كافّة أرجاء الولايات المتحدة. من ناحية أخرى، تكوّنت سلسلة الغلاف العاديّ لدار نشر "أيس"، في معظمها، من كتب الكيتش التجاريّة التي دسّ كارل بينها من وقتٍ لآخر روايةً رومانسية فرنسيّة أو رواية إثارة، متى أجازَ له عمّه ذلك.

رأى المحرّر سولومون أَننا (نحن الرفاق، بيل، جاك، وأنا) لم نهتمّ، بقدر اهتمامه هو، بالخوف الحقيقيّ من هذا النوع من المنشورات، التي لم تكن جزءًا من وضعنا العامّ كما كانت بالنسبة إلى سياقاته- العائلة، والأطباء النفسيين، ومسؤوليّة دار النشر، والتوتّر جرّاء ظنون عمّه بأنّه شخصّ مختلّ عقليًا- بحيث تطلّب الأمر جرأة من جانبه لِنَشر كتاب "من هذا النوع"، وهو كتاب يدور حول الهيروين، وإعطاء كيرواك دفعة مقدّمة بقيمة 250 دولارًا عن رواية. "كاد هذا الشيء اللعين يصيبني انهيار عصبيّ-التعامل مع تلك المواد كان بمثابة مجابهة خوف ورعب متراكمين".

في تلك الفترة ولا تزال أصداء ذعر الدولة البوليسيّة التي ترعاها مكاتب مكافحة المخدّرات حتّى اليوم- سادت بنية تفكير ضمنيّة ثقيلة، أو افتراض بأنّه: إذا تحدثت بصوتٍ عالٍ عن "الحشيش" (وبكلّ تأكيد عن الهيروين) في الحافلة أو في المترو، فقد يقع اعتقالك- حتى لو تحدثت فقط عن تغيير القانون. كان الحديث عن المخدرات أمرًا غير قانونيّ. حتى بعد مضيّ عَقد من الزّمن، لم يكن ممكنًا طرح نقاش حول القوانين في شبكة تلفزيونيّة عامّة دون أن تتطفّل مكاتب مكافحة المخدرات وسلطة البث الفدرالية بعدها بأسابيع، بأشرطة مصوّرة تشجب النقاش. لقَد صار ذلك في عداد التاريخ.

الخوف والرعب اللذان أشار إليهما سولومون كانا حقيقيّين إلى درجة أنه تمّ تذويتهما في صناعة النّشر، ولهذا، قبل أن يتمّ طبع الكتاب، وَجب دمج أنواع من التحفظات، خشية توريط الناشر جنائيًا مع المؤلف، وخشية تضليل الجمهور بسبب آراء المؤلف التعسفية والتي تعارضت مع "الصلاحيات الطبية المتعارف عليها" التي خضعت في تلك الأيام لمكتب مكافحة المخدرات (20000 طبيب حاولوا معالجة مدمني المخدرات، والآلاف منهم تم تغريمهم وحبسهم بين الأعوام 1935-1953. أطلقت رابطة أطباء إقليم نيو يورك على الظاهرة اسم "الحرب على الأطباء").

الحقيقة البسيطة والأساسيّة هي أن مكتب مكافحة المخدرات تعاون مع التنظيم الإجراميّ، وشارك، من تحت الطاولة، في تجارة المخدرات، وهكذا تراكمت الأساطير التي عزّزت إدعاء "تجريم" المدمنين بدلاً من تأييد العلاج الطبيّ. كان الدافع واضحًا وبسيطًا: الجشع المادّي، وجشع الرواتب، والابتزاز والأرباح غير المشروعة على حساب فئة من المواطنين الذين صنّفتهم الصحافة والشرطة ب "الشياطين". تمّ توثيق علاقات العمل التاريخية بين الشرطة والنقابات الإعلامية في مطلع السبعينات بالتقارير والمستندات الرسمية المختلفة (لا سيّما تقرير لجنة "ناب" عام 1972، و "سياسة الأفيون في الهند الصينية" من قبل شركة مكوي).

لأنّ الموضوع اعتُبر شاذًا في أوجِه، طُلب من بوروز أن يساهم بكتابة استهلال موضحًا فيه أنّه وليام لي، المجهول الذي انتمى إلى عائلة ذات خلفية عريقة، ملمحًا إلى الطريقة التي قد تؤدي إلى أي مواطن عادي إلى طريق الإدمان، وذلك لتخفيف الوطأة على القراء، والرقابة والنقاد، والشرطة، والشكاكين وصفوف الناشرين، والله يعلم من أيضًا. كتب كارل مقدمة مضطربة تظاهر فيها بصوت العاقل وقدّم الكتاب من جانب الناشر. ربما كان عاقلاً فعلاً. تمّ إسقاط أحد الأوصاف الأدبية للمجتمع الزراعي في تكساس بادعاء أنه لا يتناسب وروح الموضوع غير الأدبيّ والقاسي وغير التقليديّ. أكرّر، قوبِلَت الحقائق الطبيّة السياسيّة وبعض آراء السيّد لي على الفور بتحفّظ (وكُتبت بين قوسين) من قبل "المحرّر".

بصفتي وكيلاً، فاوضتُ على العقد وصادقتُ على كافّة التعتيمات، وحصلتُ على دفعة مقدّمة بقيمة 800 دولار لصالح بوروز لطبعة مؤلّفة من 100000 نسخة، ستطبع كَكتاب مُسند إلى كتاب آخر حول المخدرات، قام بتأليفه وكيل مخدرات سابق. بالتأكيد صفقة خسيسة. من ناحية أخرى، ونظرًا لسذاجتنا، كان هذا أشبه بمعجزة جريئة أن يُطبع النص بالفعل، وأن يُقرأ على مدى عقد من الزمن على يد مليون قارئ ذوّاق- قدّروا أيّما تقدير الحقائق الذكيّة، والتصوّر الواضح، واللغة المجرّدة الدقيقة، والمبنى النحويّ والصّور الذهنيّة المكتوبة بطريقة مباشرة- وكذلك التبصّر الاجتماعيّ الهائل، والتوجّه الثقافيّ الثوريّ حيال البيروقراطية والقانون، والتهكّم البارد الرواقيّ حول الجريمة.

ألن غينسبرغ

19 أيلول، 1976، نيو يورك.

إرسال تعليق

0تعليقات

إرسال تعليق (0)