Page Nav

HIDE

Grid

GRID_STYLE

اخبار عاجلة

latest

بول فرلين: معاصرنا الرجيم؟

9 - أبريل - 2023  صبحي حديدي- القدس العربي في إحصاء شخصي، لا يُزعم أنه دقيق أو شامل، شهد العام 2023 صدور أكثر من 20 كتاباً على صلة بالشاعر ...



9 - أبريل - 2023

 صبحي حديدي- القدس العربي


في إحصاء شخصي، لا يُزعم أنه دقيق أو شامل، شهد العام 2023 صدور أكثر من 20 كتاباً على صلة بالشاعر الفرنسي بول فرلين (1844-1896)، باللغتَين الفرنسية والإنكليزية فقط، بين مختارات شعرية ومقالات ودراسات نقدية؛ ونحن في مطلع الشهر الرابع من العام، وليس في ختامه بالطبع. وهذا لافت ضمن اعتبارات عديدة، بينها حقيقة أنّ 157 سنة تفصلنا عن تاريخ صدور مجموعته الشعرية الأولى، الساخرة تحت أقنعة مأساوية؛ و179 سنة على نشر كتابه «الشعراء الملعونون»، الذي ضمّ أمثال آرتور رامبو وستيفان ملارميه وشارل بودلير وإدغار ألن بو (ثمّ فرلين نفسه في طبعات لاحقة!)، وكان بمثابة منعطف في تشخيص ملامح المدرسة الرمزية والشعر الحسّي المنعتق من قواعد الكلاسيكية والرومانسية في آن معاً.


وأن تلفت هذه الكثافة في الإصدارات أمر لا ينطوي على أيّ تقليل من قيمة شعر فرلين، أو انتقاص من مكانته وما لعب من أدوار محورية في حركات تحديث عاصفة شهدها الشعر الفرنسي خلال العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر. لكنها تحثّ، من جانب آخر، على التفكير مجدداً في موقع قصيدته، أو إعادة تلمّس ما يتبقى منها ويواصل الحياة في فاتحات العقد الثالث من القرن الواحد والعشرين. نعرف أنّ كاتباً حصيفاً مثل الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس، واسع الاطلاع على ثقافات الأمم، فضّل فرلين على كلّ من رامبو وبودلير؛ وساق من الأسباب ما يتجاوز الذائقة الشخصية إلى التثمين النقدي.

وعلى نحو أو آخر، في استئناس الدراسات النقدية التي تتعاقب عاماً بعد آخر وتستكشف شعر فرلين، في الوسع التساؤل حول احتمالات مقام الشاعر في منزلة بين اثنتين، وأكثر بالطبع: أنه يبدو معاصراً، في فنّ الشعر والتأمّل حوله والتنظير له؛ وفي سلوكه الشخصي، الصعلوكي والأبيقوري والمثلي والفوضوي، أياً كانت المقادير الوازنة في كلّ من الصفات السالفة. وفي هذا السياق تبرز مختارات فرلين «نساء رجال» التي ترجمها إلى الإنكليزية ألستير إليوت وصدرت مؤخراً طبعة جديدة منها في نيويورك ضمن منشورات «شيب ميدو». وتلك، كما هو معروف، نصوص كُتبت خلال الفترة بين 1888 و1891، وبقيت سرّية فترة طويلة لأنها عكست سويّة قصوى من التوصيف المكشوف للملذات والرغائب.

وافتراض المعاصرة لدى فرلين يمكن أن يتأسس، أوّلاً، على تنبّهه إلى بودلير في عمر مبكّر للغاية، إذْ جهد طويلاً لمواصلة تلك الأسلوبية الفريدة التي بشّرت بها مجموعة «أزهار الشر»، فأغنى الشعر الفرنسي بالكثير الجديد في مستوى الموضوعات والتقنيات، وحرّره من كمّ مماثل من الأعراف والقيود، وحقّق الرابطة الشاقة بين مالارميه ورامبو. كذلك انتمى فرلين إلى «الحركة البرناسية» دون أن تجرفه جمالياتها الرومانتيكية المطلقة ودون أن يكبح جماح الترميز الكثيف والتصوير التشكيلي للعالم المادي، وعاش حياة صاخبة وعاصفة ومشحونة بكل ما هو جدير بشاعر بوهيمي.

ولعلّ «الصداقة اللدودة» التي جمعته مع رامبو هي التفصيل الأكثر دراماتيكية، على مدار حياة كانت في كل حال متقلبة مضطربة صاخبة معذّبة. ففي أيلول (سبتمبر) من العام 1871، تلقّى فرلين رسالتين من رامبو، وصلتا من بلدة شارلفيل واحتوتا عدداً من القصائد (هي اليوم جزء من كلاسيكيات الشعر الفرنسي)، مع طلب بأن يبذل جهوده لمساعدة رامبو في المجيء إلى باريس. وعرض فرلين القصائد على عدد من أصدقائه، فشاطروه انطباعه الحسن عنها، وتحمسوا للموهبة التي تقف وراءها؛ فلم يتأخر، وكتب إلى رامبو: «تعال أيها الروح العظيمة العزيزة. نحن ننادي عليك، وننتظرك»، وأرفق بالرسالة مبلغاً من المال يكفي لوصول الفتى الشاعر إلى باريس.

وكانت ظروف طفولة فرلين، مثل طفولة رامبو، قد خلّفت الميول الواضحة نحو المثلية الجنسية، الأمر الذي أسهم في تكريس مشاجرات دائمة بينهما. وفي تموز (يوليو) من عام 1872 غادر الصديقان إلى بروكسيل، ثمّ إلى حياة تسكع أخرى في لندن هذه المرّة، وإلى دورة متعاقبة من الخصام والمصالحة والخصام من جديد، حيث كان الأمر ينتهي دائماً بشجار أشدّ عنفاً. في بروكسيل، صبيحة العاشر من تموز (يوليو) 1873، انخرطا في وصلة عراك جديدة أسفرت هذه المرّة عن طلقتين من مسدس فرلين: واحدة أصابت ساعد رامبو، والثانية ارتطمت بالجدار. وحين هرعت والدة فرلين إلى الغرفة، وجدت ابنها يبكي بحرقة ويتوسل إلى رامبو أن يطلق رصاصة على رأسه.

وكانت أطوار فرلين المتقلبة قد أفضت به إلى نزعة تديّن كاثوليكية، امتزجت برؤيا نبوية تجوس أركان هذا المجتمع: «المقيت، العفن، الخسيس، الأرعن، والملعون». وأمّا في ذروة صعود مجده وانتخابه «أمير الشعراء» الفرنسيين، فقد تكفلت أمراض الروماتيزم والسكري والسفلس وذات الرئة بالإجهاز على جسده، حتى لفظ أنفاسه الأخيرة بعد غيبوبة طويلة؛ فقضى كما يليق بشاعر بوهيمي غير عادي: وحيداً، عارياً، ممدّداً على بلاط الغرفة المظلمة الباردة.

وبصرف النظر عن الاحتفاء الدائم به، ليس عجيباً أن سلسلة «بلياد» الفرنسية المرموقة، حين نشرت أعماله الكاملة، لم تُدرج سوى ستّ فقط من قصائد «نساء رجال»؛ في دليل على أنّ ما يعاصرنا يظلّ، أيضاً، ذاك الشاعر الملعون الرجيم.

ليست هناك تعليقات