"عبد المنعم الشريف.. غابة من الشعر"
كنت أحرّف الوصف الذي قيل عن ريتسوس الشاعر اليوناني العظيم بأنه "قارة من الشعر" حين يأتي الحديث عن Abdelmoneim Sherif عبد المنعم الشريف الشاعر الفذ الرفيق، فأقول عنه "عبد المنعم غابة من الشعر"، نعم لم يكتب أحد من الأجيال الأحدث شعراً بقدر عبد المنعم، لم يعش أحد يوماً من تجربته ولا يجرؤ، لم يصب أحد منا كما أصيب عبد المنعم، إن كان هناك شاعر في مصر اعتصرته التجربة عصراً فهو صديقي عبد المنعم الشريف... حياة عبد المنعم معلقة من الشعر متعدد الأغراض، معلقة من الشعر الذي لم يتزين، لم تقص حوافه، لم يهذب، معلقة من الجريمة، وليمة من الخيبات، حياة من الاضطراب والصراخ والانقلابات الكبيرة.. جهزنا أكثر من ديوان لعبد المنعم، ولكنا بصدق لم نستطع الإحاطة به ولا بشعره.. من يعرف عبد المنعم هذا العملاق الطيب الخجول الرومانسي ربما يخشاه ولكن عبد المنعم الكارثة الشعرية الكاملة الذي لا يحتمل سيكون قريبا لروحك أقرب من خوفك منه... هل قصرنا نحن الأجيال السابقة أو اللاحقةفي حق عبد المنعم؟ وهل هذا سؤال يليق بمن عاش الشعر في عرامته الكاملة في حوشيته التي لا يطيقها المنظمون أرباب الجوائز والأناقة وعلامات الموضة.. يملك كل منا قدر طاقته من الشعر, يملك طريقا أو طريقة أو منزلاً أو حوشا أو سرايا أو قصرا أو زريبة أو حقلا، أما عبد المنعم فيملك غابة، ينمو لها شعره رعويا، يكتب الشجرة أو النبتة وينساها، ويرحل، يحفر البركة ولا يتم الحفر، يصطاد الفريسة ولا يقربها ربنا تتعفن بعيدا في الأحراش.. يصرخ كثيرا يحطم الإيقاعات يهدم كل نظام وأحيانا يغنى ويصفر تحت الشجرة ويطرب لذاته، ثم يبول خلف الشجرة أو أمامها لا يهم، ويلقم ثمرة يلقم منها لقمة ويلقيها فتفقأ عين ذئب أو غزال، ويمضي يصفر ثم يجلس باكيا خائفاً وحيدا مريضا يتوسل لقرد أو وعلا لكي يبقيا قليلاً يشاركاه نبيذه،ثم يطردهما من جنته، ويلعن الدنيا والزمن والشعر والأصدقاء، يشتمهم واحداً واحداً ويقدح حجرا بحجر ويشعل النار لنفسه ويلقي فيها بأصابعه ثم يكتب عن اللوعة والحنين ثم يشعل النار في ما كتب، أو إن حسن مزاجه يلقيه على صفحة نهر أزرق ولا يعبأ. اللعنة عليك يا عبد المنعم، اللعنة التي نحسدك عليها، وكلنا في جوفه يتمنى هذه اللعنة لذاته، ولكنه لا يطيق التجربة ولو لساعة.. أهلكتنا خلفك يا منعم كيف نصيد قصائدك وأنت تلقي بها بعيدا فلا تدركها سناراتنا.. عبد المنعم يكتب الشعر الموزون المقفى والنثر والتفعيلة يكتب الشعر العظيم والشعر الرديء والمتوسط، الشعر المشوق والشعر الزائد والحوشي الكلام ورائقه، يكتب كل شيء وعن كل شيء، ربنا يتشابه بعض شعره، وربما وربما.. ماذا أقول عن الفتى الذي رأيته لأول مرة رومانسياّ محباً خجولا من أوائل دفعته، شاعراً متفردا من الشعراء الذين تعرف الشعر في عيونهم هو ورفيقه يونس أبو سبع جاءا من بلاد كفافيس ملعونين بالصعلكة والشعر والهواء العكر والبيوت الضيقة وبين السرايات وأبو قتادة، رأينا فيهما رفاقا حقيقين يشبهوننا كثيرا نحن جيل "شياطين دار العلوم"، محمود سباق محمود سباق و Ahmad Zakaria وشريف محمد أمين وأنا، ثم مضت الدنيا والحياة وكان عبد المنعم يربي غابته كما تريد له الدنيا والأحكام الإلهية والثورة والحرية... ماذا أكتب عن عبد المنعم وانا يملئني الشجن وأحس أن ما كتبته هراء في هراء لا يليق أن أسجن فيه عبد المنعم، الذي ربما يسخر أو يبكي أو يشخر أو يزعل مني فلا يكلمنى ثانيا.. ولكنى لا أعتذر لك يا صديقي فقدرك قدر رامبو وبودلير ولوتريمون والمعري وطرفة، هذا القدر الشعري الذي يختار شعراءه. عشت يا عبد المنعم.
أعجبني
تعليق
مشاركة