"جَوْهَر الفَلْسَفَة هُو رُوح البَسَاطَة (...)، التَّعْقِيد هُو في الغَالب سَطْحي، البنَاء ثَانَوي، التَّرْكيب مَظْهَر: التَّفَلْسُف هُ...
"جَوْهَر الفَلْسَفَة هُو رُوح البَسَاطَة (...)، التَّعْقِيد هُو في الغَالب سَطْحي، البنَاء ثَانَوي، التَّرْكيب مَظْهَر: التَّفَلْسُف هُو فِعْل بَسِيط" (هنري برغسون، الفكر والمتحرك، ص139).
(1) وإن كان لبرغسون نصيب من الحق، في معرض حديثه عن الحدس الفلسفي وعلاقة الفلسفة بالعلم، إلا أن جانبًا من "التعقيد" (موران رائد هذه الفكرة) هو في طبيعة الأشياء ووجب أن نسير وفق الأشياء (إذا تكلمنا مثل الرواقيين). لكن، ربما وجب التمييز بين "أن نعقِّد" (compliquer) و"أن نُكثِّف" (complexifier) الأفكار. لأن الوقائع لا تُركَّب في مبتدأ وخبر ومضاف إليه، وفهم الوقائع والنظر في العلاقات الضمنية بينها، هو الآخر لا يأتي في فاعل أو مفعول به. التفلسف من طبيعة الموضوع الذي يتفلسف بشأنه. الحل الوسط (تكثيف بين بساطتين، أو تبسيط بين تعقيدين، إذا سرنا على منوال الفضائل الأرسطية: الشجاعة وسط بين الجبن والتهوُّر) هو وزن العبارات والأفكار بميزان مقتضى الموضوعات المدروسة، البعض منها ظواهر معقّدة وشائكة. ربما البساطة الوحيدة التي تنبري من التفلسف هي "التمثيل" أو "أن نُمثِّل" (exemplifier)، بضرب الأمثال وسَوْق الأمثلة (وهل كان أفلاطون قادرًا على التوكيد على الفكرة دون اللجوء إلى الصورة: "أمثولة الكهف" في الكتاب السابع من الجمهورية؟).
(2) بعد التفلسف، هناك الفلسفة التي تُطرَح بجدل المبادئ والغايات، أو الوسائل والنتائج، أي بالسؤال الذرائعي: ما الفائدة من الفلسفة، مثلما نقول ما الفائدة من هذه الآلة؟ لكن، لا تُطرَح الفلسفة بمنطق الفوائد أو العوائد، أي بمنطق الصنعة أو "بويْسيس" (poiesis)، أي ما له "غايته في غيره" (ما يتعدَّى إلى فعل آخر)، لكن تُطرح بمنطق الأداء أو "براكسيس" (praxis)، ما له "غايته في ذاته". الغاية الذاتية للفلسفة هي غاية أدائية وتكوينية تكون بها الصنائع. لا يمكن أن يكون أحدهم محاميًا أو قاضيًا ما لم يعرف كيف تتبلور الحجَّة، وكيف يتفادى المغالطة والسفسطة؛ ولا يكون أحدهم سياسيًا ما لم يعرف ألاعيب الخطاب ومداخل البلاغيات ومخارجها؛ ولا يكون أحدهم رجل أعمال ما لم يعرف سلطان "الكايروس" (Kairos)، هذا الزمن الفوري والمقداري، الذي نسيت الفلسفة بأنه ينتمي إليها، وراحت تُجاري "الكرونوس"، زمن العلم الفيزيائي والرياضي؛ ولا يكون أحدهم باحثًا أو معلِّما أو مديرًا أو رئيسًا، ما لم يُدرك القيمة التكوينية لكل المهام الإنسانية، ونماذج "التَّهْذِيب" العربي، و"بَايْديَا" الإغريقية، و"بيلْدُونْغ" الألمانية، هي هنا لتُذكرنا بهذه المهام المنسيَّة، والتي حلت محلها الحذلقة بالموسوعية، والثرثرة الكلامية، والزحمة في المعلومات. "التكوين" هو المفتاح والكلمة-السر لكل التحديات الممكنة.
(3) عن حق، سنَّت معظم الدول في العالم "الفلسفة" في كل الشُعب الثانوية (العلمية، والأدبية، والفنية...). هناك شيء في الفلسفة هو سابق على كل المعارف، يمكن نعته بالحدس (برغسون) أو بشيء خالد وعابر للأزمنة والأقاليم (philosophia perennis)، يتردَّد كذلك على العلماء بالمعنى التقني والرياضي للكلمة. كل ما يكتبه الفيزيائي أو الرياضي أو البيولوجي إلا وله "مرآة مقابلة" هي فلسفية في جوهرها. من ثمَّ، فإن التفاضل بين الفلسفة والعلم لا معنى له في ذاته، ما دامت الثانية تسري في الأول سريان الدم في الشريان. كانت حدوس الرواقيين بشأن "الاشتعال العظيم" (Ekpyrosis) في محلها، ما دامت نظرية "البيغ بانغ" وطَّدت تلك الحدوس؛ وحدوس ماريون الفينومينولوجية بشأن الظواهر المتخمة (phénomènes saturés)، ألهمت اليوم بعض الفيزيائيين الذين طرحوا فكرة فيزياء الكوانتا كظواهر متخمة (Quantum phenomena as saturated phenomena)... لم تقفز تلك الحدوس، مثل قفزات الكايروس التي تنتظر اغتنام فرصها، ما لم تكن هنالك، قبليًا، استعدادات هي حصيلة التكوين، والتركيز، والتجرُّد أو الانعزال العزيز على المايستر إكهرت (Abgeschiedenheit). من ثمَّ فإن الفلسفة، بأصولها التجرُّدية (لا التجريدية)، وبفصولها التاريخية والتكوينية، تُقدِّم شيئًا من قبيل هذا الالتزام والانضباط، للعلم، للعالِم، وللعالَم، لأنها ليست فحسب، مسألة "لوغوس" (كيف نفكر ونقول ما نفكر فيه أو نفكر في ما نقوله بشكلٍ انعكاسي)، إنها مسألة "موقف" أو "نهج": وضع وحدس؛ نظرة ثاقبة وزُهد في الكينونة.
ليست هناك تعليقات