تحسين الخطيب
يبدو أنَّهُ، لكي تكون شاعرًا عظيمًا (وليس مجرّد شاعر عاديّ!) لا بُدَّ أن تكون وضيعًا، في حياتك الشخصيَّة، وسافلًا، إلى أبعد الحدود:
لم يكُن ريلكه مخلصًا في حياته إلَّا لشيء واحد فقط: القصيدة؛ قصيدته هُوَ؛ فنُّه هُوَ. وهذا "الإخلاص" هو الذي، ربَّما، دفع روبرت موزيل إلى القول إنَّ ريلكه "جعل القصيدة الألمانيَّة مُتقنةً وكاملة لأوَّل مرَّة" في تاريخ وجودها. وأمَّا في حياته الشخصية (الضَّجِرة، الساعية دومًا إلى الراحة، ولو على حساب الآخرين وعذاباتهم، على شاكلة "الإنسان الأخير") فقد كان "أكثر شخص مثير للاشمئزاز في تاريخ الأدب"، بحسب الوصف الذي أطلقه عليه الناقد الأميركي مايكل ديردا، ذاكرًا، بالحرف الواحد، أنَّ ريلكه "الذي طالما عُدَّ أحدَ قدِّيسي الفنِّ الحديث، والإنسانَ الذي عاش وحيدًا في عزلة روحيَّة دائمة، والذي صنع من نفسه قيثارةً هوائيَّة حسَّاسة تهتزُّ لأدنى رياح الشِّعر حين تهبُّ"، كان في الواقع شخصًا "متحجِّرَ الفؤاد، عديم الرحمة، ليس تجاه الآخرين فحسب، وإنَّما تجاه نفسه أيضًا. وكان دائمَ التزلُّف إلى الأرستقراطيِّين، بلا خجل".
وليس هذا فحسب، فقد كان ريلكه "الغائر العينَيْن، الذي غالبًا ما تحفل أشعاره بالملائكة والأبدان اليونانية والموت، متكبِّرًا، أنانيًّا، وجبانًا، ومصَّاص دماء على الصَّعيد النَّفسيِّ، وكثير التذمر والشكوى مثل طفل صغير. لقد رفض الذهاب لرؤية والده المحتضر، وكان الزوجَ الذي استغل زوجته ثم هجرها، والأبَ الذي لم يرَ ابنته في حياته إلَّا لمامًا، حتَّى إنَّه سرق الأموال من وديعتها الخاصة بالتعليم، ليدفع تكاليف إقامته في غرف فنادق الدرجة الأولى. ناهيك عن أنَّه كان لا يكفُّ عن إغواء زوجات الآخرين، وكان تجسيدًا حيًّا لفكرة الفنان مشبوب العاطفة الذي يعدُّ نفسَه فوق البشر العاديِّين لأنَّه مرهف الحسِّ، وفي غاية الحساسية، لدرجة أنَّ نسمة عابرة أو بردًا مفاجئًا قد يجرح بسهولة برعم نفسه الهشِّ الرقيق". وسبق لريلكه، في صباه، أنْ سمح لخطيبته بإنفاق مدِّخراتها على نشر كتابه الأول، ثُمَّ أهدى القصائد إلى إحدى البارونات، ثُمَّ هجر الفتاة الشابة المصعوقة.
ولكنَّ ريلكه، بالرغم من هذه الوضاعة، على الصَّعيد الشخصيِّ، يظلُّ شاعرًا عظيمًا "وسَّع حدود الشعر باستخداماته الجديدة للنحو والصور المجازية وتبنِّي فلسفة جمالية رفضت التعاليم المسيحية المتوارثة، والذي سعى إلى التَّوفيق بين الجمال والمعاناة، وبين الحياة والموت"، ففي الوقت الذي "عثر فيه الآخرون على مبدأ موحَّد لأنفسهم في الدين أو الأخلاقيَّة أو البحث عن الحقيقة، عثر ريلكه على مبدأه في البحث عن الانطباعات وأمل أن تتحول هذه الانطباعات إلى شعر".
ولا يمكن لشاعر من هذه "الطِّينة" أن يكون موته "عاديًّا"، وهو الذي ناجى "ربَّهُ" في "كتاب السَّاعات Das Stundenbuch"، قائلًا: "اِمنحي يا إلهي موتيَ الخاصَّ/ الموتَ الذي ينبعُ من حياتي". وهكذا كان، فقد مات "موتًا" نابعًا من حياته هُوَ، بكل ما في الكلمة من معنى، "الموتَ العظيم الذي يحمله في داخله"― مثل ما يقول في القصيدة ذاتها― الموتَ الذي هُوَ "الثَّمرةُ التي يغلِّفها كلُّ شيءٍ"، لدرجة أنَّه قد خطَّ العبارة التي أوصى بأن تُنقَش على شاهدة قبره: "أيَّتها الوردةُ، أيُّها التَّناقضُ الخالصُ، يا رغبةَ،/ ألَّا تكوني نومَ أحدٍ تحتَ جفونٍ كثيرة"، حتِّى قِيل إنَّه قد تنبَّأ في هذَيْن البيتَيْن بالطريقة الذي سوف يموت فيها: طاب المقام بريلكه، في السنوات الأخيرة من حياته، في قصر موزو، بسويسرا. وفي أثناء إقامته تلك، وفي العام 1926 (بحسب ما يذكر أكثر من مرجع تاريخي) زارته نعمت علوي بيه العارضة ذائعة الصِّيت التي وقفت أمام عدسة العبقريِّ مان راي، وأوَّل مشرقيَّة تُنشَر صورها في العام 1929على صفحات "ڤوغ"، المجلة الأميركية الشهيرة المتخصصة في الأزياء والأناقة. كانت نعمت، تلك في الأوقات، تعيش منفصلة عن زوجها الثريِّ المصري عزيز بيه― الذي تزوَّجته، زواجًا تقليديًّا، حين كانت في الثامنة عشرة من عمرها― بعد أن اشتدَّ به المرض (تصرُّف يذكِّرنا كثيرًا بتصرُّفات ريلكه "الوضيعة" في التخلِّي عن أقرب المقرَّبين إليه!). فُتِن ريلكه، منذ النظرة الأولى، بجمال نعمت الأخَّاذ، وشخصيَّتها الأرستقراطيَّة الجذَّابة، وبهرته ثقافتها واسعة الاطلاع على الشعر والفلسفة وعلم الكلام. ولكي يحتفي بهذه الزيارة، ذهب (وهو الذي كان قد شُخِّص بمرض اللوكيميا قد بضعة أسابيع) إلى الحديقة ليلتقط بعض الورود. وفي أثناء ذلك، وخزته شوكةٌ، فانتشر الالتهاب الذي أصاب ذلك الجرح الصغير في ذراعه كلِّها، فتورَّمت في فترة وجيزة، ثُمَّ سرعان ما سرى الالتهاب في جسده كلِّه حتَّى مات.
مات الشاعر الذي كانت حياته نشيدًا لا يكتمل أبدًا:
عشتُ حياتي في دوائرَ تتَّسعُ
دوائرَ فوقَ الأرضِ والسماءِ تنتشرُ.
قد لا أُكمِلُ الدَّائرةَ الأخيرةَ أبدًا،
ولكنَّني سوفَ أُحاوِلُ.
حولَ الربِّ أدورُ، حولَ البرجِ الذي كانَ في البَدْءِ،
منذُ ألفِ عامٍ أدورُ،
وما زلتُ لا أعرفُ إنْ كنتُ صقرًا، أمْ عاصفةً،
أمْ نشيدًا لا يكتملُ.