في رثاء أستاذي وصديقي أندريه ميكيل، كبير المُستعربين الفرنسيّين، أُعيد نشر هذه الكلمة التي ألقيتها في حفل تكريمه في معهد العالم العربي في 30 آذار 2018.
حين ينظر المرء في مسرد أعمال أندريه ميكيل، وهو يضمّ ما لا يقلّ عن مئتين وخمسين مدخلاً، بين دراسةٍ علميّة وروايةٍ ومُذكّراتٍ وخواطر أدبيّة، لا يسعه إلّا أن يسأل نفسه كيف استطاع هذا الرجل أن يجمع موادّها، على تنوّعها، وأن يُشبعها بحثاً، وأن يُحرّرها، وقد يحتاج هو إلى سنواتٍ طويلة من عمره لقراءتها.
لم يًسعدني الحظّ بأن أكون من تلاميذ أندريه ميكيل بالمعنى الشائع، إلّا أنّي قرأت، وأنا بعد طالبٌ في كلّيّة الحقوق، كتابه الصغير عن الأدب العربيّ في سلسلة "ماذا أعرف" ، ومن بعده "الإسلام وحضارته" ، وهما كتابان أعدّهما ميكيل للجمهور الواسع لا للمُختصّين، ممّا حفّزني فيما بعد على الغوص في الجزأين الأوّل والثاني من مؤلّفه الأكبر، "جغرافيا العالم الإسلامي البشريّة حتّى منتصف القرن الحادي عشر" ، ثمّ في الجزأين الثالث والرابع حين صدرا. وقد عدت مراراً إلى هذا الكتاب منذ قراءتي الأولى، مُستعلماً عن موقعٍ جغرافيّ أو مرجعٍ تاريخيّ، وكنت أجد فيه ضالّتي. لم أكفّ أيضاً عن زيارة أعمال ميكيل الباهرة عن ألف ليلةٍ وليلة، وعن مجنون ليلى، فكان بما تعلّمته منه أحد ثلاثةٍ من المختصّين الفرنسيّين بالدراسات العربيّة والإسلاميّة - والآخران هما مكسيم رودنسون وكلود كاهن- تتلمذت على أيديهم سرّاً، إذا صحّ التعبير، وألهج دائماً بأفضالهم.
بيد أنّ أندريه ميكبل ليس مستعرباً فحسب، بل هو كاتبٌ مُبدعٌ أيضاً كما تشهد من جهةٍ أولى رواياته وتأمّلاته في الحياة ومجموعاته الشعريّة، ومن جهةٍ ثانية ترجماتُه الأنيقة العشرون أو أكثر، لنصوصٍ نثريّة أو شعريّة عربيّة، من كليلة ودمنة وألف ليلةٍ وليلة وما اختاره من دواوين الشعراء القدماء إلى نجيب محفوظ وبدر شاكر السيّاب. ولعلّ أكثر ما يُميّزه، حتّى عن المستعربين الذين يتمتّعون بذائقة أدبيّة رفيعة، هو سعيُه إلى تنويع مقاربته للموضوع الواحد، بين البحث العلميّ والإبداع الأدبيّ، بأسلوبٍ رشيقٍ في حالتيه. شغله على سبيل المثال مجنون ليلى، فخصّه في السنة نفسها، 1984، بدراسةٍ متأنّية، "الحبّ المجنون" ، وبترجمةٍ لبعض أشعاره، "الحبّ-القصيدة" ، وبروايةٍ أيضاً، "ليلى بصيرتي" . هذا قبل أن يُضيف بعد اثني عشر عاماً دراسةً في الأدب المُقارن، "قصّتا حبّ: من مجنون إلى تريستان" ، وينظمَ ترجمة جوزيف بيدييه المشهورة لأسطورة تريستان وإيزوت شعراً ، ويُترجم كُتيّب أوبرا فاغنر . ولم تكفه هذه الكتب الستّة فإذا به ينشر في 2003 ترجمةً كاملة لديوان مجنون ليلى يُشرّفني أنّها صدرت عن دار سندباد/أكت سود .
هذا كان دأبه في مقاربته المُقدّسي، صاحب "أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم"، إذ كان قد كتب عنه في شبابه الأوّل مقالات عدّة وترجم فصولاً من كتابه نُشرت في 1963 ، ثمّ صاغه بعد خمسٍ وأربعين سنة، في نصٍّ أدبيٍّ جميل تحت عنوان "فلسطينيّ في الطريق: العالم الإسلاميّ نحو العام ألف" . وهذا ما فعله بعد ذلك بكتاب "الاعتبار" لأسامة بن منقذ، فقد ترجمه كاملاً في 1983 ، ثمّ أعدّه للجمهور غير المُختصّ في 1986 تحت عنوان "أسامة: أميرٌ سوريّ في مواجهة الصليبيّين" . ولن أتكلّم عن ألف ليلةٍ وليلة، فأيّ استعراضٍ، وإن كان سريعاً، لعمله في ترجمتها بالاشتراك مع جمال الدين بن شيخ، ولدراساته الدقيقة عنها، يتطلّب صفحاتٍ وصفحات....
لم يتخلّ أندريه ميكيل في كلّ ما كتب، على غزارة ما كتب، عن موقفه الشريف من العرب، ومن المسلمين عموماً. أصفه بأنّه موقف الصديق الذي لا يُداهن صديقه، لا يغمِطه حقّه ولا يتماهى معه. حين اعتُقل في القاهرة في 1961، في غضون القطيعة المصريّة الفرنسيّة بسبب الحرب المستعرة في الجزائر، واتّهم بالتجسّس ظلماً وبهتاناً، دفعته تجربتُه المرّة التي رواها فيما بعد في كتابه " وجبة المساء" إلى تعميق معرفته بالعالم العربيّ لا إلى العزوف عن الاهتمام به، مُصمّماً على فهم الثقافة العربيّة الإسلاميّة والتعريف بها. قال ميكيل في حديث صحفيّ: "لو قرّرت آنذاك أن أنأى بنفسي عن الدراسات العربيّة الإسلاميّة لكان هذا اعترافاً منّي بأنّ الذين سجنوني مُحقّون في دعواهم الكاذبة. لذلك عزمت على أن أكون مستعرباً على الرغم منهم!". وهكذا قُدّر لميكيل، ولنا، أن يُصبح مستعرباً من طرازٍ فريد: أن يكون قادراً على استخراج أدقّ التفاصيل من خطاب الجغرافيّين المسلمين، وعلى تحليل النصوص الأدبيّة العربيّة وترجمتها إلى الفرنسيّة، وعلى غربلة إنتاج المستشرقين الأوائل في التاريخ والإسلاميّات والاستفادة من أحسنها حتّى لو لم يدّعِ يوماً أنّه مؤرّخ أو مختصٌّ بالدراسات عن الدين الإسلامي. أعتقد جازماً أنّ إيمانه المسيحيّ الكاثوليكيّ، وقد امتحنته ثمّ عمّقته تجربةٌ شخصيّة فاجعة، أسهم إسهاماً حاسماً في جعله أقدر من سواه على فهم إيمان الآخرين واحترامه، وعلى التطرّق بمودّة رزينة إلى حضارة الإسلام وأسباب ازدهارها وانكماشها على نفسها وانهيارها.
وأندريه ميكيل شاعر، مطّلعٌ اطّلاعاً وثيقاُ على التراث الشعري الفرنسي (وقد نشر في 1990 مختاراتٍ من شعر رونسار قدّم لها بعنايته المعهودة )، وهو المستعربُ الفرنسيُّ الوحيد، على حدّ علمي، الذي قارب شاعراً، وليس باحثاً فقط، تاريخ الشعر العربي برمّته. ولذا اختار، على النقيض من الأغلبيّة الغالبة من المُترجمين، أن يُترجم القصائد التي أحبّها نظماً موزوناً ومُقفّى. ولا شكّ في أنّ بيته الفرنسيّ، لضرورة الوزن أو القافية، لا يتطابق دائماً، كلمةً كلمة، مع أصله العربيّ، ولكنّ إيقاعه يستهوي القارئ الفرنسيّ الذي تعوّده، على غرار القارئ العربيّ وهو يقرأ القصيدة بلغنها الأصليّة وعَروضها. وفي الأنطوليجيّتين اللتين نشرهما ميكيل، الأولى "من صحراء العرب إلى حدائق الأندلس" ، والثانية " العرب والحبّ" ، بالاشتراك مع الباحث الجزائري حمدان حجّاجي، براهين كثيرةٌ على ما أقول إذ نشهد فيها ولادة القصيدة من جديد، فلا غرابة في أن يستمتع القارئ الذي يعرف الأصل بهذه الخيانة البريئة كما استمتع بها المُترجم قبله. متعةٌ عرفتها حين قرأت أوّل مرّةٍ، ثمّ نشرت في دار سندباد/ أكت سود، ترجمة ميكيل لأبي العتاهية وابن زيدون وأبي فراس الحمداني ، وخصوصاً مجنون ليلى.
أعود إلى سؤالي الأوّل: كيف استطاع أندريه ميكيل أن يُحقّق هذا كلّه، نعم كيف استطاع على الرغم من مشاغله الثقيلة في التدريس والإدارة، إدارة المكتبة الوطنيّة خلال أربع سنين، وإدارة الكوليج دو فرانس خلال ستٍّ أو سبع؟ يعرف جميع العاملين القدماء في المكتبات العامّة من أمثالي التقرير المسمّى "تقرير ميكيل"، وهو الذي تقدّمت به إلى وزير التعليم لجنةٌ ترأسها ميكيل، وندّدت فيه بالأوضاع المُزرية للمكتبات الجامعيّة، واعتبرتها "مناطقَ منكوبةً في المؤسّسة الجامعيّة، ومن خلالها في النسيج الاجتماعي كلّه". ويرجع الفضل إلى هذا التقرير في الجهود التي بُذلت طوال عشر سنين لتحديث هذه المكتبات بحيث تُلبّي احتياجات الباحثين والطلبة.
أشرت إلى غزارة إنتاج ميكيل وتنوّعه، ولم يكن في خاطري ما ألّفه في السنوات الأخيرة ونشر أغلبه في دورٍ صغيرة أنيقةِ الإخراج وقليلةِ التوزيع، من النجاوى الحميمة في "الشيخ والريح" عن منطقته الأثيرة في اللانغدوك، بالقرب من مدينة مونبلييه، إلى تأمّلاته الروحيّة في "الإيمان أو الحلم" ، إلى "محاورات بغداد" التي قرأتُها على أنّها احتجاج على ضلالات زماننا في الشرق والغرب، إلى مواجهة "أيام الشيخوخة" بما ينبغي من حكمة، إلى المجموعة الشعريّة المُستوحاة من الكتاب المُقدّس، "مزامير إلى البلاد" ، وغيرها وغيرها... ولعلّ أفضلَ ما أختتم به كلمتي عنه هذه السطور من الكتاب الأوّل، "الشيخ والريح"، ففيها صورةٌ أخّاذةٌ رسمها ميكيل لنفسه وهو في بداية شيخوخته الغنيّةِ بحصادها الأدبيّ، المسكونةِ بالذكريات:
" ... تهيّأ الشيخُ لعصف الريح قبل أن يقترب من قِمّة الجبل، وما إنْ بلغ أولى شُجيرات البقس حتّى ثبّت ما استطاع قدميه في الأرض ثمّ انحنى إلى الأمام. وحين انتصب بجسده كلّه، مستسلماً للريح مُجابهاً لها، سمّره الذهول في مكانه. كانوا على مقربةٍ منه، يُخفون عن ناظريه سفوح الجبال الممتدّة حتّى الأيغوال، كانوا على مقربةٍ منه، أبوه وأُمّه، ومعهما ابنُه الذي غاب وهو في ريعان الصبا. صرخ: أنتم! كنت أظنّكم موتى، كنت واثقاً من أنّكم موتى، ومنذ زمنٍ بعيد. قالوا: كلّا، لم نمتْ ما دُمت حيّاً. أغلق الشيخ عينيه، وغرق في أحلامه، طويلاً، طويلاً."