أنّى لنا أن "نقارب" القصيدة التي يكتبها شاعر يصرّح في إحدى قصائده بأنّ "كتابة القصائد مبارزة بالسّيف/ لا فوزَ فيها لأحد"...
أنّى لنا أن "نقارب" القصيدة التي يكتبها شاعر يصرّح في إحدى قصائده بأنّ "كتابة القصائد مبارزة بالسّيف/ لا فوزَ فيها لأحد". سبق لفيديريكو غارثيا لوركا، شاعر الإسبانيّة الأكبر، أن تحدّث في "جمال كلّ الأشياء الذي لا يُقاوَم" عن "السّيف الرّشيق" الذي لا بُدّ أن يمتلكه الشّاعر الحقّ، كي يقتل "ثور" الشِّعر الرّابض أمامه؛ أن يقتله "قتلًا نظيفًا"؛ أن يُسدّد الطّعنة النّجلاء ببراعةٍ لا تلتف إلى كلّ ما هو ثانويّ وفائض عن الحاجة! كلّ ما يهمّ، في تلك اللّحظة الحاسمة، لحظة الإلهام الشّعريّ، وقتَ التجلّي، هو تلك الضربة القاتلة وباقي الأحداث والشّخوص مجرّد تفاصيل زائدة!
ولكنّ زاغاييڨسكي لا يقتحم ملكوت الشّعر على شاكلة لوركا، مصارع الثّيران، وإنّما على شاكلة الخيّال (الجُوكي) الذي يقود حصانه في حلبة سباق، كما يقول في قصيدة عن جوزيف برودسكي، الشاعر الروسي الكبير، الحائز على جائزة نوبل سنة 1987. ثور لوركا الرّابض هو بالضرورة ثور بريّ لم يروّضه أحد؛ وحصان زاغاييفسكي هو، كذلك، حصان بريّ لم يمتط صهوته مِن قَبْلُ أحد! وساحة القتل النظيف، عند لوركا، ليست هي حلبة "الماتادور" راكب الحصان، حامل العصا، وإنّما حلبة "المايسترو" (الماتادور دي توروس) حامل السكاكين والخناجر، قاتل الثيّران؛ فيما يرمح حصان زاغاييفسكي في مضار لا نهاية له، كما يقول في القصيدة: "لا بُدّ للشّعر أن يكون كسباق خيول؛ / خيولٍ بريّة، والخيّالةُ قد قُدُّوا من مرمر، وخطّ النهاية غير مرئيّ يمتدّ محجوبًا في الغيوم". خطّ النهاية، عند لوركا، لحظة القتل، فيما هو لا نهائيّ، عند زاغاييڨسكي: يظلّ الشّاعر يطارد القصيدة إلى أبد الآبدين! ولكنّ ذلك لا يعني البتّة أنّ لحظة "القتل النّظيف"، عند لوركا، هي لحظة سهلة المنال ولا تحتاج إلى مطاردة شاقّة، قد تستمرّ إلى الأبد. فقد يفني الشّاعر الحقّ حياته يطارد بيتًا واحدًا من الشّعر الحقّ ولا يعثر عليه (ألم يقل محمود درويش، شاعر فلسطين الأكبر، ذات يوم، بأنّه مستعدّ لمقايضة كلّ شعره مقابل بيت واحد من شعر المتنبّي؟). لحظة الإلهام، عند لوركا، هي لحظة الدّويندة؛ اللحظة التي يتجلّى فيها الوحي لمصارع الثيّران كي يسدّد فيها إلى الثّور طعنته التي لا يقوم منها البتّة، ولكنها طعنة "القتل النظيف" التي لا تُسفك فيها الدّماء، فكثير الدّم يحجب الرؤيا ويعمي البصيرة، ولا بُد أن لقميص الشّاعر/مصارع الثّيران أن يظلّ أبيض من غير سوء، في مهبط الوحي، كي تمتلئ روحه بفيض الشّعر الأسمى.
بيد أنّ خيول البريّة، التي تركض في قصيدة زاغاييڨسكي إلى الأبد، لا ترمح هائمة على وجهها بلا غاية؛ فهي تبحث عن "الإشراق"، كما يقول في قصيدة تحمل العنوان ذاته. كما أنّها لا تركض في طريق مجهولة المعالم، حتّى وإن كان خطّ النهاية مجهول بالنّسبة إليها؛ وإنّما في طريق ركضت فيها، وما زالت تركض، منذ بدء الخليقة: طريق الشّعر المطلقة؛ "فالشّعر طريق ملكيّة/ تأخذنا إلى الأقصى". وليست بالضرورة أن تكون الطريق طريقًا أفقيّة إلى نقطة في الزّمن، بل يمكن أن تكون دائريّة في لحظة خطف، فالشّعراء يبحثون عن الإشراق― مثلما يقول في القصيدة ذاتها― "في ساعة رماديّة،/ في الظّهيرة أو في المداخن عند الفجر،/ حتّى في الحافلة العموميّة، في شهر نوڨمبر/ فيما ينعس قُربَنا قسّ عجوز". فلحظة الخطف، هذه، لا تختلف، في جوهرها العميق، عن تلك اللّحظة التي وصفها لوركا. فالشّاعر الحقّ يعثر على ثور الشّعر (بكافّة أشكاله وتحوُّلاته) رابضًا في أيّ وقت وفي أيّ مكان.
وفي بعض الأحيان تتحوّل طريق الشّعر الملكيّة، هذه، عند زاغاييڨسكي، إلى "متاهة دِلْفيّة"― حين تغدو الأرواح "أرواحًا ميكروسكوبيّة"، مثلما يقول في قصيدة "محادثة"― ويتحوّل إلى "متاهة دِلْفِيّة"، ويتحوّل الثّور اللُّوركِيّ إلى "مونيتور"؛ الثور الكريتيّ الذي نصفه إنسان ونصفه الآخر ثور، الذي يعيش في المتاهة التي صممّها ديداليوس، مفترسًا البشر متغذّيًا عليهم، راكضًا بين ممرّاتها، عاجرًا عن الخروج. هنا يغدو الشّاعر رديفًا لثيسيوس الذي قتل الوحش، حين جنّ اللّيل، بـ "السّيف البتّار" الذي وهبته إيّاه أريادني، ابنة الملك ماينوس. هنا، يتحوّل سيف لوركا الرشيق (سيف القتل النّظيف) وسيف المُسَايَفة الشّعرية لدى زاغاييڨسكي إلى "سيف بتّار"، ويغدو "مهبط الوحيّ" (حلبة مصارعة الثّيران عند لوركا، ومضمار سباق الخيول البريّة عند زاغاييڨسكي) إلى متاهة لا يخرج منها الشّاعر (بعد الظّفر برأس الثّور) إلّا بتتبّع مسار "الخيط" المربوط في أوّل المتاهة، فيتحوّل خيط أريادني الذي قاد ثيسيوس إلى الخروج من المتاهة إلى ذلك الخيط المربوط بذيل الحصان الذي يركض في قصيدة زاغاييڨسكي؛ فالشاعر يحتاج في غمرة انخطافه إلى شيء يردّه إلى عالم الحقيقة، على شاكلة الصّوفي في غمرة التجلّي. ويغد "خيط الخلاص" هذا، في متاهة الإلهام الشّعري، المنغلقة على نفسها في دائرة الزّمن، عند زاغاييڨسكي (حين يغدو الثّور الرّابض، في هذه اللحظة بعينها، ثورًا أبيض، على شاكلة الثّور الكريتيّ، بخلاف ثور لوركا، ثور مصارعي الثّيران، الذي هو بالضرورة ثور أسود) هو "بوّابة الذّاكرة" التي يخرج منها الشّاعر من الفناء إلى البقاء؛ البوابة التي تنشقّ فجأة فيرى الأشياء وقد دخلت في حالة سديميّة، كما في قصيدته "الصّور الظّليّة": "اهتزّت بوابة الذكرى فجأة فرأيت عربةً،/ أشجار دردار قرويّة: فأشتمّ الرائحة العذبة لروث الأحصنة . . . رأيتُ أمّي وقد ارتدت ثوبًا أزرق فاتحًا، لعلّه من حقبة ما قبل الحرب".
وفي بعض أحيانٍ أخرى، نرى الشّاعر وقد بات― في تعدّد أطواره واختلاف أحواله ومقاماته، بحثًا عن الإلهام الشّعري― أشبه بڨرجيل في جحيم دانتي، الذي قتل المونيتور (ثور الشّعر) بعد أن امتطى صهوة القنطور، الكائن الأسطوريّ الذي له جسم حصان ورأس بشريّ. هنا، يغدو الكائن الذي سوف يُمكّن الشّاعر من تسديد طعنته القاتلة، مريجًا من الإنسان والحصان؛ الحصان البريّ الرّامح في القصيدة عند زاغاييڨسكي. وهنا، أيضًا، يغدو الشّعر "شعرًا ضدّ الأبديّة"، مثلما يصرّح في قصيدته عن برودسكي. ولا يمكن للشعر الذي هو ضدّ الأبديّة إلّا أن يكون "صلاة". الصّلاة التي تُولَد من "الخواء"؛ فالشّعر، مثلما يقول في قصيدة "دلافين"، "يُولَد في بعض الأحيان من الخواء،/ فتبدأ في التّفكير بأنّ طفولتك قد تلكّأتْ هُنَا،/ هُنَا، بعيدًا عن شوارع مألوفة طويلًا―/ حيثُ لا يستطيع الغيابُ بعد كلّ شيء أن يحسب المسافة بالسّنوات الضوئيّة أو الكيلومترات". الشعر الذي هو ضدّ الأبدية بالضرورة هو شعر ضدّ الغياب. والغياب، هنا، في القصيدة، لا يعدّ الأيام ويقيس الزّمن، بل ينتظر، فالانتظار، في جوهره، ضدّ الأبديّة أيضًا (فالأبد لا انتظار فيه!). ينتظر الغياب بلا صخب كي يعود الشاعر، من رحلته بحثًا عن القصيدة، ليرى "أيّ شخص قد صاره". ينتظر ليقول له "ألا تذكرني؟ أنا طابع بريد من مجموعتك المحتجبة/ أنا الطّابع الذي أراك أوّل دلافينك على خلفيّة زُرقةٍ سديميّة خياليّة./ إنّني علامة السّفر. لا أتحرك". هنا، في هذه الخلفيّة السديميّة الخياليّة يغدو الشعر، كما يقول في قصيدة "مستحيل"، "رواقًا تتبدّد في الوجوه/ سديمَ ذهبٍ من أنوار كاشفة" . . . "حيث السرُّ الحقّ: حياة الآخرين". حياة الآخرين التي يطوف فيها زاغاييڨسكي في أحلامه، طوافَ الباحث عن نفسه، فيرى في شوارعها "صورًا ظليّة لأشخاص مجهولين، تمشي دون أن تطرح ظلّاً . . والموت يركب عربته العالية مُسرعًا، مُجلجلًا بالضّحك" (قصيدة "حدائق لوكسمبورغ")، ويلمح في ساحة البلدة العتيقة "وجوهًا كأنّها مكتبات كتب مستعملة فارغة" (قصيدة "فندق جديد") ثم تتسلّل إلى أنفه، حين يدخل إلى "مقهى في مدينة غيبة تحمل اسم كاتب فرنسيّ"، رائحةُ تلك المرأة التي عرفها ذات يوم؛ "رائحة شعرها عندما يحلّ الخريف" (قصيدة "مقهى")، ونراه هائمًا على وجهه، بعد عودته من جنازة أبيه، ذات يوم يصفه، في قصيدة "اللّامكان"، بأنّه "يوم بين قارّتَيْن"، حيث "الرّيح تتثاءب ككلب صيد الثّعالب"، فيتذكّر فجأة أبيات شعر لغوتفريد بنّ، الشاعر الألمانيّ الكبير، فتغمر نفسه المسرّة، كأنّه قد أنصت إلى موسيقى شوبان في تلك اللّحظة. هه الإقامة بين الألم والمسرّة هي الطريق التي سلكها زاغاييڨسكي، حين عاش متنقلّاً بين المدن، لا يلوي إلّا على الشّعر الذي لولاه لتحوّل "منفاه" إلى جحيم مقيم. فالشّعر، بالنّسبة إلى المهاجرين، مثلما يقول في مقالته "مدينتان"، يليق بالمهاجرين، أولئك غير المحظوظين الذي يقفون فوق هوّة سحيقة، بين الأجيال، وبين القارّات، رفقةَ حوائجهم البائسة". هنا، تتحوّل طريق الشعر الملكيّة إلى طريق المنفى الطافحة بالألم والمسرّة، طريق البحث عن "القصيدة المثاليّة"؛ "القصيدة التي تقيم على الحدّ الفاصل بين الحزن والفرح"، كما يقول في حوار أجراه معه رايان فان وينكل، نشر في مجلة "بريري شُونر" (2014)، ويتحوّل "مهبط الوحي" إلى شارع طويل، ويغدو "ثور الشّعر/ثور الإلهام الرّابض" مجرّد عود ثقاب يشعله الشّاعر في آخر اللّيل!
(تحسين الخطيب)
*****
قصائد مختارة
اختيار وترجمة: تحسين الخطيب
• الشعراء يعيشون في عصر ما قبل سقراط
يعيش الشعراء في عصر ما قبل سقراط. إنّهم لا يفهمون شيئًا.
ينصتون إلى همسات الأنهار العريضة التي تجري في الأراضي الواطئة.
يعجبون بالطّيور المحلّقة، وحدائق الضواحي الهادئة،
والقطارات التي تعبر بسرعة فائقة تخطف الأنفاس.
رائحةُ الخبز الطّازج السّاخن المنبعثة من مخبزٍ
توقفهم في الطرقات،
كأنّهم قد تذكّروا شيئًا حيويًّا.
جدولٌ جبليّ يخرخر، فينحني فيلسوفٌ إجلالًا للماء البريّ.
فتيات صغيرات يلعبن بالدّمى، وقطّ أسود ينتظر على أحرّ من الجمر.
السّكون الذي يخيّم فوق حقول أغسطس، حين تطير السّنونو.
وللمدن أيضًا أحلامُها.
يتجوّل الشعراء في طرقات ترابيّة. لا نهاية للطريق.
ولكنّهم يسودون في بعض الأحيان، فيتوقّف كلّ شيء كأنّ على رأسهِ الطّيرُ―
ولكنّ سيادتهم قصيرة الأمد.
يظهر قوس قزح، فيتلاشى الخوف.
إنّهم لا يفهمون شيئًا، يخطّون على عجَلٍ استعاراتٍ منعزلة.
يشيّعون الموتى، فتتحرّك شفاههم.
يشاهدون الأوراق الخضراء تُباغت الأشجار القديمة.
لقد صمتوا مديدًا، وها هُمُ الآن يترنّمون ويترنّمون حتّى تنشقّ حناجرهم.
• لقد رحل الشاعر العظيم
لم يتغيّر شيءٌ، بالطّبع،
في ضوء النهار العاديّ،
حين رحل الشاعر العظيم.
فما زالت عصافير الدّوري الرّماديّة
والزّرازير الرّشيقة تتشاجر صاخبةً
في أعالي أشجار الدّردار القديمة.
حين رحل الشّاعر العظيم،
لم تفقد المدينة إيقاعها، فما زال المترو
وعربات التّرام تبحث عن "حلقة مقدّسة" حديثة.
وفي المكتبة فتاة جميلة
تبحث سدىً عن قصيدة تستطيع تفسير ذلك كلّه.
وفي الظهيرة يصطخب الضجيج ذاته،
فيما يهيمن في اللّيل حشد هادئ،
بين النجوم― هَرْج أبديّ.
عمّا قريبٍ ستُفتح المراقص،
ستفتح اللّامبالاة―
على الرّغم من أنّ الشّاعر العظيم قد مات.
وحين نفترق لبرهةٍ مديدة
أو إلى الأبد عن شخص نحبّه،
نشعر فجأةً بأنّ الكلمات قد تلاشت.
لا بُدّ أن نحكي لأنفسنا الآن،
فلا أحد سيفعل ذلك من أجلنا―
فالشاعر العظيم قد رحل.
• دفاعًا عن الشّعر، إلخ.
نعم، دفاعًا عن الشعر، والأسلوب الرّفيع، إلخ. .
ولكنْ، أيضًا، عن مساءات الصّيف في بلدة صغيرة،
حيث تهبّ نسائم الحدائق وتجلس القطط هادئة
على عتبات البيوت، كفلاسفة صينيّين.
• صَدَفة
غنّى الرّهبان غناءً خفيضًا في اللّيل،
فرفعت ريحٌ عاصفة أغصانَ تنّوبٍ كأنّها أجنحة.
لم أزر المدن العتيقة من قَبْل،
لم أذهب إلى طيبةَ البتّةَ
أو إلى دلفي، ولا أعرف
ما قالته العرّافاتُ إلى المسافرين ذات مرّة.
ملأ الثلج الشوارع والأودية،
والغربانُ ذوي الأردية السّوداء قَصُّوا
أثرَ الثّعلب في صمتٍ.
لقد آمنتُ بالعلامات المراوغة،
بالأطلال المظلّلة، وأفاعي الماء،
وينابيع الجبال، والطيور النّبوئيّة.
نوّرت أشجار الزيزفون كالعرائس
ولكنّ ثمارها صغيرة ومرّة.
لا تُوجَد الحكمةُ
في الموسيقى أو الرّسومات البديعة،
في الأفعال العظيمة، البسالة،
وحتّى الحُبّ،
وإنّما في كلّ هذه الأشياءِ جميعًا فحسبُ،
في الأرض والهواء، في الألم والصّمت.
فربّما تحمل القصيدةُ صدى الرّعد،
كصَدَفةٍ لمسها أرفيوس
حين فَرَّ. يأخذ الوقتُ الحياةَ بعيدًا
ويمنحها ذاكرةً، ذهبيّةً ذاتَ لهيبٍ،
وسوداءَ ذات جمر.
• الشِّعر يبحث عن الإشراق
الشِّعر يبحث عن الإشراق،
الشّعر هو الطريق الملكيّة
التي تقودنا إلى الأقصى.
نبحث عن الإشراق في ساعة رماديّة،
في الظهيرة أو في المداخن عند الفجر،
وحتّى في حافلة عموميّة، في شهر نوفمبر،
فيما ينعس قُربَنا قسٌّ عجوز.
أجهش النّادل في مطعم صينييّ بالبكاء
ولا أحد يستطيع التّخمين لماذا.
من يعرف، قد تكون هذا الأمر ضالّة منشودة أيضًا،
كتلك اللحظة على شاطئ البحر،
حين لاحت سفينة قراصنة في الأفق
ثم توقّفت فجأة، وظلّت ساكنةً لبرهة مديدة.
ومثلَ لحظات المسرّة الغامرة
ولحظات القلق التي تُعَدّ ولا تُحصى.
دعني أرى، أسألُ.
دعني أثابر، أسأل.
مطر بارد ينهمر في اللّيل.
في شوارع مدينتي وطرقاتها
عتمةٌ هادئة دائبةٌ في أشغالها.
الشِّعر يبحث عن الإشراق.
• الشعراء مُصوَّرون
تُلتقَط الصّور الفوتوغرافيّة للشّعراء،
ولكن ليس حين
يَرَوْا حقّاً،
تلتقط الصور الفوتوغرافية للشّعراء
والكُتب في الخلفيّة،
ولكن ليس في العتمة البتّةَ،
ولا في الصّمت البتّة،
في اللّيل، في اللّايَقِينٍ،
حينَ يتردّدون،
حين يَعْلَقُ الفرحُ، كالفسفور،
بعلب الثّقاب.
الشّعراء يبتسمون،
مُتبحّرينَ، تغشاهم السّكينة.
تُلتقَط الصّور الفوتوغرافيّة للشّعراء
حين لا يكونوا شعراء.
حين نعرف
ما الموسيقى فحسب.
حين نفهم فحسب.
• نجمة
عدتُّ إليكِ بعد سنين،
يا مدينتي الرماديّة الرّائعة،
يا مدينتي التي لا تتغيّر
المدفونة في مياه الماضي.
لم أعُد تلميذَ
الفلسفة، والشِّعر، والفضول،
لم أعُد الشّاعر الشابّ الذي كتبَ
أبياتٍ كثيرة جدّاً
وتجوّلَ في متاهة
الشّوارع الضيّقة والأوهام.
سيّد السّاعات والظلّال
قد لمسَ جبهتي بيده،
ولكنّ نجمةً ما زالتْ
تقودني وما زال الإشراقُ
يقودني ولَنْ يحرّرني أو ينقذني
إلّا الإشراقُ وحده.
• في الطّريق
1. بلا أمتعة
حين تسافر بلا أمتعة، وتنام في القطار
على مقد خشبيّ قاسٍ،
انسَ مسقطَ رأسك،
واخرج من المحطّات الصغيرة
حين تنهضُ السماء الرماديّة
وتتوجّه قوارب الصيّد إلى البحر.
2. في بلجيكا
كانت السّماءُ تَرِذُّ في بلجيكا
والنهر يشقّ طريقه الملتويَ بين التلال.
خطر ببالي أنّني كاملٌ، في منتهى الكمال.
جلست الأشجار في المروج
مثلَ كهنةٍ في أردية خضراء.
وكان شهر أكتوبر يختبئ في الحشائش.
كلّا، يا سيّدتي، قلتُ
فهذه مقصورة الصّوم عن الكلام.
3. صقر يحوّم فوق الطريق السّريع
ستخيب الآمالُ لو انقضَّ
على لوح حديد، أو غاز،
على شريط موسيقى مبتذلة،
على قلوبنا الضيّقة.
4. مُوْنْ بْلَانْ (الجبل الأبيض)
يلمعُ من بعيدٍ، أبيضَ حَذِرًا،
كمشكاةٍ للظّلال.
5. سِيْجِيْسْتَا
في السّهل معبدٌ فسيح―
حيوانٌ بريّ
مفتوح حتّى السّماء.
6. صيف
كان الصّيف هائلًا، مبتهجًا بالنّصر―
فبدت سيّارتنا الصّغيرة ضائعةً
في الطريق إلى ڨردان.
7. المحطّة في بيطوم
في نفق المترو
تنمو أعقاب السّجائر،
وليس الأقحوان.
تفوح منها رائحة العزلة النّتنة.
8. متقاعدون في رحلة ميدانيّة
إنّهم يتعلّمون المشيَ
على الأرض.
9. نوارس
لا تسافر الأبديّةُ،
الأبديّة تنتظر.
في ميناء للصّيد
وحدها النّوارس تثرثر.
10. المسرح في تاورمينا
تلحظُ من المسرح الذي في تاورمينا
الثّلجَ على قمّة جبل إتنا
والبحرَ اللّامع.
إيّهما الممثّل الأبرع؟
11. قطّ أسود
يأتي قطّ أسود لتحيّتنا
كأنّه يقول: أنظروا إليّ
وليس إلى إحدى الكنائس الرومانيّة القديمة.
فأنا حيّ.
12. كنيسة رومانيّة
في قاع الوادي
ترتاح كنيسة رومانيّة:
ثمّة نبيذ في الخابية.
13. ضوء
ضوء على جدران البيوت العتيقة،
شهر حزيران.
أيّها العابر، افتح عينيك.
14. في الفجر
ماديّة العالَم في الفجر―
وهشاشة الرّوح.
• السيرة المختصرة والأعمال:
ينتمي آدم زاغاييڨسكي (الشّاعر والروائي والمترجم وكاتب المقالات البولنديّ الذّائع الصّيت، المولود بمدينة لڨوڨ الأوكرانيّة سنة 1945) إلى جيل 68، أو جيل الموجة الجديدة "النّوڨا فالا"، مثلما يُعرف في مدوّنة الشعر البولندي المعاصر؛ ذلك الجيل الذي ضمّ أمثال ستانيسواف بارانتشاك وريشارت كرينيتسكي ويانيش شوبر وإيڨا ليپسكا، الذي كان همّه الأساسيّ "الوقوف ضدّ تزييف الواقع واستباحة اللغة من طرف الإيديولوجيّة الشيوعيّة وماكينتها الإعلاميّة" في ذلك الوقت. هذا الجيل "المحشور" بين جيلَيْن من الشّعراء المكرّسين؛ جيل أولئك الذين ولدوا في العقد الأول من القرن العشرين، كألكسندِر ڨات وآنّا شفيرتشتينسكا وتشيسواف ميووش، وأولئك المولدين في عشرينيّات ذلك القرن، من أمثال تاديوش روجيڨيتش وزبيغنيف هيربرت وڨيسواڨا شيمبورسكا، المولدين في عشرينيّات القرن العشرين. وبقيت هذه النّزعة "الضديّة" ملازمة له― لا سيّما ضدّ "استباحة اللّغة"― طيلة مشواره الشعريّ، منذ أن نشر ديوانه الشعريّ الأوّل "بيان" في العام 1972؛ نزعة ضدّية "احتجاجيّة" تحوّلت في أعماله الأخيرة إلى نزعة "ضدّية تأمُّليّة. وعلى الرّغم من أنّ تشيسواف ميووش، الشاعر البولنديّ الكبير، الحائز على جائزة نوبل في الأدب سنةَ 1980، قد أثنى على "تمكُّن" آدم زاغايفسكي من "تجاوز" المرحلة التي كان فيها شعره منصبّاً، كليّةً، على الاحتجاج السياسيّ والاجتماعيّ ومقارعة السلطات الحاكمة في بلاده، إلّا أنّ نقّادًا بارزين، من أمثال ستانيسواڨ بارانتشاك (1846-2014) قد أشاروا إلى أنّه لا يمكن "اسقاط القرنية التاريخيّة من قصائد زاغاييڨكسي". منعت السّلطات تداول كتبه، بعد توقيعه على رسالة مفتوحة أرسلها 59 مثقّفًا (عرفت لاحقًا باسم "رسالة 59") احتجّوا فيها على التّغييرات التي أجراها الحزب الشيوعي في العام 1975 على دستور الجمهورية البولنديّة. هاجر في العام 1982 إلى باريس، ثم عاد إلى بولندا سنة 2002. له في الشّعر 14 مجموعة، منها: محلات الجزارة (1975)، ورسالة، قصيدة غنائيّة إلى التعدُّد (1983)، وقماشة رسم (1990)، ورغبة (1999)، وهوائيّات (2005)، ويد محتجبة (2009)، وعودة (2003)، وتبايُن (2014)، ومطار في أمستردام (2016). أبرز الجوائز التي نالها: جائزة أميرة أستورياس في العام 2017 أحد أهم الجوائز في العالم الناطق بالإسبانية، وجائزة هنريش مان في العام 2015، وجائزة نوستاد العالميّة للأدب المرموقة في العام 2004، التي تُعدّ الجائزة الأرفع مقامًا بعد جائزة نوبل في الأدب. (تحسين الخطيب)
ليست هناك تعليقات