رنا قباني بحث عن مفتاحه في جيبه، ودخل قبلي الى الشقة المفروشة التي كان قد استأجرها حين وصل الى بيروت. أراد أن يتأكد من أن كل شيء كان على ما...
رنا قباني
بحث عن مفتاحه في جيبه، ودخل قبلي الى الشقة المفروشة التي كان قد استأجرها حين وصل الى بيروت. أراد أن يتأكد من أن كل شيء كان على ما يرام، إذ كان قد بعث بمبلغ من المال لزوجة أحد المداومين في بلاطه المتنقل معه دوما- والذي شمل المواهب كما الشوائب، والظرفاء كما الغلظاء- لكي تشتري حاجات إضافية ربما تنقص بيت عازب أبدي مثله. لم يدرك محمود، رغم هذه الحركة اللطيفة من طرفه (والذي أحب أن يريحني بفعلها من دون أن يعلمني)، كم كانت الهوة شاسعة بين تراثي وذوقي وما رأيت حين دخلت داره التي أصبحت، حين أجتزت العتبة، دارنا المشتركة. تلك الدار التي ستكون خشبة المسرح للأشهر العشرة الدرامية- كما لا بد الإعتراف فورا ً- التي صمد خلالها زواجنا الأول.
شقة شاعري كانت تخلو من أية شاعرية، وقد زاد الطين بلة ما أضافت اليها السيدة المكلفة «بتحسينها». كانت مساحتها صغيرة جداً بالنسبة الى المنازل التي كان لي الحظ الكبير بان أترعرع فيها طوال حياتي. فتوقعت- بغباء يخجلني وأنا أخط هذه السطور- أن «عشنا الزوجي» سيكون هكذا أيضاً. أعذروني، أرجوكم، رغم أنني لا أستطيع عذر نفسي حتى الآن، من حماقتي هذه! كنت صغيرة السن وقليلة التجربة، رغم أنني أخترت- بدون تردد (أو تفكير على ما يبدو) أن أربط مصيري لا بالشباب الأثرياء الذين كانوا يتقدمون لطلب يدي منذ فترة، ليرفضوا على الفور، بل بشخص كان ينحدر من بيئة ريفية فقيرة، عانى فيها ما عاناه، جعلت أعجوبة موهبته (وهوسه المحبب بالتهام الكتب وكتابة الشعر كما النثر المتطور أبداً) تجذبني أكثر بمليون مرة من عالم خطابي المترف، المليء بالكماليات المتوارثة جيلا عن جيل، والمفعم بجماليات فن ترتيب غرف مليئة بتحف الصناديق المصدفة، والسجاد العجمي، والزبادي الصينية والصحون ذات النقشة «البقدونسية»، وقطع «الصرمة» المخملية الخمرية المطرزة بخيط الذهب، وثريات «الأوبالين» النادرة التي استوردها الأجداد من اسطنبول، مع زوجات تربين في امبراطورية عثمانية رفيعة المعالم، صارمة في تقاليدها الإجتماعية وأناقتها التي كررت كالزيت على مدى قرون طويلة، حتى أصبحت مثالا يضرب فيه المثل بالأناقة في المظهر والمظاهر أيضاً.
أخذ محمود يريني الشقة، بمزيج من الخوف والتفاؤل المرعب أكثر. كانت لديه حاسة سادسة قلما أخطأت. دخلنا الى غرفة الإستقبال التي كانت فيها طاولة من «الفورمايكا» خضراء فاقعة اللون، مع كراسيها الأربعة من الفولاذ «الستانليس» المجلي لكي يكثر في لمعانه. ثم «كنباية» ضخمة بنية مفزعة التصميم، لم تتماش ابداً مع موكيت الأرض المختمة، والتي كانت بلون مغاير تماماً من البني والبيج. لأتدارك الموقف، ولا أجرح شعوره، ذهبت فوراً الى رف كان في الزاوية، صفت عليه أصداف بحرية من كل الأحجام والأشكال. قلت لمحمود انها أجمل ما رأيت، ففرح وقال انه جمع تلك المحار بنفسه، من البحار الكثيرة التي مشى على شواطئها، وهو يحلم بي دون أن يدري. وأضاف، إنها هي الوحيدة في الدار التي تمثله. فيكف لا أذوب من هذا الرد البديع؟ ثم أخذني الى مطبخ أصغر من ان يقف فيه شخصان في الوقت نفسه، وتأملت هناك كاسات من الكريستال قبيحة في سماجتها، وفناجين قهوة لا تمت لأي حضارة بصلة، كما ظهر أمامي بورسلين «مودرن» من الصنف الذي يشتريه كل إنسان من فئة الـ «نوفو ريتش» الذي يظن ان السعر المرتفع يضمن الذوق. كانت هذه المشتريات ما زالت، ولحسن الحظ -في ورق وكيس محل «لا بوهيم» الذي وجدت أنه أشتهر في غلاء أسعاره وبشاعة بضائعه، كما اكتشفت حين ذهبت لأبدلها في الصباح، ولم أجد ما أبدلها به، إذ أن «الستوك» كله كان من طراز واحد. وقد صعقت زوجة صبري جريس الملائكية من أن الأشياء لم تعجبني، ولم تفهم لماذا، ورأت أن دموعي بدت تذرف من عيني على هذا المبلغ المهدور بالرغم مني، والذي كنت متأكدة انه فوق طاقة محمود المادية في وقتها، فأعادت لي الفلوس على الفور، لأعيدها اليه مع قبلة شكر. أعجبته القصة المضحكة بعض الشيء، وقال لي أن هذه ستكون أول «حتحوتة» عني سيتداولها ويجترها أعضاء وزوجات الصف الأول من مجتمع الثورة. ولم يكد يكمل جملته الساخرة، حتى طرق الباب بإصرار أحد شباب مرافقة أبو عمار، وقال لمحمود أن «الختيار» سيمر ليزورنا في الساعة السابعة من ذاك المساء، ليكون أول من يبارك لنا بالزواج. كنت متعودة أن موعد العشاء يقع في هذا الوقت، فسألت محمود ماذا علي التحضير لإستقباله، وخاصة أن الشقة لم يكن فيها ماء ولا كهرباء ولا غاز، فضحك وقال: «عرفات لا يأكل إلا في ساعة متأخرة من الليل، وأكله يقتصر على ما يطلب له أزلامه من فوال الحي- من حمص وفول مدمس وكبيس ومشاوي أحيانا، غالبا ما تصل باردة الى مكتبه، ويشاركه فيها من يتواجد معه في لحظتها. وقال إن كاسة عصير الجوافة التي يحبها ستكون كافية، مع علبة بسكوت».
وفعلا، وصل ياسر عرفات الى دارنا في حدود الساعة السابعة، وباس محمود أكثر من عشر مرات، ثم صافحني وقدم لي ثوبا فلسطينيا مطرزا من مشغل نساء المخيم. رغم أنني أردت ان البسه فورا لأشكره عليه، وجدت أن حجمه أكبر من حجمي بسبعة أضعاف على الأقل، فعدت بثوبي الذي أستقبلته به، وصمت الرجل كما صمت أنا. هذا كان لقائي الأول مع القائد الرمز الذي عشقته جماهيره من بعيد، ولكنني لم أرتح له تماما لما دخل بيتي، ومنذ الوهلة الأولى. أدركت أنه بادلني الشعور نفسه، فقد فهم أن محمود لم يعد ملكه الشخصي كما كان. صار عليه ان يشاركني فيه، وفهم أن هذا لن يكون بالسهولة التي تصور، من النظرة التي لاحظها في عيني.
ليست هناك تعليقات