Page Nav

HIDE

Grid

GRID_STYLE

اخبار عاجلة

latest

الوصول الى بيروت مع محمود درويش

رنا قباني  فتح مطار بيروت للمرة الأولى بعد الحرب الأهلية، وكنا من أوائل من وصل الى المدينة عن طريق السماء، التي كانت قد احتكرتها- ولسنين- ال...

رنا قباني


 فتح مطار بيروت للمرة الأولى بعد الحرب الأهلية، وكنا من أوائل من وصل الى المدينة عن طريق السماء، التي كانت قد احتكرتها- ولسنين- القذائف والصواريخ وبعض العصافير المهاجرة.

كنا قد ودعنا باريس بالذهاب الى معرض للرسام سلفادور دالي- بعد صراع عنيد مع محمود لإقناعه بذلك، لانه لم يكن وقتها يحب الدخول الى المتاحف ولا التصرف كسائح «أهبل»(كلمة كان يطلقها على كل ما يعكر مزاج الطفل الذي سكنه).

استسلم أخيراً، من كثر «النق» كما أصر، وقرر حين دخلنا المتحف أن يصمت صمتا كاملا خلال تجولنا بين اللوحات. فضلت ان أبتعد عنه وهو ما زال في حالة «حرد» فذهبت الى غرفة ثانية لكي أستطيع ان أستوعب ما أرى. بعد مرور ثلث الساعة لا أكثر، وجدت زوجي يمشي نحوي، ليقبض على يدي ويهمس في أذني بنبرة عصبية: «تعالي معي!» فظننت أنه قرر الخروج الفوري من المبنى. ولكنني كنت مخطئة، فعلى العكس تماماً، مشى وهو يسوقني بإصرار حتى أوقفنا أمام لوحة معينة- لم تكن من لوحات دالي الشهيرة، كساعاته الذائبة مثلا. 

كانت الصورة التي شدت محمود قد رسمت في عام 1931. تبدو فيها فتاة لا يرى الناظر إلا رقبتها ورأسها المنحنيين حزناً، لان أكثر جسمها غرسه الفنان في رمال صحراء قاحلة، إلا من بعض الصخور البعيدة والغريبة الأشكال. أطلق دالي على هذا العمل عنوان «الندم».

نظر محمود الى وجهي كمن يريد قراءة مستقبلنا المشترك فيه، ثم تنهد وقال: «الرمل سيلفك هكذا، وستندمين على إرتباطك بي! فهذه الصخور التي ترينها أمام عينيك هي مصيري الأبدي. لا يمكن أن ينبت عليها ما تحلمين به من ورد جوري». 

أذهلني كلامه، وإنفعاله أمام اللوحة، فقلت وكأنني لم افهم مأساة الرسالة: «عشت بقرب غابات خط الإستواء، وعلى شواطىء أجمل البحار، وفي مدن غربية عظيمة، فلنجرب معا الصحراء إذاً!» طبعا، لم يكن جوابي ملائما لقصده العميق. مع أنني ارتجفت خوفا من فراسته الفطرية، أردت ان أخفف من قلقه ما استطعت.

أظن أن قصيدة «الرمل» كانت قد تشكلت في خاطرته في تلك اللحظة الحزينة. كان العشق يسكننا وقتها، ومحمود عبر عن خوفه من خيبة أمل كان متأكدا أنها ستنتابنا في حياتنا اليومية المقبلة، بأجواء ثورة ذكورية سيريالية، كان أدرى مني انها ليست بمستوى الحلم الفلسطيني المحق الذي كنت أتخيله ببراءتي الرومانسية آنذاك (وقبل ان تصفعني الأخطاء الخطيرة التي ارتكبتها فئات من الثورة السورية في صراعها العصيب ضد الاحتلال الأسدي الوحشي).

«أرى في ما أرى النسيان، قد يفترس الأزهار والدهشة،

والرمل هو الرمل. أرى عصراً من الرمل يغطينا،

ويرمينا من الأيام.

ضاعت فكرتي وإمرأتي ضاعت

وضاع الرمل بالرمل».

 بذكائه الخارق، ومعرفته بنفسه التي كان دائماً يحاول طمسها لكي توجعه أقل، كان يعلم محمود أن ضعفه أمام مجتمع «الأبوات» المرفه، الذي أدخل عليه حين قرر ترك فلسطين ثم روسيا ثم مصر، جعله سجين نمط معين من الحياة ومن الناس، تماماً كما أصبح سجين غربته عن الجليل. فقد قبل أن يوضع كتمثال من مرمر نادر في صميم ديكور «الكيتش» الذي ابتكره أبو عمار. ربما قبول محمود بذلك- ولسنين قبل أن يحرر نفسه ويستقيل- كان  لكي ينسى فقر المخيم والنزوح، أو ليزيل عنه الوحدة التي لم يكن يتحملها أبداً، إلا أثناء ساعات الكتابة، حين كان يحتاج لعزلة تامة، ولموسيقى كلاسيكية يبزغها الفونوغراف الذي جلبه معه من روسيا حين جاء «ليستقر» في لبنان، مع كثير من الاسطوانات التي انتقاها هناك.

حطت بنا الطائرة في مطار بيروت، وصفق الركاب بحب حقيقي، وسالت دموع الكثير منهم. كنا لا نكاد نصدق أن حرب لبنان الإجرامية قد بدأت في الإنتهاء. (أعرف الآن ما لم أعرفه وقتها، بان شعورا مماثلا سينتاب السوري حين يعود الى بلاده الجريحة الصابرة، لحظة تحررها من حكم عصابة حرقت المدن والأجساد الحية والقلوب، وصنعت بعبع التطرف في جحيم سجونها، بالتخطيط المريع مع الإنتداب الإيراني).

وضعنا حقائبنا في «التاكسي» وتوجهنا الى منطقة الحمراء في بيروت «الغربية» لان المدينة بقيت مقسومة طوال إقامتنا فيها. التضاريس تغيرت في يومنا هذا، لتستبدل فقط بطائفية من نوع آخر وقتل وتفجير يذكر بعنتريات ميليشيات الماضي الجزارة، مهما كان انتماؤها. في الطريق، والسائق يســـتمع الى أغنية «توبة» لعبد الحليم حافظ (والتي ستصبح النشيد الصباحي الذي كان يغنيه لي محمود حين كنت أدخل عليه بقهوة الصباح، لأجبره على الإستيقاظ رغما عنه، لكي يتوجه الى مركز الأبحاث الفلسطينية حيث كان يعمل، ولأذهب أنا الى جامعتي)، كاد أن يغمى علي من حجم الدمار الذي رأيته يمر أمامي من النافذة. رحلتي الأخيرة الى بيروت في سنة 1973 كانت قبل ان تبتر أطرافها بالشـــكل الذي لم تستوعبه عيناي.

وصلنا الى مبنى دبوس، وأبلغني محمود حينها انه يسكن في الطابق الثامن، وأن الكهرباء مقطوعة منذ أكثر من سنة. فحملت إحدى الحقائب الثقيلة، وبدأت في الصعود الى حياتي الجديدة، ليبلغني، على عتبة الطابق الرابع وهو يلهث، أن الماء مقطوع منذ وقتها أيضاً، والتدفئة غير موجودة. 

فنظرت اليه، وجلست على حقيبة من الحقائب، وبدأت بالضحك. فلم يعرف ماذا يفعل، فجلس هو الآخر على حقيبة، التي كانت قد أصبحت وطنه، كما ستصبح وطني، وأشعل سيجارة، وابتسم ابتسامة من عرف كيف تحكى النكتة!

ليست هناك تعليقات