ما إن مضت ساعةٌ على نشر مقالي المختصر عن "مامش النواب"، حتى ذكّرني النحّات العراقي القدير أحمد البحراني بمنحوتته لمظفر النواب، قبل...
ما إن مضت ساعةٌ على نشر مقالي المختصر عن "مامش النواب"، حتى ذكّرني النحّات العراقي القدير أحمد البحراني بمنحوتته لمظفر النواب، قبل أشهر قليلة من رحيل الشاعر في العشرين من مايو ٢٠٢٢.
أقدمَ النحّاتُ البحراني على إرساء رؤيته للشاعر النواب طوعياً، بعد تأثّره بأحاديث صديقه علاء بشير عن الشاعر النوّاب، وتبلوُّر وجهات نظر من تلك الصداقة انعكست على مروّيات التمثال ومادته وشكله الممثَّل بجناحين يرتفع بهما الشاعر فوق عصره "بوصفه شاهدا على حوادث وذكريات عاشها وأصبحت جزءا من تاريخه" كما صرّح النحّات في مقابلة مع زياد جسّام، نشرتها مجلة بين نهرين في الخامس عشر من أيار ٢٠٢٣.
صنعَ النحّات أحمد البحراني ثلاث نسخ طينية من التمثال، بحجم صغير (ارتفاع ٧٠ سنتمتر)، وأخرى مثلها من البرونز، أهدى نسخة منها إلى علاء بشير واحتفظ بالأخريين لنفسه. كانت تلك الأحاديث قد سمحَت للنحات بتصور جسد الشاعر محلًقاً على زمنه_ زمننا_ بمئات السنين_ الفراسخ، تتداعى إليه خفقات جناحيه عبر الفراغ الفسيح.
لم يكن تصوّر النحّات للشاعر بعيداّ عن تصوّر الرسّام بشير وأسلوبه التعبيري الذي ينفذ عبر تشريح دقيق للشكل الإنساني إلى أعماقه المرسومة. وكذلك فإنّه نفّذَ موديله من مادة الطّين، المطواع، كما فعل بشير مع موديلاته الطّينية، التي أعتقدَ أنها أقرب لشخصيته من الحجر والبرونز.
كيف لا، والأشخاص الثلاثة: النحّات والرسّام والشاعر، انبثقوا من مرويّات الطّين، وأفُق الانهار، وغربة المكان الذي أبعدهم عن مادتهم الأصلية. وبهذه المادة انتزع النحّات ما في أعماق الشاعر من انكسار وحزن، رفعهما إلى مرتبة التحليق والارتفاع، لكي يتبيّن أصدقاءُ الشاعر بأنّ قِيَم النضال والتواضع تتكافأ بنِسب تجسيمية ومعنوية متقاربة. ورُبّ بيانٍ من طين، هو خيرُ مثال لقصيدة من كلماتٍ تنشر حولها تاريخَ الأرض التي حملَت جسدَ الشاعر، وأرادَ هو أن يتخفّف من جاذبيّتها الخانقة بوضع الطيران.
توضّح الصور المرفقة جوانبَ مختلفة من التمثال، الأوضاع المتدرّجة للطيران. إذْ رغم وجود الجناحين، فالشاعر يبدو مشدوداً للارض، مع كتابه الذي يخفيه وراء ظهره، ويجعله منحنياً لقدره_ كلماتِه التي تضغط عليه بقوة غير منظورة. إنّ الفراغ حول التمثال يعجّ بالأصوات غير المسموعة أيضاً، القصائدِ التي تناديه للتريث_ الاستماع الى ناي القصب_ ناي القتلى والغرقى والمجهولين من أصدقائه ورفاقه. ثم سرعان ما تتحوّل القصائد إلى أجنحة_ الكلماتُ تنهض لانتشال الشاعر من حزنه المقيم وترتفع بجسده عالياً فوق الانقاض_ أنقاض الزمن الغادر.
لولا هذه المعاني_ ظلالُها_ التي تركتها أصابعُ النحّات البحراني على جسد الشاعر، لما تحسَّسنا أهمية الندوب_ التجعيدات الطّرية على سطح التمثال، الطريقة الخاصة التي صوّرَ بها ذلك الجسدَ ذا الرأس المتهاطِل رقةً ودماثة. إنّه النحتُ الذي يهطل شِعراً عبر الانامل الخبيرة بمواطن الوجع والرحيل البعيد.
لن ننسى الإشارة إلى شَبَهٍ لتمثال النوّاب بتماثيل القدّيسين (مهما كان حجمهم الديني) أو لأحد تماثيل المعابد السومرية القديمة (الكهّان أو السحرة) إلا أن تمثالنا العراقي يحتفظ بقداسته وسحريته، اللتين تستمدان مصادرهما من روح الشاعر، والمرويات القريبة عنه؛ فأيُّ سحرٍ لن يكافئ هذا الظهور السافر لطائر طينيّ من عصرنا.
استباقٌ حقّقه البحراني بلمسات_ كأنّها خفقات هامسة، لأجنحة متكسّرة!
فايُّ حسرة تنبعث من التمثال الذي لن يقدر طين النهرين كلّه على بعثه من جديد!
أيُّ قصيدة_ أيّ خلود_ يكمنان في ذينك الجناحين الصغيرين، كجناحي حمامة!
ليست هناك تعليقات