الأحد، 4 يونيو 2023

في متحف لوغانو السويسري: بول كلي يرسم بقلم الرصاص وينسف التقاليد الأكاديمية


إسماعيل كرك

(القدس العربي)

عن الموقف الطريف الذي حصل مع والدها سيغفريد، تقول أنجيلا روزنغارت إحدى أشهر متداولي فن القرن العشرين: «بعدما أمضى أبي وقتاً طويلاً في تأمل عمل بول كلي (الجورب الأحمر)، خاطبه زائرٌ فضوليٌّ: كأنك مشدوه بما ترى يا صديقي؟ إن طفلي يستطيع أن يرسم أجمل من ذلك بكثير!» فأجابه أبي مباشرة ودون أن يلتفت إليه: «لا بد أن طفلكَ عبقري يا عزيزي».

في الحقيقة كان سيغفريد يعني ما يقول، فعلى مر السنين ما يزال الكثير من المتتبعين لأعمال الفنان السويسري – الألماني بول كلي مأخوذين بالبساطة الغامضة التي ميزت جُلَّ أعماله وهو ما أكدته كريستين هوبفنغارت، أمينة مركز بول كلي في بيرن من خلال اللقاء الذي أجرته مع موقع Swiss.info في 2 حزيران/يونيو 2005. فبالإجابة على سؤال صحافي الموقع المذكور الذي تساءل فيما لو كان فن كلي التلقائي يجتذب الأطفال مثلما يجتذبه عالم الطفولة، معتمداً على عبارة كلي: (سأظل طفلاً)، قالت هوبفنغارت: «لم يكن كلي يحمل أيا من صفات الأطفال لأنه كان مفكراً كبيراً، يمكنني القول إن عالم الأطفال كان يسحرهُ بكل ما يمثله من إبداع وخيال فهو غير خاضع للتقاليد المتعارف عليها». إجابة هوبفنغارت تلك كانت قريبة جداً من الحقيقة، لأن كلي ترك من خلال مذكراته ومراسلاته الكثيرة شهاداتِ عن أعماله التي تجاوزت خضوعها للزمان، المكان والتصنيف، وعكست انطباعاته وبعض ملامح شخصيته، حيث أشار في مذكراته المؤرخة 22 حزيران/يونيو 1902 شارحاً كيف تشكلت فكرته عن الفن: «كل شيء كان غريباً عني، كل الإجراءات العقلانية في مهنتي تبدأ الآن في العودة إلى بُعد كل شيء، فمن الضروري أنني أُجَرَّب تخيُّلَ فكرة رسم صغيرة جداً، وأحاول تنفيذها وتكثيفها مسلحاً بقلم رصاص، ليحتل الرسم كجزء ثالث بُعد طقوسه والصفحة الفارغة».

مما لا شك فيه هناك شيء لا يمكن وصفه تلقائياً في أعمال بول كلي، ربما تكون جودة الفكرة وبساطة تقنيات تمثيلها وتشكيلها في اللوحة، أو ربما تكون الالتواءات البسيطة في خطوط العلامات الموسيقية التي لم تنفصل عن مخيلته باعتبار الموسيقى أول محطة شكلت شخصية الألماني، فوظَّفها في لوحاته لتجتذب أهم جامعي النماذج الأكثر تميزاً بالفن على مدى القرن الماضي مثل مارغريت وهيرمان روبف، أوتو ألفس، إيدا بينيرت، جي ديفيد تومسون، وإرنست بايلر.

إلى جانب الدراسات التي تناولت إبداعاته، يعترف كلي من خلال ما نُشِر في سلسلة (منبر الفن والزمن) – برلين I920، بأن مشروعه الفني ارتكز على طريقة شكلت هوية أعماله ضمن رؤية شاملة: «دع نفسك تنطلق إلى هذا المحيط الذي يَهِبُ الحياة للأنهار الكبيرة أو التيارات المليئة بالتعاويذ كما يحدث تماماً في الرسم وتشعباته المتعددة». مدركاً أن الجمال نتيجة، عارفاً كيف يبدأ السير للوصول إليها لكنه لا يستطيع التنبؤ إلى أين سيصل!

من منطلق الأهمية التي اكتسبها الرسم التوضيحي والنقش في الثقافة الألمانية نهاية القرن التاسع عشر، وفي تلك العوالم الخاصة، بدا أن كلي كان قادراً على الحركة، وسيبدأ بالنمو من ناحية، ويجعلنا قادرين على تصور عمله في أسلوب يميزه من ناحية أخرى. من المدهش أيضاً، أن نرى كيف حرَّرَ كلي كتاباته الخاصة قبل الشروع بالرسم، ليتنقل بِحُريّة في بحر الأفكار والمقترحات، خاصةً بعد انتقاله من التجريدية إلى التعبيرية، إذ كان عليه القيام بتحالفات مفاهيمية من شأنها أن تُعَرِّضَ عالمه للخطر.

لكنه كان يعرف كيف يتنقل بمفرده ويحدد مساراته في تفسير العلاقة التي أسسها مع التجارب التصويرية في السنوات الافتتاحية للقرن العشرين، والتي تزامنت مع التحولات التي بدأت في الموسيقى والأدب والرسم. وربما يكون قد تأثر بالفعل بأفكار كاندينسكي الذي ألهم الدادائية بقصيدة الصوت وبالعلاقة الحميمة التي تماهى فيها اللون مع موسيقاه الخاصة. ففي السنوات الخمس الأولى من القرن العشرين تم استكشاف تلك الأفكار بطريقة أكثر (جنينية) في المشاريع الأولى لمجلة Die Brücke»الجسر» التي أسسها كيرشنر وهيكل وشميدت روتلوف سنة 1905، والتي تناولت مناظر طبيعية أخرى، موضوعات أخرى، ولغات أخرى تم تطويرها لاحقاً كمشاريع، بعد تأسيس المجلة التعبيرية الأولى  Sturm Der»العاصفة» سنة 1910 والتي جعلت من الممكن تحرير لهجة اللون من قوانين التناغم والتكوين التقليديين.

خلال حياته وحتى بعد وفاته في مورالتو/ لوكارنو القريبة من لوغانو، بقي كلي لاعباً رئيسياً في عدد من الأحداث المحورية في تاريخ الفن، فقد عُرضت أعماله في أهم المعارض المتخصصة. حدث ذلك في ميونيخ عندما كان كلي عضواً مؤسساً لمدرسة «الفارس الأزرق كما تم ذكره في كل من البيان الدادائي في كولن وبعدها في البيان الأول للسريالية في باريس، وكان مدرساً محترماً من قبل الزملاء والطلاب على حد سواء في باوهاوس فايمار وديساو في ألمانيا. ولم تكن كل تجاربه مؤطرةً أو راسخةً ضمن مخططات محددة مسبقاً، وبالتالي فقد ظلت تلك التجارب خالية إلى حد كبير من أي تكييف ثقافي، فعن طريق الشخصيات، الحيوانات، النباتات والعمارة، حرضتْ إشارات أعمال كلي الفنية على الكثيِرِ من الأفكار الجديدة من خلال رؤاه المتفردة التي كانت مختلفة عن مُخرَجات معاصريه من الفنانين، لأن ما يقرب من نصف أعماله التي زادت عن 9000 عمل فني، كانت رسوماتٍ دلالية بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. كان يولي ذات الاهتمام بأعمال ذات قياسات صغيرة منفذة على الورق والكرتون المقوى، كما يولي اهتمامه بالأعمال ذات القياسات الكبيرة، فهو لم يفكر أبداً بالرسم كمرحلة إعداد للَّوحة، من وجهة نظره للرسومات قيمة مستقلة عن الحجم، وهو ما عُرض على الزوار في متحف لوغانو في الفترة التي امتدت بين 04/09/2022-08/01/2023 عندما عرض جامعا الأعمال الفنية الأرجنتينيان سيلفي وخورخي هيلفت 73 عملاً كان كلي نفذ معظمها على الورق الملصوق على كرتون مقوى بقلم الرصاص، بالإضافة إلى أعمال زيتية ومائية منقولة على ورق مقوى، و أعمال باستيل على جوت، ومعجون ملون على ورق، وطباشير على ورق ملصق على كرتون مقوى، وقلم رصاص ملصق على ورق.

لم تقتصر أهمية عرض تلك الأعمال على قيمة محتواها فحسب، إنما ما زادها أهميةً أنها عُرضت في لوغانو عاصمة الكانتون السويسري الإيطالي الذي قضى فيها كلي أيامه الأخيرة وتوفي فيها، أما الأهمية الأكبر فتكمن في المجموعة الفريدة، التي لم يتم عرضها بالكامل من قبل.

أهم ما يميز مجموعة الأعمال التي عرضها متحف لوغانو هو أن معظمها نُفَّذَ بقلم الرصاص وهو ما كان منطقياً نظراً لصغر قياسات لوحاتها. كما قرر القائمون على المتحف التحقق من تلك الأعمال بعد فحصها ومقارنتها بإنتاجه الغرافيكي قبل بدء عرض أكثر من 70 عملاً ونقشاً مختارةً بعناية إلى الجمهور وأصحاب المعرفة المهتمين، والذين انتظروا بشغف على مدى خمس سنوات وبشكل لا يصدق، لمشاهدة أعمال كلي قادمةً من بوينس آيرس/ مجموعة هلفت متسقةً بشكل رائع. لقد ركز الزوار على الأعمال ذات الشخصية الفنية القوية، تلك التي تتميز بإيقاعاتها الساخرة والدرامية بآن، فجميعها مرتبط بديناميكية واضحة في خطوط اعتبرها كلي أداة الإبداع الرئيسية التي تسمح بالتبديل البصري، ما جعل من حضر من النخبة الفنية مُمتنّين للمتحف لتَمَكُّنه من عرض هذه المجموعة الفريدة.

يقول هيلفت الذي يُعتَبر من أشد المهتمين بأعمال كلي إنه ما يزال يتذكر مقولة صديقه مؤرخ الفن فيرنر شمالينباخ: «كلي يهمس بينما بيكاسو يصرخ»، تلك المقولة التي شجعته على شراء مجموعة كاملة من أعمال كلي من معرض إيرنست بايلر في بازل، وذلك لأنه وجد نفسه منجذباً إلى الحميمية في أعماله التي تُولَدُ من جديد في كل لقاء بين الزائر والعمل الفني، وتتطلب منا أن نخصص لها وقتاً كافياً لتكافئنا باكتشاف المرئي وإعادة اكتشاف اللامرئي.

لقد كانت أعمال كلي عالماً بكراً لم تتحكم به طرق التربية، وهو ما قدمته مجموعة هيلفت في لوغانو من خلال رسومه والتي بلورت رغبته الخاصة في نسف التقاليد الأكاديمية والأعراف السائدة عن الفن اعتباراً من بداية الحرب العالمية الأولى حتى وفاته سنة 1940 فقد اختار مع زوجته ليلي كلي تسمية معظم لوحاته بعناوين دقيقة ولافتة تعبر عن نهجه المفاهيمي وخصوصاً لوحاته «الحبل المشدود» 1923، «الارتفاع» 1928، «المهرج» 1931، «لماذا نركض» 1932، «المبارزة» 1938، و«السيرك» 1939.

يسيطر كل من الفضاء والبصرية على أعمال كلي، فكل شيء مكثف في المظهر الفوري الذي تلتقطه العين وهكذا كتب كلي وبسنّ مبكرة ملاحظاته في مذكراته 1920: «اعتدنا في السابق على تمثيل الأشياء التي كانت مرئية على الأرض، أشياء إما أننا نحب أن ننظر إليها، أو أننا نرغب من خلال ذلك أن نرى الواقع الكامن وراء الأشياء المرئية، وبالتالي نميل إلى الاعتقاد بأن العالم المرئي اليوم هو مجرد حالة منعزلة في الكون، بل هناك العديد من الحقائق الأخرى الكامنة، فالأشياء تحمل معنى أوسعَ وأكثر تنوعاً، وفي الكثير من الأحيان يبدو أنه يتناقض مع التجربة العقلانية للأمس، لا بد من السعي للتأكيد على الطابع الأساسي لما يحدث بالفعل».

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Post Top Ad

Your Ad Spot

الصفحات