أحدث المنشورات

سجل أنا إنسان



رنا  قباني

 التحقت ببرنامج «الماجستير» في الجامعة الأمريكية في بيروت بعد أسابيع من زواجي من محمود، وقلت بصراحة لرئيس قسم الأدب الانكليزي وقتها، الدكتور جورج خير الله، أنني لا أستطيع دفع القسط الهائل المطلوب. أعطيته شهادة البكالوريوس التي نلتها من جامعة جورجتاون، فلمح أنني التحقت بها في السادسة عشرة من عمري، وأتممت دراستي خلال سنتين عوضا عن الأربع، لأنني أخذت عشرين مادة في السنة، بدلا من عشر. احتجتش لإذن خاص لكي أفعل ذلك، وكان شرط إدارة الجامعة أن تبقى علاماتي فوق معدل التسعين في المئة، وحصل ذلك. فسألني كيف؟ أجبت أنني درست ما أحب، والممتع سهل؛ ولم يستهوني العيش في واشنطن، فأردت أن أغادرها بأسرع وقت، ولكن بشهادة جامعية؛ ثم أن معدلي وهبني منحة، لأن الحالة كانت فريدة، خاصة لإمرأة أجنبية.

كنت أعمل في مكتبة الجامعة بعد الحصص. هكذا تمكنت من أن لا أكلف والدي من معاشه المحدود، ولم أعد أقبل منه قرشا بعد سن السابعة عشرة، وهذا الشيء هو بديهي لتحرر أي فتاة. ابتسم هذا المثقف اللامع، الذي كان صديقا قديما لأدوارد سعيد، وأصبح فيما بعد صديقا لنا، وسألني ما هو موضوع رسالة الماجستير الذي أريد بحثه، فقلت شعر أميلي ديكنسون. رد على الفور: «اذاً، اعتبري أنك أصبحت منذ الآن مدرسة للأدب الأمريكي في قسمي، ولن نأخذ منك أي قسط، بل سندفع لك مبلغا رمزيا، 400 ليرة لبنانية في الشهر». شهقت من الفرح، وانربط لساني وأنا أحاول أن أشكره، فأسكتني بحركة يد، وبشهامة لم أنسها ابداً: «إن هذه الجامعة بحاجة إليك، لأنك جئت في وقت غادر الكثير من الأساتذة الى الخارج بسبب الحرب، وأنت فعلت العكس تماماً، فأهلا وسهلا بك!». وهكذا ابتدأت بالتعليم، وأنا في عمر طلابي. فكان الظرفاء منهم يدخلون الصف ويسألونني: «وين المعلمة؟»، ثم يبتسمون ونبدأ الدرس. نكت من هذا النوع أعجبت محمود، ورواها للأصحاب، وهو يمسك بمسبحة جديدة كل شهر، كنت أشتريها له عند قبض راتبي من صائغ على طريقي (بأمل أن تشغل أصابعه عن سيجارته الأبدية، ويخفف من التدخين)، ويقول بمزيج من التهكم والفخر: «انظروا الى معاش مرتي!».

كنت أشجع طلابي أن يناقشوا النصوص بطريقة حرة، تعكس ما جرى في نفسهم ساعة القراءة، فجاءت وظائفهم قوية صادمة. أذكر منها نصا كتبه طالب شيعي من الجنوب، وصف فيه الفقر والعنف العائلي الذي عانى منه، حين ناقشنا رواية جون شتاينبك، «عناقيد الغضب». أعطيته العلامة التامة، وطلبت منه أن يقرأ ما كتب للصف، فكان الصمت التام الذي تلاه التصفيق الحاد والتصفير، فهكذا كانت بيروت الغربية، قبل أن تبتلعها ايران.

كنت أعود الى الدار في الساعة الواحدة، لأحضر الغداء لمحمود ولي، دون ان أعرف إن كان سيأتي وحده لتناول الوجبة، أو مع حشد من أصدقاء. واكتشفت في ما بعد، من أبن عمه عفيف درويش، الذي كنا نزوره في دمشق حيث سكن، أن والده، أي عم محمود، كان معروفا في البروة، بجلوسه في أعلى نقطة من الضيعة عند ساعة الظهر، لكي ينادي كل من يرى ان يتفضل للغداء عنده. فكانت هذه الصفة في جينات زوجي، وكان علي أن أدبر أموري لكي أطعم من يدخل. حين تزوجته، كنت لا أعرف إلا تحضير نوعين من الطعام، وهما «السباغيتي بولونييز» و «كعكة جوز الهند». فكنت بحاجة الى إنقاذ من هذه الورطة، فأسعفني فوراً عمي نزار، الذي تعلم الطبخ المتقن من أمه، مثله مثل كل أخوته الصبيان، إذ انهم تغربوا على صغر للدراسة أو للعمل، وكانت جدتي فائزة اق بيق متأكدة من أنهم سيشتاقون لطعم أكلها، الذي اشتهرت به في الشام القديمة. كنت أكلم عمي من عند اللحام الحلبي، الذي كان هو الآخر شاعرا في أناقته ونظافته وإحساسه المرهف، كما في تحضير كل قطعة يجهزها للزبون. تعود أن يخطف الهاتف من يدي، ليتحدث مع عمي عن البحور الشعرية، وعن أجود طريقة لصنع «اللبنية». بدأت بأسهل مرحلة، وهي الكبة النية، التي كانت المفضلة عند محمود، ولكن مع «الحوسة» الفلسطينية، وسلطة الزعتر البري بالسماق. ثم تفرعت درجات حتى أتقنت طبخ الملوخية المصرية، التي كان سرها- كما أوضح لي معلمي الماهر -هي «الدمعة» أي عصرة بندورة طازجة تضاف لها بعد طرقة الثوم والكزبرة، وقبل الغلوة الأخيرة.

في يوم من الأيام وأنا في محل ثياب في شارع الحمراء، قال لي صاحبه الفلسطيني الأصل، أن زوجته السورية «تموت على» شعر محمود درويش، وأكبر حلم لديها هو أن تتعرف عليه. كان والدها صديقا لوالدي، فقلت له أن يأتي معها لتناول الغداء معنا يوم الأربعاء، إذ كانت الماء تصل الى البناية فقط في هذا اليوم، فتمكنني من غسل الخضار وتعبئة المغطس والأوعية والقناني. وفعلا، وصلوا في تمام الساعة الواحدة، وكانت صفاء ترتعش وترتجف من إنفعالها، فسلمت علي بالكاد، وجلست على طرف الكرسي كمن يستعد لمقابلة الإمبراطور. بعد دقائق، سمعت «فتلة» مفتاح محمود في الباب، ودخل الى الشقة، واستنشق الرائحة، ثم صرخ: «آخ! ملوخية! ملوخية!».

سلم على ضيوفنا بسرعة، وجلس الى المائدة، واستعد لمراسم هذه الأكلة الفرعونية، التي أدمن عليها الفلاح الصعيدي تماماً كما الملك فاروق. حاولت أن أسكب لضيفتي أولاً، ولكنها لم ترد الأكل، اذ كانت تنظر الى محمود بملء عينيها، وتراقبه كأنه هبط من المريخ. أما زوجها، فقال أنه يكره الملوخية منذ الطفولة، ويفضل أن يلعب طاولة زهر معي، ريثما ينتهي زوجي من الغداء. محمود لم ينتبه لكل هذه التفاصيل العجيبة، لأنه كان يريد الغطس في الشوربة الخضراء التي طالما أحبها، وكان «يهمهر» من اللذة ويقول «يا سلام» بعد كل صحن يعيد ويسكبه. غلبت اسامة في الطاولة مرس، فمن وجع الخسران، عض على الخشب الموزاييك وكسر سنه الأمامي، وسال الدم من فمه. وقتها، قام محمود ليجلب له علبة محارم، وفي لحظتها، انفجرت صفاء بالبكاء. قلت لها: «لا تخافي، فجارنا حكيم أسنان، وسننزل لعنده فوراً لكي يرتب الأمر».  فنظرت الي وكأنني حمقاء، لا أفهم أي شيء في الدنيا، وقالت بلهجتها الدمشقية العميقة: «لك شو هل الشاعر، يامو؟ شو هل الشاعر يلي بحب أكل الملوخية!».

وقامت وأخذت زوجها وخرجت، وكدنا أنا ومحمود أن نموت من الضحك من صدمتها هذه، وتصورها أن الشاعر لا يأكل سوى الأزهار، ويعيش عيشة غير عيشة أي إنسان.

إرسال تعليق

أحدث أقدم
header ads
header ads
header ads