أحمد سعداوي- روائي عراقي
لا يرد ذكر بابل في القرآن الكريم إلا مرّة واحدة في الآية 102 من سورة البقرة، في المقطع الذي يقول "وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت"، وهي ربما الإشارة الوحيدة الى موضع العراق بالمجمل، قياساً بذكر اصقاع وبلدان أخرى، كما "مصر" التي ترد في القرآن خمس مرّات.
على أية حال.. لا يرتبط ذكر بابل في القرآن بأي معنى سلبي، وانما هو مجرد ذكر عرضي، يتعلق بالإشارة الى قصة الملكين الخاطئين. كذلك مصر كبلد لا ترتبط في القرآن بمعنى سلبي.
ولكن كتب التفسير والسير والحديث تزخر بالإشارات السلبية، فهي أرض السحر والسحرة، وهي أرض ملعونة. ولكن هذه الأخبار لا تخفي مركزية بابل في الوعي الجمعي لمنطقة الشرق الأوسط، ففي الحديث الطويل المروي عن تبلبل الألسن في بابل، والذي يرويه أنس بن مالك في الدرّ المنثور للسيوطي يرد هذا المقطع "كانَ اللِّسانُ يومئذٍ بابليًّ".
وفي هذا ما يشبه الاقرار بأن لغة التفاهم الدولية في العالم القديم كانت، في مرحلة ما هي اللغة البابلية.
أما أشهر الأخبار المنقولة عن ذمّ بابل فهو ذلك الخبر المروي عند السنّة والشيعة عن الامام علي بن أبي طالب أثناء رجوعه من قتال الخوارج فحان وقت صلاة العصر، ونبّه أحد المرافقين الامام الى موعد الصلاة ولكنه رفض الصلاة في ذلك الموضع لأنه أرض ملعونة، ويرد كلام الإمام بعدّة صيغ، حسب كتب الحديث، ومنها
"لم أكن أصلي في أرضٍ قد خسف اللهُ بها" [كتاب فتح الباري لإبن رجب]
"نَهاني حِبِّي صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ أن أصلِّيَ في المقبرةِ ونَهاني أن أصلِّيَ في أرضِ بابلَ فإنَّها ملعونةٌ" [كتاب التمهيد لإبن عبد البرّ]
أما أكثر الأخبار تفصيلاً فهو ما يرد في بحار الأنوار للعلّامة المجلسي:
"يا أيها الناس إن هذه الأرض ملعونة، وقد عذبت من الدهر ثلاث مرات، وهي إحدى المؤتفكات وهي أول أرض عبد فيها وثن، إنه لا يحل لنبي ولوصي نبي أن يصلي فيها، فأمر الناس فمالوا عن جنبي الطريق يصلون"
وحادثة امتناع الامام علي عن الصلاة في بابل هي السبب في رواية مرّد الشمس، لأنه جاز أرض بابل حتى غربت الشمس، ولما وصل الى موضع ما غير معلوم خارج بابل أرجع الشمس الى وقت العصر وصلّى مع أصحابه، ثم أمرها أن ترجع الى موضعها ليصلّي بعدها صلاة المغرب.
بعيداً عن اسطورية الحادثة، فإن أوجه الاعتراض على هذه الرواية كثيرة، منها؛ أن مصداق "أرض بابل" واسع جداً، بل أن كتب الحديث والتاريخ تكاد تطابق بين بابل والعراق كإقليم، وبعض المؤرخين يجمعون بابل مع الكوفة في إقليم واحد. كما في قول ابن مسعود : بابل أرض الكوفة، فكيف يعرف شخصٌ ما في ذلك الوقت الحدود الدقيقة لبابل عن سواها من الأقاليم المجاورة.
وعلى أغلب الظنّ إن مرور جيش الامام علي كان بالقرب من خرائب آثارية، وليس اجتيازاً لإقليم ذي ابعاد جغرافية محدّدة باسم "بابل". وفي الوعي الشعبي العربي العام في تلك الأزمان فالخرائب اشارة الى ممالك وبلدان وقرى غابرة هلكت أو خُسفت بها الأرض، وبسبب استحالة المعرفة التاريخية الدقيقة لما حصل مع هذه الممالك فإن أسباب خرابها توكل الى الله وحكمته وأسراره، خصوصاً حين يطلع العابر على جدران شامخة أو مزخرفة، تشير الى عظمة المباني وعظمة من صنعها ولا شكّ، فكيف ينتهي هذا البنيان المهيب الى الخراب؟ إذن، لا بدّ أن هناك قدراً ماحقاً تسلّط عليها.
نلمح إشارة الاعجاب الخفية ببابل، على سبيل المثال، في "تفسير كتاب الله المنزّل" للشيخ ناصر مكارم الشيرازي، الذي يقول في التعريف ببابل، في معرض سرده لقصّة ولادة نبي الله ابراهيم:
"بابل كانت من بلدان العالم المهمة، وتحكمها حكومة قوية وجائرة"
وعلى الرغم من تأثير السرديات الإسرائيلية في الموقف من بابل، وهي سرديات أساسية في التدوين الإسلامي، إلا إن رأيي الشخصي أن المسلمين الأوائل شاهدوا بأعينهم خرائب بابل، وهي ليست حكاية عن ياجوج ومأجوج، أو عرش سليمان، وكانوا يعرفون ـ أي هؤلاء المسلمين الأوائل ـ حينما دخلوا المدائن وأقاموا في الكوفة وما جاورها، أنهم يقيمون في أرض بابل التاريخية. وأنها أرض عظيمة ذات تراث وحضارة. ولكن اندثار هذه الحضارة ظل لغزاً بالنسبة لهم، والتفسير الأقرب والشائع؛ إنه أمر الله، وأن هناك معصية حصلت في هذه الأرض استحقت عليها العقوبة، والقرآن الكريم نفسه مليء بالقصص عن ممالك خسف الله بها الأرض بسبب معصيتها. ولكن الغريب أن القرآن لم يذكر بابل من ضمن هذه الممالك الملعونة.
بالتأكيد يمكن الاتكاء على حقيقة رفض الاسلام لأي عقائد سابقة، استناداً الى موقف توحيدي، ولكن هذه فرضية جوهرية لقيام أي دين، ولا تتعلق بالاسلام وحده. ونحن لا نتحدّث هنا عن عقائد البابليين، وانما الموقف من المدينة والبلد الذي سمّي على اسمها. ومن الواضح أنه لا يوجد موقف حدّي صريح من بابل داخل الإسلام، بالقوة نفسها التي يرد بها في التوراة مثلاً.