رنا قباني
لا أعرف كيف وصلت إلى المطار، ولا كيف دفعت للسائق الذي كان يستمع بإمعان لشريط يخشخش من قدم التسجيل، عليه أغنية لأم كلثوم اسمها «تبعيني ليه» غنتها في صباها، حين كانت نبرة صوتها ما زالت أقرب إلى «سوبرانو» يتمتع بالخصائص الصارمة التي تعلمتها من المنشد الريفي الضرير الذي دربها على تلاوة آيات القرآن الكريم في صغرها، قبل ان ترتدي ثياب الصبية لكي تحاول إخفاء أنوثتها، وترافق والدها وأخاها إلى المآتم القروية، لكي يؤدوا معا سورة «يس»، ويكسبوا بعض ملاليم الزكاة لترقيع فقرهم القاسي. لم تكن كمنجات عبد الوهاب المسروقة من تراث موسيقي روسي وألماني قد دخلت على الخط في هذا المنعطف من حياتها الطويلة، ولا غيتار عمر خورشيد الكهربائي «الصرعة» الذي أدمن عليه جيل كامل من العشاق فيما بعد.
و نحن نخرج من شوارع بيروت الضيقة المزدحمة إلى هدوء اوتوستراد المطار امتلات أذني بنغم تخت عربي أصيل، يئن فيه القانون الشرقي ويبكي عود الفرات. أحزنتني الأغنية، وأشعرتني بذنب كبير، كأنما محمود درويش نفسه يعاتبني من خلال كلماتها، ويعود ليسألني بإلحاح: «كان ذنبي آيه؟» فقد تركته ورائي مع قطتنا البيضاء المدللة التي كبرت وأصبحت تملكنا، لأمضي عكس كل تمنيات قلبي باسم مثاليات لم تكن موجودة إلا في الخيال ربما، كما حاول ان يعلمني الزمن الفاسد في السنين المقبلة، ورفضت قبول ذاك الواقع المؤلم، مثل الفرس العنيدة التي ترفض السرج الثقيل مهما كان مزخرفاً ليخفي حقيقة معناه.
حين تركني السائق في المطار شعرت بضياع وقلق وجداني لم يفارقاني منذ ذلك الحين، الضياع والقلق اللذان كان محمود يعاني منهما منذ سن السابعة، حين نزح بذعر جماعي عن داره الحجرية في قرية البروة، التي نسفت بعد ساعات، لتمحي آثارها من الأرض جرافات المحتل الغازي. أسأل نفسي – وأنا أخط هذه السطور بعد مرور أربعين سنة على ذلك اليوم، إنْ كان هناك إنسان يحب وطنه وأرضه بعمق وثبات وضمير في منطقتنا التي دمرها الديكتاتور المتوحش، والإرهابي الرهيب، والطائفي، والمرتزق، والحرامي، والعميل – لا يشاركني هذا الضياع وهذا القلق، عربيا كان أم كرديا، آشوريا، أم أمازيغيا، يهوديا أم مسيحيا، مسلما سنيا أو شيعيا أو ملحدا. دخل عالمنا في الذاكرة لأنه محي على أرض الواقع، ومن الذاكرة، فقط علينا ان نعيد بناء ما نريد وما نحب، مثل شعوب الأرض الأخرى التي خرجت من حروب وثورات وكوارث طبيعية وأوبئة، لكي تنال مكانها أخيراً تحت الشمس. فننا بقي ليدل علينا، وشعر محمود بنفسه الملحمي وبتفاصيله الصغيرة والدقيقة البديعة حمى مأساة شعبه من النسيان أكثر بكثير من كل أسلحة الفصائل الفلسطينية المتضاربة المتشاجرة أو صواريخها.
كانت حقيبتي شبه فارغة لأنني لم أخذ من بيته سوى جزء من ثيابي، وتركت كل شيء ورائي، حتى قارورة العطر والمرآة ذات الإطار الزجاجي الزهري اللون التي اشتراها لي من صنع يد مدينة البندقية. وتركت أكثر رسائله التي كانت تعيش في الدرج الخشبي (مع مصحف جدتي الصغير) على جهتي من السرير الزوجي مكتوبة بحبر بني (لأن هذا كان لون عيني، كما قال)، على ورق رقيق مثل كلماتها.
وقفت بالدور لكي أعطي الموظف بطاقة السفر والحقيبة، ثم أتممت مراسم الخروج من بلد كنت قد وصلت إليه منذ عشرة أشهر فقط بصحبته. توجهت إلى صالة الانتظار لكي امتطي طائرة روما، التي كانت عاصمة محمود المفضلة آنذاك، حيث قضينا معاً اجمل الأيام، نتمشى في شوارعها عند العصر، ونرى تحفها الأثرية، ونجلس أمام تماثيل غطاها الزغب الأخضر بعد قرون من المطر، قبل ان نأخذ القطار إلى مدينة بولونيا، حيث كان يدعى محمود مرارا لقراءة الشعر من قبل حزبها الشيوعي هناك، مثله مثل الصلصة ‘الراغو’ الشهيرة، التي كانت تؤكل مع المكرونة التي جاء بها ماركو بولو من الشرق، أما من الصين، وأما من مطبخ قصر «توبكابي» في الدولة العثمانية.
وصلت إلى مطار روما وأنا ارتجف، فاتصلت بأهلي من هناك لأخبرهم أنني في طريقي إلى واشنطن. و لم أبح بأكثر من ساعة وصولي لأنني لم أعرف ماذا أقول حين سمعت صوتهم.
نمت من الإرهاق في الطائرة، لم يكن أحد بجانبي لكي يغطيني بحرام صوفي من ملك شركة الطيران الذي كان يستخرجه محمود من كيسه البلاستيك كلما سافرنا معاً، لكي لا أبرد من شدة التكييف، ولأنه كان يريدني ان أصمت قليلاً لكي يتصفح الجرائد، ليبحث فيها عن ضوضاء من نوع آخر. هبطت في عاصمة الولايات المتحدة لأرى والدتي في انتظاري. ابتسمت وقالت «شو ها المفاجأة،» بدون أي تعليق آخر. ثم وصلنا إلى الدار التي كانت حديقتها مليئة بزهر «الأزاليا» فاقع اللون، وبفلة كان والدي زرعها من بذور أتى بها من دمشق، ولكنها لم تزهر ابداً بالرغم من كل جهوده، وكأنها رفضت ان تتغرب عن الديار أو بلكون بيوت الشام. حين دخلنا رن صوت الهاتف، ورفعت السماعة لأجد صوت محمود يطلب مني ان أعود فوراً. قلت له انني وصلت من دقائق فقط، ولا أريد العودة الآن. فقال لي بقسوة تدل على جرح عميق في النفس، ومن حوله أصوات ذكور تشجعه على ذلك: «إذن سأبعث لك بورقة الطلاق في البريد المسجل»، لأن كبرياءه لم يرد الانتظار لحظة، وخاف ان استعمل العصمة وأطلقه أنا.
وفعلاً وصلت الورقة بعد أسابيع، وكان الظرف عليه اسم والدي فقط الذي اعتبر ذلك صفعة على الوجه لم يستطع ان يسامحه عليها لمدة طويلة.