أتذكر جيداً اللحظة التي انتهيت فيها من قراءة رواية "مائة عام من العزلة".
كنت استعرتها من أحد الأصدقاء شتاء 1992، وظلت ترافقني على مدى يومين في كلّ مكان. أقرأ بحذر حتى لا تختلط عليّ الأسماء المتشابهة، وسرعة تدفّق الأحداث.
كان والدي يوصلني بسيارة عمله كلّ صباح حتى الباب الرئيس لمعهد المعلمين المركزي ببغداد، في منطقة صدر القناة. كنت أنزل هناك، قبل مجيء خطوط الطلبة والموظفين والمدرسين. لم يكن في بناية المعهد الأنيقة الواسعة سواي وأحد الفراشين الذي يرشّ الساحات المبلّطة بالماء لينظّفها.
جلست مواجهاً شمس الشتاء الدافئة، التي تضرب على جدران مكتبة المعهد، أراقب الكلاب في البعيد وهي تخترق فتحات في السياج الخارجي للمعهد، وتظل تلعب وتتراكض في الأرجاء، ثم تختفي حالما يزدحم المكان بالطلبة بعد ساعة.
هناك أكملت الصفحات الثلاثين الأخيرة من الرواية. رفعت رأسي مع آخر جملة حين غطّت عاصفة قيامية أرجاء ماكوندو لتفنيها وكأنها لم تكن أبداً. أغلقت الكتاب وسرحت بذهني، كان الطلبة يتدفقون، والصخب يتعالى معلناً بداية يوم دراسي جديد، وكان رأسي ما زال يصطخب بالأحداث المبهرة لرواية غارسيا ماركيز.
لم أرجع الى قراءة الرواية مرّة أخرى، ولكني من يومها، صار معيار القراءة في الروايات هو أن تُحدث عندي التأثير ذاته الذي صنعته "مائة عام من العزلة"، وكان هذا شرطاً قاسياً وغير رحيم!
قرأت في السنوات اللاحقة عشرات الدراسات النقدية التي تضع هذه الرواية في سياق تجربة أميركا اللاتينية اللافتة، والتي انبثقت الى العالم في ستينيات القرن الماضي مثل موجة عاتية، بعشرات الأسماء، صار يتقدمهم ماركيز فيما بعد.
استفدت بشكل خاص من تلك الدراسات اللاتينية المترجمة التي كانت تفحص لغة ماركيز بشكل عام، وهو أمرٌ لا يمكن استشعاره إلا لمن يقرأ رواياته بلغتها الأصلية "الاسبانية".
توصف لغة ماركيز، تأثراً ربما بالاميركي الشمالي العظيم وليم فولكنر، بأنها لغة باروكية، تحفل بزخارف القول والتشبيهات والبلاغة العالية، وما هو أهم أنها لغة مبالغات أكزوتيكية مفرطة. فكما أن أحداث قصصه ورواياته تحفل بالمبالغات، فإن تشبيهاته واستعارته اللغوية هي كذلك أيضاً.
شخصياً لم تكن العجائبية والفنتازيا هي الأكثر إثارة عندي في "مائة عام من العزلة" أو غيرها من روايات ماركيز. وإنما الغرائبية، وكذلك اللمسة الميتافيزيقية.
ليس طيران ريميديوس مع الشراشف البيضاء، أو إصابة أهالي ماكوندو بداء النسيان، وانما هيمنة النبوءات، والصورة التي تبدو بها ماكوندو وكأنها مجاز واستعارة عن العالم كلّه.
في العجائبية تستطيع اخراج المردة والشياطين، وتطيير التنانين التي تنفث ناراً. أما في الغرائبية فأنت تواجه حدثاً واقعياً، ولكنه نادر الى درجة تثير دهشتك.
العجائبية قد تكون جاءت لماركيز من حكايات جدّاته والقصص الشعبية الكاريبية، أما الغرائبية والميتافيزيقية فقد تكون جاءته من المعلّم الكبير خورخي لوي بورخيس.
في حزيران 1966، وبعد أن انتهى ماركيز من كتابة "مائة عام من العزلة" أرسل رسالة الى صديق له يقول فيها: أنه اشتغل على مدى سنوات كالحيوان في هذه الرواية، وهو بعد إن انتهى منها غير واثق من شيء سوى حبّه للتجربة، تجربة كتابة الرواية.
لم يكن ماركيز واثقاً من الرواية، لأنه كان يلج مديات جديدة، فعلى الرغم من كلّ الحديث الذي يمكن أن يقال عن المؤثرات والمصادر، ومنها ما ذكرناه آنفاً، فإن الميزة الأكبر؛ أن ماركيز أخذ كل العناصر التي تميّز أدب اميركا اللاتينية حتى ذلك الوقت ليندفع بها مخترقاً أرضاً جديدة مع روايته الكبيرة، ليتغيّر بعدها وجه الرواية في العالم تماماً.
.