رنا قباني كان فندقنا في باريس في برج مونبارناس- أحد أجد وأبشع المباني في المدينة وقتها. كانت الغرفة فيه باهظة الثمن، لا شك، رغم انها خلت من...
رنا قباني
كان فندقنا في باريس في برج مونبارناس- أحد أجد وأبشع المباني في المدينة وقتها. كانت الغرفة فيه باهظة الثمن، لا شك، رغم انها خلت من أي صفة رومانسية تشابه صفات الفنادق الصغيرة التي كانت تعج بها حارات باريس القديمة – التي لم يدمرها في القرن التاسع عشر مهندس «المدينة النموذجية الجديدة» وهو البارون هواسمان، حين أعاد تصميم العاصمة الفرنسية بفتوى من الإمبراطور، ولأسباب سياسية وعسكرية أكثر منها جمالية، كما أخبرنا إميل زولا في رواياته الوصفية
من تلك الحارات، التي بقيت على شكلها المتعرج والغامض منذ أزمنة ثورات البسطاء في القرون الوسطى، كان العشاق يمشون ببطء، تحت شجر الكستناء أو الصفصاف الذي ترك بعض أغصانه تمشط مياه نهر السين. كان الحمام يطير أمامهم، وكان يحط ويغرد، كما كتب محمود في إحدى قصائد الوداع لي، وهو يتذكر كيف تأملنا جمال الجسر ونحن نهيم على ضفاف النهر.
لم أفهم لماذا لم نكن نحن نبيت في مناخ مشابه، بكلفة أقل وبروح تشبهنا أكثر؟ سألته بفضول بريء، خرج من فم من كانت ما تزال غريبة على أسرار الثورة الفلسطينية، التي كانت تمثلها منظمة التحرير باحتكار سياسي ومادي تام، تتمركز كل قراراتها في شخص أبو عمار نفسه، الذي كان «معبود الجماهير» مثل كل الحكام العرب، رغم انه أراد ادعاء اختلافه التام عن كل سلوكياتهم الديكتاتورية. رد عريسي أن الفنادق التي تعجب «الأبوات» كانت من نوع فندقنا في برج كنت قد شبهته ببرج بابل. فضحكت بشكل تلقائي من هذا الرد، ولسببين: الأول كان طفوليا، فكلمة «أبوات» في اللهجة الشامية الأصلية، كانت تدل على نوع من «الفتة» الدسمة جداً، المصنوعة من المصران الغليظ وكرشة الخروف، التي كانت تحشى بالرز وباللحمة المفرومة والصنوبر وبالبهار الحلو. والسبب الثاني كان يحتوي مضمونا أعمق على ما أظن. فقد تذكرت في لحظتها أن عمي، نزار قباني، الذي مثل سوريا في الصين في فترة ما بعد الاستقلال، قد روى لي انه سافر مرة الى فيتنام الشمالية، لأنه كان على موعد مع ثائر مهم من الدائرة القريبة من القائد هوشي، الذي خاض حربه الأولى ضد المستعمر الفرنسي.
انتظر نزار قباني ضيفه في صالة استقبال الفندق المتواضع لمدة تزيد عن نصف ساعة، ولم يأت الرجل. فقرر الخروج الى الشارع ليدخن سيجارته، لأنه مل من الجلوس على كرسي من البامبو غير المنجد والمكسور. لكنه سرعان ما صعق حين وجد ممثل هوشي منه وهو واقف بقرب باب هذا النزل البدائي، بسترته القطنية الهزيلة، فاقترب منه فورا لكي يصافحه ويعتذر منه، «لماذا لم تدخل الى الفندق لتقابلني؟» حاول ان يستفسر الشاعر من الثائر، فجاء الجواب هكذا: «تعليماتي وتعليمات كل رفاقي هي أن لا ندخل أبدا الى اي مكان في هذا المستوى من الفخامة، لأن هذه الأمكنة لا تليق بثورة فقيرة تحارب مستعمر غني ومكار، يمكنه إغراء فلاح بسيط مثلي في لحظة طيش!».
تغير وجه محمود فجأة حين سمع هذا، وارتسم عليه مزيج غريب من الخجل والإعجاب والغضب في آن واحد. «هل تستهزئين مني أنا شخصياً، يا ترى، أم من الإنسان الفلسطيني بشكل عام؟» جاء رده العنيف. سالت دموعي قبل ان أدرك مقدار الوجع المشترك الذي كنت قد سببته، لم أقصد الإستهزاء من أحد بالطبع. لم افهم يومها ان الأمر كان أكثر تعقيدا من هذا الحديث العفوي الذي دار بيننا في مقهى هادئ على الرصيف، ونحن ننتظر عز الدين قلق، ليأخذنا كما وعد الى مطعمه المفضل، وهو المحل الشهير «اندروويه» الذي كان يفتخر ببيع كل أنواع أجبان فرنسا على الإطلاق. كميتها واختلاف طعمها والتنافس بين صانعيها جعلت الجنرال ديغول نفسه يتساءل، حسب قول شهير (وغير مؤكد، مثل معظم الأقوال المأثورة) ان كان بإمكان أي امرىء حكم بلد يصنع 246 صنفا من الجبنة؟.
ذهبنا الى المطعم المزدحم، ولتغيير مزاج زوجي ومزاجي انا، قلت لمضيفنا الرائع أنني لم أذق جبنة «الروكفور» من قبل، بل كنت أعرف عنها لأن جدي، توفيق قباني، قد عاد من فرنسا الى داره في حي الشاغور في دمشق، حاملا معه في جيب معطفه الباريسي الجديد، قطعة منها لزوجته. جدتي اشتهرت بطبخها الشاعري وبمونتها الأسطورية – ومنها «الشنكليش» الذي كانت فيه بعض خصائص «الروكفور» المتخمرة الحامضة. فبعد ان استحم وجلس تحت شجرة الكباد المزهرة، ناداها وطلب منها إحضار ما جلب لها في جيبه، ما بين هدايا أخرى من باريس. جدتي كانت معروفة بوسواس النظافة، الذي اعتبره أطباء اليوم مرضا من الأمراض العصبية. فقالت له: «أتريد الجبنة التي عفنت في جيبك أثناء السفر، ما شاء الله، والتي أفسدت معطفك الجديد برائحتها، وكامل الليوان أيضاً؟ أعطيت المعطف لابن حمال الحطب الطويل مثلك، فتهنى!».
تنهد جدي، وقال: «هاتيلي اذا مكدوس مع استكانة شاي، لو تفضلت، والحق على يلي بيتزوج أصلا ً، لأنه حين يفعل، يعلق مشنقته بيده!».
ضحك محمود من هذه السيرة، وأيقن أن حبل المشنقة جاءه مع هذه المراهقة الشامية التي كان قد تصور انها ستكون بمثابة خاتم مريح في إصبعه الصغير. «روح يا شيخ» قال له عز الدين، الذي كان يعرف تماماً ما هي المرأة السورية، اذ عاش على أرضها ودفن في تراب وطنها، الذي أحبه كبلده الثاني. «ما لك فهمان رأسك من رجليك!». عدنا الى الفندق بعد الغداء، وغاب عني محمود لمدة ساعة، رغم انه كان يريد النوم قليلا. ثم عاد وبيده هدية. «ليس لدي سعادة أوزعها على نفسي لكي أوزعها عليك أنت، وقد خطفتك من بيتك ومن أهلك ومن سريرك الضيق المضحك. فأقبلي مني هذا العطر الفرنسي كهدية. قالت لي البائعة انه مركب من القرنفل البلدي الذي كان ينمو في حديقتنا في البروة، وأبلغتني انه يسمى لحن الزمان». فتحت العلبة الصفراء الفخمة، لأجد أجمل قارورة من الكريستال، من تصميم الفنان المبدع رينيه لاليك، يتكون القسم الأعلى منها – وهو غطاء القارورة – من حمامتين تتلاثمان.
ظل هذا العطر هو عطري الأول خلال زواجي الأول من محمود، حتى قرر أن ينتقي لي عطرا آخر لسنين زواجنا الثاني، لكي نبدأ، كما تأمل، من جديد
ليست هناك تعليقات