مع اقتراب موعد المعرض الدولي للنشر والكتاب في مدينة الرباط، ستصدر قريبًا عن دار "الرافدَين" أربعة كُتُب للشاعر والكاتب المغربي بال...
مع اقتراب موعد المعرض الدولي للنشر والكتاب في مدينة الرباط، ستصدر قريبًا عن دار "الرافدَين" أربعة كُتُب للشاعر والكاتب المغربي باللغة الفرنسيّة عبد اللطيف اللعبي. في ما يأتي، المقدّمة التي وضعها الشاعر عيسى مخلوف لكتابه "لا شيء تقريبًا" (نقله إلى العربيّة محمّد خماسي). بعنوان "الاسمُ الآخر للشِّعر":
يقف عبد اللطيف اللعبي، في هذه المجموعة، على شُرفة مُطلّة على المدى الواسع وعلى تقلُّبات النّهار والليل. يلقي نظرة إلى الأمام وأخرى إلى الوراء. إلى ما جاء وإلى ما سوف يأتي. يستشرف الآتي ويستشعر جبلَ الجليد الذي سترسو عند سفحه سفينتُه المُبحِرة، مُدركًا أنّ الوقت سيظلّ يتدفّق من بَعده، "الوقت الذي يأكل الحياة"، وفقَ شارل بودلير.
قصائد هذا الديوان هي قصائد الحَصاد التي اهتدى بها كاتبُها إلى ما هو أثمن من الأيّام التي تمضي: الكتابة. الكتابة كاسترجاعٍ للحياة. يكتب عبد اللطيف اللعبي "كي لا يتعفّن/ الجسد والروح/ قبلَ القطاف*". كأنّ التوقُّف عن الكتابة، هنا، هو توقّف زمنه الشخصيّ، وهو الموت قبل أوانه.
لقد حلّ المساء ولا بدّ من جردة حساب في ضوء الشعاع المُتبقّي، كما فعل نيكوس كازانتزاكيس في كتابه "تقرير إلى الغريكو". في قصيدة "أشرعة الطفولة"، حيث "الطفولة تدنو/ وتنأى"، يتذكّر عبد اللطيف اللعبي صوت "السجين الذي كُنتُه/ وحيدًا في الزنزانة". وفي قصيدة "الرحيل" تراوده صورة عوليس العائد إلى إيثاكا وهواجس الشيخوخة، "بينما الرّحيلُ هذه المرّة/ بالنسبة إليه/ له رنينُ ناقوس الموت/ فلا تِيهَ هناك/ ولا أمل في العودة". هكذا يبحث الشاعر عن سيرته الذاتيّة في اليقظة والحلم، في الواقع والأسطورة، وفي توقه إلى الحرّيّة. يبحث عنها في المنفى أيضًا. ليس المنفى بالمعنى الجغرافي فحسب، بل منفى الروح التائهة الذي يحمله كلٌّ منّا في داخله. في حديثه عن سيزيف، يحكي اللعبي عن انتظار "بلا نافذة/ بلا نجمة بين العينين"، وعن الوهم "لإرباك وحش اليأس". يعود بنا إلى تلك الليلة التي غارَ فيها "السكّين في العنق". سكّينُ مَبعوثٍ "تفوح منه رائحة الشراسة/ التي ينفرد فيها الكائن البشريّ". إنّها صورة الكراهية التي تأتي من أزمنة سحيقة كأنّها وُلدت تَوًّا، ما يستدعي بناء ملاجئ تحمي منها على غرار الملاجئ التي تحمي من قصف الطائرات والأسلحة النوويّة.
ينظر عبد اللطيف اللعبي حوله ويرصد ما بقيَ وما انقرض، أو ما هو في طريقه إلى الانقراض، في ما يتّصل بالفصائل الحيوانيّة أو بالنوع البشريّ. إنّها نظرة إلى الإنسانيّة التي تتحرّك، أكثر من أيّ وقت مضى، على شفا سَديم. والحال هذه، كيف لا تمتلئ قصائده بالقلق؟ القصائد التي تتحرّك في كواليسها تحوّلات العالم المعاصر وتحدّياته، ومعها يتَغَيُّر المعنى الثقافيّ، ومن ضمنه معنى الشعر.
تُمسِكُ قصيدةُ اللعبي عَصَبَ الواقع اليوميّ وتأخذه إلى مكان آخر. ثمّ تلتفت إلى السلام كمن يبتهل إلى قوّة إلهيّة لا زمنيّة: "أيها السلام. أحِنُّ إليك/ نَحِنُّ إليك/ تَحِنُّ إليك/ هذه الإنسانيّة الضائعة/ وهذا الكوكب المعذَّب/ وحتى هذا الكون البعيد الغَور/ وغير المُكترث/ أيُّها السلام/ مُدَّ لنا يَدَك".
في هذا النشيد الشعريّ، يذهب اللعبي أبعد من السيرة الذاتية. يذهب في اتّجاه رسم المسار الداخلي للكائن. لكنّه لا يُخفي حسراته الكثيرة ومنها أنّه لم يتعلّم اللغات التي تسعفه على التحدّث الى النجمة والطيور، ولم يعش حياةً بديلة "عوض الحلم بها"، مع أنّه يؤمن بأنّ "الحياة الحقيقيّة غائبة"، كما قال "العابر الهائل بنِعال من ريح".
من هذا الموقع بالذات، يَحضر ما يتجلّى في الطبيعة ويجعل قلبَ اليائس المُنكسر مُفعمًا بالرجاء: شَغَفُ البحثِ عن المُطلَق، الأُنثى ومعها شمس الحبّ. تَحضر "صديقته الوفيّة القديمة/ الشجرة"، وبرفقتها النحلة والنملة. هذا الإحساس بالكائنات والأشياء يجعله أكثر تمسّكًا بها لفرط ما يشعر بأنّها مهدّدة بالزوال.
"حياة سابعة" هي واحدة من حيوات كثيرة. بين مُستَهَلّ المجموعة وكلمة الختام رحلةٌ لا تتوقّف. في ليل العالم اللّامتناهي، تحت سماء تومض فيها ملايين الكواكب والنجوم، يصبح للسفر معنى جديد وللطائر المُنهَك جناحان آخران. يقول عبد اللطيف اللعبي: "وداعًا أيّها الشاعر"، متمنّيًا له "سفرًا سعيدًا" إلى الوجهة التي اختارها، لأنّه يعرف، في أعماق نفسه، أنّ الوجه يغيب ويبقى جماله. ينطفئ المصباح ويبقى النور، النور الذي هو الاسم الآخر للشِّعر.
ليست هناك تعليقات