رنا قباني
جلسنا في مقاعدنا على متن الطائرة الليلية المتوجهة الى باريس، وقبل أن نربط الأحزمة – كما دعتنا ان نفعل سيدة فرنسية شقراء، ملت من إعادة الجملة نفسها طوال سنين عملها- انحنى محمود ليضع تحت قدمي علبة من الكرتون السميك، فيها ماكينة مطبخية لهرس اللحم، كان قد حملها بشيء من الشقاء لثقل وزنها في الممرات الطويلة لمطار «دلس» في واشنطن، دون ان يعرف ما تحتوي. كنت قد اشتريتها بسرعة من متجر هناك (حين التهى عني ليدخن سيجارته الأبدية ويتصفح مجلة ما) لانه كان قد قال لي – خلال الحديث القليل الذي دار بيننا قبل ان نعقد قراننا ـ ان أكلته المفضلة هي «الكبة النية». مع ان حبا حارقا وزواجا فوريا جمعنا، كنا لا نزال بمثابة غرباء ـ لم نعرف بعد تضاريس الآخر، مثل عرسان عصور مضت، حيث كان العاشق لا يرى المعشوق بتمعن دقيق الا ليلة الزفاف.
لم يعرف زوجي الجديد ماذا كانت تحتوي العلبة، ولم يسألني حتى. لكنه اقترح ان أضع رجلي عليها لكي لا تتورما أثناء السفر. «ستكون رحلة طويلة» قال لي بارتباك الطفل، وكأن هو وحده المسؤول عن حجم هذا المحيط الحبري اللون الذي انسكب تحت شباكنا، والذي استعدينا ان نقطعه معاً للمرة الأولى، بكثير من الخجل وبشيء من الصعوبة، اذ كان الكلام ما زال قليلا بيننا.
بدأت أفكر في كل ما تركت ورائي، لأذهب بصحبة هذا الرجل المجهول الى حرب أهلية سيأخذني اليها في بيروت، فأحسست بشقاء يغمرني، ورهبة. أحس بحزني على الفور (وكيف لي ان أنسى، رغم مرور 42 سنة على تلك الكلمات) تفاصيل وجهه الحنون حين طلب مني ان أضع رأسي على كتفه، واحاول ان أنام وهو يغطيني بـ «حرام» صوفي «مختم النقشة» طلبه من المضيفة.
ما كنت أدري وقتها ان محمود كان يدمن السفر: يعرف تفاصيله الشاردة والواردة، يتحايل عليه ليخترع طرقا جديدة تجعل كل رحلة من الرحلات الروتينية لا تخلو من الإثارة. ولم أدرك يومها أن الإدمان نفسه سيعديني (الذي قتله بالأخير، والذي ماتت شهوته عندي لحظة ما أختفى) لأدور العالم معه، من سمرقند الى صوفيا، الى مدن المكسيك، الى جزر اليونان وقرى أرمينيا وكهوف الأندلس، المليئة بغجر مثلنا وبغناء ذي بحة أليمة.
هبطت بنا الطائرة، وانتظرنا في الصف الطويل الذي يؤدي الى علبة زجاجية، يقطنها من سيقرر ان يدخلك بلاده أم لا.
بدت على محمود علامات الاضطراب الممزوجة بالغضب وبكثير من السخرية التي كانت من مواصفاته الأساسية. «لا أحب هذا المكان» قال لي بصوت أعلى مما لاحظ. «فهنا سيطيب لموظف صغير ان يصب احتقاره واستكباره وعقده على لاجئ بريء، لم يطلب ان تسلب منه الهوية». ماذا كان يعني، يا ترى، بكل هذا العنفوان؟ أخذت بالتساؤل. كنت وقتها لا أخاف ذل السفارات ولا المطارات ولا الدوائر الرسمية في أي مكان في العالم. كان لي جواز سفر أصليا «خنج» في حقيبة يدي، عليه الختم المطلوب، أعيره الإهتمام نفسه الذي أعير قلم الحمرة الجديد فيها؛ وأقل أهمية بكثير من مسبحة جدي العثمانية الصنع، والملضومة بحبات مرجان صغيرة، التي لم أكن اقدر ان أسافر من دونها (لتضيع مني يوم تركت شاعري للمرة الأخيرة).
وصل الدور لنا، فوقفت مع محمود عند الحاجز الزجاجي، وقدمت للموظف جوازي السوري (الذي كان ما زال ينال قدرا لا بأس به من الاحترام، بعد 6 سنوات فقط على مرور الطغيان الأسدي، قبل ان يحوله حكم تلك المافيا العائلية التي تخصصت بالإرهاب والإجرام والسرقة والقتل، الى «شرطوطة» لا تسبب لحاملها إلا الذل والتعتير وعدم القدرة على العمل لملايين من السوريين). والوقت قد فات ـ وكم يحزنني ان الوقت قد فات؛ لأعتذر من محمود عن غبائي ذاك، وعدم قدرتي حينها على استيعاب ما هو المعنى العميق لذل يفرض على شعب بأكمله.
حين تحررنا أخيراً من تحت مجهر الهجرة والجوازات، وجدنا الحقائب تدور دائخة من طول انتظارها على الحزام المطاطي، وخرجنا لنرى أمامنا رجلا فيه مواصفات الفيلسوف والطير، واسع الجناحين في آن واحد، كان اسمه عز الدين قلق. أخذ محمود بالأحضان، ثم استدار إلي وقال: «لا بد ان تكوني جائعة» بلكنة دمشقية واضحة، اذ انه كان خريج مدارسها وسجونها السياسية وجامعتها، قبل ان يصبح اقدر وأذكى ممثل فلسطيني على الإطلاق. أحبته فرنسا لانه عرف كيف يخاطبها بلغتها وبمنطقها وان يخجل يهودها من أعمال العنف التي ترتكب باسمهم في اسرائيل (ودفع ابهظ الأثمان لهذا السبب، حين قتله طالب فلسطيني من من ساعد، دون ان يعرف انه ينتمي لمجموعة ابو نضال الإرهابية الدنيئة، وحصل هذا بعد سنتين فقط من تعارفنا).
«العشاء سيكون من الضفادع فقط» قال وهو يضحك على الذعر الذي ارتسم على وجهي بسبب اقتراحه، «ثم سنذهب الى منطقة عالية من المدينة، اسمها (مونمارتر)، لكي نجلس في قهوة (القط الأزرق)، حيث كان يأكل بيكاسو في أيام فقره الشنيع، لكي تشاهدي ليل باريس من هناك». وهكذا أخذ بيدي بدون أي إذن من محمود، لانه اعتبرني طفلة مدللة وجاهلة ـ مثل أليس في بلاد العجائب ـ وانطلقنا الى مشوارنا على بساط ريح فرشه لنا هذا الرجل الساحر، الذي ما زالت تدمع عيني عليه، حتى وأنا أخط هذه السطور.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق