( اختيار وترجمة: تحسين الخطيب ) إذا كان الصوت، بالنسبة إلى أوغو موخيكا Hugo Mujica، الشاعر الأرجنتيني المتصوِّف على الطريقة البوذية، هو “عري...
(اختيار وترجمة: تحسين الخطيب)
إذا كان الصوت، بالنسبة إلى أوغو موخيكا Hugo Mujica، الشاعر الأرجنتيني المتصوِّف على الطريقة البوذية، هو “عري الكلمات”، فإنّ الصمت هو الكأس التي تفيض بالحياة، والطائر المجنّح، الذي يشق الرخام، لامعًا في ذلك “العُري الذي بلا وعد”. صمت ماطر يلمع بسرّ مجهول في قسوة المسافة-مسافة “القُرب التي بلا لَمْس” المقطوعة بالأنفاس والحمّى.
إنّه الصمت المكتوب بعينين مغمضتين. والعصى التي لا تقود الأعمى إلى الضوء، بل إلى درب "الريح التي في الرّيح"، و"الرماد الذي في الذاكرة"، و"اللحظة وعماها الأبيض"، و"الليل الذي هو ليل آخر"، و"النجم الذي يسقط كأخدود في الصحراء"، و "العصافير التي تشق الشفق، وتحرث الفراغ"، و"المطر الأخضر على الغابة الشفّافة"، و"الشاطئ الذي ينتظر البحر"، و"الفم المفتوح تحت المطر"، و"الماء الغائر في الروح"، "والنهر الذي يغنّي بين الأحجار"، و"صلاة الله".
إنه صمت الظلّ الذي هو الأمس دومًا. الصمت الذي يمحو الغياب. صمت الكلمات إلى بعضها. صمت الكلمات وعزلتها التي هي القصيدة.
وليس الصمت هو خواء الأيام، بل العلامة التي يتركها على جدار الأمل. الصمت الذي هو حياة إلى حياة، ووردة مفتوحة كالشمس على الرماد. هو صمت المساء الخريفيّ الذي يضرب في صدر الشاعر، في البرزخ بين ليل وآخر، وفي غياب بين الحنين الذي لا يقود إلى مكان، والوصول الذي لا يفضي إلى حنين.
وما الصمت سوى الموت نفسه. الموت الذي هو غياب الموت نفسه. الموت الذي يريه الحياة. الموت/الصمت المرتعش في الملاءات، الصاخب في الغرف. الموت الذي يخلع ثيابه مساءً ويترك أثرًا في السرير. الموت الذي يفتح يديه، حين يعبر عاريًا دون أن يمرّ. الموت الذي هو الظلّ الذي ليس ظلّا، والعربة التي يقودها ثوران أعميان. الموت الذي هو وردة نفسه، وطفولة الذاكرة، والضوء الذي يمدّ جذوره عميقًا، وهو يصغي في وعد الصَّدفة الفارغة إلى ما تهمس به في أذنيه. إنه الموت الذي يتكلّم في الصمت، والعتمة الفضيّة التي كأنها ماء الليل، لا عتمة الكائن، بل اللغة التي يقولها الصمت في الجُمل المنسيّة. صمت الموسيقى في عزلة تتهاوى-عزلة الحجر المستيقظ، المقذوف في الهواء. الحجر الذي تفلقه زهرة صبّار وتشرب منه صفصافة على حافّة الصدى.
وليست عيناه اللتان تحدّقان فيه، بل هي شفاه الآخر التي تلفظ اسمه. إنه الطفل الذي يركض حافيًا في المسافة، مرتعشًا على حافة الحياة، يهدهد عزلة العالم في يديه.
ولد أوغو موخيكا في بيونيس أيريس سنة 1942. درس الفنون الجميلة والفلسفة واللاهوت. عاش خلال ستينات القرن العشرين بغرينتش فيلدج في نيويورك، وأمضى سبع سنين من حياته صامتًا في دير يحرّم على الرهبان الكلام، حيث بدأ كتابه الشعر هناك. جمعت أشعاره المكتوبة بين 1983-2011 ونشرت مجتمعة في كتاب واحد في العام 2011. إنه الطفل الذي يركض حافيا في المسافة، مرتعشا على حافة الحياة
• ريح في الريح
تهبُّ الريحُ
وتفتحُ أثلامًا في الفراغِ،
وتجعلُ
المحيطَ يموجُ في الصحراءِ.
تهبُّ
في ليلٍ ضُمَّ ليلًا،
في العُريِ
حينَ تتعرّى الروحُ.
مطر على مطر
في الأسفلِ،
على طاولةٍ، تحتَ
شجرةٍ عارية،
كأسٌ
تفيضُ بالمطر.
تفيضُ، وتسقط،ترسمُ بركةً صغيرةً،
مرآةً، وحياة.
• نغم
ليلةٌ باردةٌ
وبعيدًا في المسافةِ
امرأةٌ تغنّي
كما لو أنها تهدهدُ الحياة.
الصوتُ، لا الصمتُ،
هو عُريُ الكلمات.
مساء خريفي في داخلي
بعيدًا، بينَ الغيومِ
طائرٌ
يُجنِّحُ، كما لو أنّهُ يحرّرُ الطيورَ
بكلِّ خفقةِ جناحٍ، الطيور
التي تحرثُ الضباب.
مطرٌ يسّاقطُ،
نغمةً نغمةً، ويسقط على الغابةِ
حيثُ يولدُ الأخضرُ
وحيثُ يركضُ طفلٌ ثمّ يتبدّدُ
في المسافةِ.
مساءٌ خريفيٌّ
كلُّ ما هنالكَ قصيٌّ، وهُنا عدَمُ،
هنا حيثُ أخطُّ “المسافةَ”.
• بريق جديد فحسب
في مزهريّةٍ
طافحةٍ بالماءِ
أضعُ وردةً
وأدفنُ حياةً.
ثمّ أظلُّ هنا
أراقبُ
الخطوةَ التي لا تتأخرُ
لحياةٍ في طريقها إلى عدَمها،
مرورَ الوقتِ
في جرحٍ ينفتحُ.
لا شيءَ يتغيّرُ أمامَ عينيَّ
يحفظُ بريقًا،
بريقًا نديًّا،
كما لو أنّ الجمالَ الذي في هذي الوردةِ
آن لا يُرى
قد كانَ الموتَ نفسَهُ.
• في منظر آخر، دائمًا
في منظرٍ آخرَ يسقطُ الثلجُ
أبيضَ
على معطفِ رجلٍ عجوزٍ
لفَّ نفسَهُ
على مقعدٍ في حديقةٍ عامّة.
وفي غرفة أخرى تصيرُ الكأسُ كِسرًا
تضربُ الأرضَ
ثمّ تطفرُ الكسَرُ والشظايا،
وتسقطُ ثانيةً . . .
وبعد ذلك، دائمًا، يجفُّ
ما قد أُريقَ: النبيذُ،
والدموعُ، والثلجُ الذي على الحياةِ،
والقلبُ الذي في داخلِ الرّجل.
• قصائد
في البركةِ
تحكي النجومُ
تطيّرُ
الأرضُ
بخورَها الأرضيَّ
الكلمةُ
تُلقِي السّمْعَ إلى اللّيلِ
وكلُّ الأسماءِ
كلُّها
في طائرٍ متأخّر.
***
قريبًا
قريبًا جدًا
الأعمى يلوحُ منعكسًا
في دمعتي السّاكنة
قريبًا
أقربَ حتّى
في عينيهِ أرحتُ دمعتي
علّنا نستطيع أن نرى
***
صباحاتُ
لَيْلَك
في مداخنَ رماديّةٍ
قيامةٌ
ذليلةٌ
لكلِّ ليلٍ
احتمالُ
خلق الكلِّ ثانيةً
شيءٌ
مثلُ غفرانٍ.
***
كما لو أنَّ
مطارحةَ الغرامِ
في الجُرحِ
أَلم نولدُ
مِن آلامِ الآخرين؟
***
كالأعمى
ينادي الضوءَ
للرّعدِ
قوليَ المأثورُ
الذي الصّمتُ يُسمِّيهِ
***
في أَطْمَارٍ
كاملًا أمضِي
لا أحتاجُ إلى نَفْسِي
كأنّي
غابةٌ، صريعةٌ،
تصرخُ
لا تعرفُ أنّها تصرخُ
كملاكِ مرمرٍ
***
حمَلٌ مطعونٌ
يشربُ الوداعاتِ على شاطئِ
كلِّ حطامِ أفلاكٍ
نحتاجُ جميعًا إلى شخصٍ
مِنْهُ نموتُ
***
منَ النافذةِ رأيتُ الخريفَ
وفي الدّاخلِ لمْ أَرَ شيئًا،
ارتعشتُ
فالفراغُ ليسَ هُوَ الفراغُ
***
حينَ لا جدرانَ
ولا حتّى أصداءٌ
مطرٌ فحسبُ
يسقطُ
على الأبدِ
وحدَهُ الشحّاذُ ينامُ
على المقعدِ
كما لَوْ على كفِّ العالَمِ المفتوحةِ
***
حرونةٌ
نافذةُ
بيتِ الأعمى
آن ترى تُعتِمُ النظرةُ
***
طارقًا على بابِ
المنزلِ الفارغِ
لا لِيفتَحوهُ،
بل لأسمعَ نفْسي تنادي
ليست هناك تعليقات