Page Nav

HIDE

Grid

GRID_STYLE

اخبار عاجلة

latest

بزوغ ضوء النّهار إيتالو كالڤينو

                                                          ترجمة: مبارك وساط   لا بدّ من قراءة نبذة تمهيدية قبل هذا النّصّ القصصي، لذا:   انظ...

 


                                                        ترجمة: مبارك وساط

 

لا بدّ من قراءة نبذة تمهيدية قبل هذا النّصّ القصصي، لذا:

 

انظرْ تقديم  قصّة كالڤينو "المسافة إلى القمر"، المنشورة بهذه المُدَوّنة، ورابطه:

--------

 

إيتالو كالڤينو


النّصّ :


أوضح جبكُوِيبّرْ أنّ كواكب المجموعة الشّمسيّة، فيما كانت الظّلمات تلفّها، بدأتْ في التّصلّب نتيجةَ تكاثفِ تشكيلٍ سديميٍّ مائع ومن دون هيئة محدّدةكان البرد والظّلام يغمران كلّ شيءوبعد ذلك بزمن، بدأت الشّمس تتركّز حتّى تقلَّص حجمها إلى ما هو عليه الآن، تقريباً، وهكذا ارتفعتْ حرارتها وزادت في الارتفاع إلى أن بلغتْ آلاف الدّرجات، وبدأتْ تبثّ إشعاعات في الفضاء.

 
 

نعم، كان الظّلام مُخَيِّماً بشكل مثير  أكّدَ "ك ف و ف كالشّيخ، وكنتُ أنا طفلاً ما أزال في تلك الحقبة، وبجهد كبير فحسب أستطيعُ تذكّرهاكنّا نقبع هنالك في العادة، فيكون ثمّة الأب والأمّ، والجدّة "ب بب"، وأخوالٌ زائرون، والسّيّد "ه ن و"، الذي أصبح فيما بعد حصاناً، إضافة إلينا، نحن الأصغر سِنّاًفعلى التّشكيل السّديمي ويبدو أنّي حكيْتُ هذا مرّات عديدة كنّا متمدِّدِين كما قد يقول المرء، مُسَطَّحي الأجسام على أيّ حال، لا تصدر عنّا حركة البتّة، وكنّا نترك أنفسنا ننزاح نحو الجانب الذي يتمّ منه الدّورانلم نكن نتمدّد بالخارج، أتفهمون؟ أعني على سطح التّشكيل السّديميّ؛ كلّا، فالبرودة كانت شديدة هنالك؛ بل كنّا تحت ذلك السّطح، بداخل طبقة من المادّة المائعة والمُحبّبة، كما يكون الإنسان، وهو في سريره، مدثّراً بأغطية مثبّتةِ الحواشي تحت الحَشِيّةوما من وسيلةٍ لقياس الزّمان؛ فكلّما شرعنا في عَدّ دورات التّشكيل السّديميّ كانت تظهر اعتراضات، إذْ في الظّلام، كانت تنقصنا نقاط استدلال؛ ولذا كان ينتهي بنا الأمر إلى التّشاجُرهكذا فضّلنا أن نَدَعَ القرون تمرّ كما لو كانتْ دقائق؛ لمْ يكنْ بمقدورنا سوى أن ننتظر، وأن نتغطّى لأطول وقت ممكن، وأن نغفو بين الفينة والأخرى، وأن ننادي بعضنا من حين لآخر لنتيقّن أنّنا كنّا جميعاً حاضرين في مواضعنا ؛ وبالطّبع، كان ينبغي أنْ نحكّ أجسامنا، فعليّ الإقرار بأنّ تلك الحركة المضطربة للجُزَيْئات لم يكن لها من مفعول سوى أن تُسَبّب لنا حكّة شديدة مُضجرة.

ماذا كنّا ننتظر، هذا ما لم يكن بوسع أحد أن يُحدّده؛ فلا شكّ أنّ الجدّة "ب ببكانت ما تزال تتذكّر الزّمن الذي، خلاله، كانت المادّة تتناثر بشكل منتظم في الفضاء، مثلما الضّوء، والحرارة؛ وبالرّغم من كلّ المبالغات التي قد تحفل بها حكايات العجزة، فتلك الأزمنة، على أيّ حال، كانت أحسنَ حقّاً، ولو بصورة ما؛ وبالنّسبة إلينا، فقد كان لازماً أن ننتظر انصرام ذلك الليل المَهول.

وقد كانت أختي "جد (و)نالأحسنَ حالا بسبب مزاجها الانطوائيّلقد كانت طفلة منعزلة، وكانت تحبّ الظّلاموالأماكن التي كانت تختارها لتبقى فيها كانت منتحية، على حافة التّشكيل السّديميّ، وكانت تتأمّل الظّلام، تاركةً حبّات الغبار الدّقيقة تنساب متساقطة في ما يشبه الجدول الصّغير، بينما تتحدّثُ هي إلى نفسِها وتندّ عنها ضحكات مقتضبة شبيهة بِشلّالِ غبارٍ يَهوي سريعاً، وكانت تُدندن، وفي حالتَي النّوم واليقظة، كانت تترك نفسها تسرح في عالم الأحلامولم تكن أحلامها شبيهة بما كنّا نحن نحلم به، فقد كنّا نحلم بتلك الظّلمة، حيثُ نقيم، إذْ لمْ يكنْ هنالك شيءٌ غيرُها يراود أذهاننا؛ أمّا هي فكانت ترى في نومها  حسبما كنّا نفهم من هذياناتها  ظلمةً أكثر عُمْقاً بمئة مرّة، وذات طابع متنوّع، ومخمليّة.

كان أبي هو أوّل مَن لاحظ أنّ شيئاً ما كان يتغيّروقد كنتُ أنا نائمًا، وإذا بصوته الجهوريّ يوقِظُني:

يا جماعةها هنا لنا موطئ قدم!

تحتنا، كانت مادّة التّشكيل السّديميّ، المائعة فيما قبل باستمرار، قد بدأت تتكاثف.

في الحقيقة، فإنّ أُمّي كانتْ، قبل ساعات من تلك اللحظة، قد بدأتْ تتقلّبُ في هذا الاتّجاه ثمّ في ذاك، وتُردّد: « آه، لا أعرف أيّ وضع أتّخذ! ». وإذا كنّا قد فهمناها، فإنّها، باختصار، ستكون قد استشعرتْ تغيُّراً في المكان الذي كانتْ مُسْتلقيةً فيه، ذلك أنّ كُتَلَ الغبار الدّقيق لم تكن بعد على هيئتها السّالفةناعمةً، مرنة، منتظمة، بحيثُ يمكن للمرء أن يعبث وسطها متى شاء من دون أن يترك أثراً، بل كان يحدثُ ما يشبه هبوطاً أو انخفاضاً، خاصّةً في المكان الذي كانت تستند إليه بكامل ثِقلهاوكان شعورها أنّها كأنّما تَجُسّ فيما تحتها ما يماثل كمّاً من الحَبّ أو امتدادات ثخينة أوْ مادّة ما مُتخثّرة، يمكن، في نهاية المطاف، أن تكون مردومة على بعد مئات الكيلومترات في الأسفل، دون أن يمنع هذا إمكانية الإحساس بها عبر طبقات الغبار الدّقيق النّاعمفي العادة، لم نكن نعير كبير اهتمام لحدوس مماثلة لأمّيفبالنّسبة إليها هي، المسكينة، ذات الحساسِيّة الشّديدة، والتي لم تكنْ بعد في شرخ الشّباب، لم يكن الوضع الذي كان ينبغي لها أن تبقى عليه هو الأكثر ملاءمة لحالة أعصابها.

ثمّ جاء دورُ أخي "ر و ز ف س"، الذي كان طفلاً في تلك الأيّام، فقد سمعته في لحظة ما  كيف أعبّر عن هذا؟ سمعته يخبط ويحفر، وفي عبارة واضحةيتحرّك بشدّة وبلا هوادة، وسألتُه:

خَبِّرْني، مالذي تفعله؟

قال لي:

إنّني ألعب.

تلعب، ولكن بماذا؟

بشيء، قال هو.

أتفهمون؟ تلك كانت المرّة الأولىفلم توجدْ قَطّ، مِن قَبْل، أشياء يُمكن اللعب بهاوكيف تريدون منّا أن نلعب في ذلك الزّمان؟ أنلعبُ، وقتها، بتلك المادّة الغازيّة الدَّبقة؟ سيُتيحُ ذلك تسلية جميلة، لكنّها تسلية لم تكن تُلائمُ حقّـاً إلّا أختي "غد (و)ن". فإذا كان "ر و ز ف سقد انهمك في اللعب، فذلك يعني أنّه عثر على شيء جديد؛ وقد بلغ به الأمر أَنْ قال، بميله المألوف إلى المبالغة، إنّه عثر على حصاةكلّا، طبعا لا يتعلّق الأمر فعلاً بحصاة، لكن، بلا شكّ، بقطعة مادّة أكثر صلابة من الغاز، أو، إذا فضَّلْتُم، أقلّ منه غازِيّةًإنّه لم يلتزم قَطّ الدّقّة الشّديدة بخصوص هذه المسألة، بل وأنشأ حولها ما تبادر إلى ذهنه من حكايات؛ وحين جاءت حقبةُ تشكُّل النّيكل، التي لم يكن فيها حديث إلّا عن النّيكل، قال: «هذا ما كنتُ عثرتُ عليهقطعة نيكل، لقد كنتُ ألعب بقطعة نيكل، ومن هنا جاءته تلك التّسميّة: «"ر و ز ف سالذي من النّيكل» (وليس لأنّه، كما يقول بعضهم اليوم، كان قد أصبح من نيكل، إذْ إنّه لم يستطع، نظراً للتّأخّر الذي لازمه، أن يتجاوز المرحلة اللاعضويّة؛ إذن، ليس هذا هو أصل تلك التّسميةوأقول ما أقوله حُبّاً في الحقيقة وليس لأنّ الأمر يتعلّق بأخيلقد كان على شيء من التّأخُّـر، حقيقةً، لكنّه لم يكن من النّمط المعدنيّ، بل بالأحرى من الصّنف الغَرَوانِيّ؛ وتلك كانتْ سِمَتَه، حدّ أنّه، في وقت كان لا يزال خلاله صغيراً جِدًّا، تَزوّج طُحلبة إحدى أوائل ما ظهر من طحالبوبعدها، لم نعد ندري من أمره شيئاً.)

بإيجاز، فقد بدا أنّ الجميع أحسّوا بشيء ما، باستثنائي أنالا شكّ أنّي أتميّز بشرود الذّهنوقد سمعت، لا أدري أكان ذلك أثناء نومي أم بعد أن استيقظت، أبي يقول مندهشاً:

هنالك ما يُمكِنُ لَمْسُهإنّ لنا موطئ قدم!

لم يكن لقوله هذا من دلالة (فقبل ذلك اليوم، لم يكن شيء قد لَمَسَ شيئاً، هذا مؤكّد)، لكنّ ذلك القول اكتسب دلالة في اللحظة نفسِها التي خرج خلالها من فمه، بمعنى أنّه دلَّ على ذلك الإحساس الذي بدأ يتشكّل لدينا وهو إحساسٌ مُقَزِّزٌ قليلا  بأنّ ما يُشْبِهُ طبقةَ وَحْلٍ كانتْ تَمُرُّ مِنْ تحتِنا، منبسطةً، وأنّنا كُنّا، فيما يبدو، نرطُمُها فتجعلنا نثِبُ إلى أعلىوأنا قُلْتُ، بنبرة فيها لوم:

آهجدّتي!

كثيرًا ما تساءلْتُ، فيما تلا ذلك، لماذا كانت ردّة فِعْلي الأولى هي مؤاخذة جَدّتنافالجدّة "ب بب"، نظراً لأَنّها حافظتْ على عاداتها التي كانتْ تعود لزمن آخر، كانتْ تقوم بأمور في غير محلِّها؛ فلأنّها كانت ما تزال تعتقد أنّ المادّة تنتشر بشكل منتظم، اعتبرتْ، على سبيل المثال، أنّه كان يكفي رمي الأزبال كيفما اتّفق وستتخلخل كثافتها ونراها تختفي في البعيدوالواقع أنّ عمليّة التّكاثُف كانتْ قد بدأت منذ فترة من الزّمن، وهذا يعني أنّ القذارة كانتْ قد غَدتْ سميكة فوق الجُزَيئات فلمْ يَعُد بالإمكان إزالتُها، لكنّ الجدّة لم تكن قادرةً على إدخال هذا إلى ذهنهاوهكذا، فبصورة لاشعوريّة، ربطتُ هذا الحدث الجديد المتمثّل في «إنّ لنا موطئ قَدَم!» بزلّةٍ ما أقدمتْ عليها جدّتي، ولذا صدرَ عنّي ذلك القول التّعَجُّبِيّ.

وجاء جواب الجدّة:

ماذا هنالك؟ هل عثرتَ على التّاج الضّائع؟

إنّ ذلك التّاج كان عبارة عن قطعة إهليلجيّة صغيرة من المادّة المُكوِّنة للمَجَرّة، ولا أحد يدري أين عثرتْ عليها الجدّة خلال الكوارث الكونيّة الأولى، لكنّها بقيتْ تنقلها معها باستمرار لتجلس عليهاوفي لحظةٍ ما، خلال الليل الكبير، ضاع التّاج، واتّهمتني جدّتي بأنّني أخفيتُه عنهاولا شكّ أنّي، حقّاً وصِدْقًاً، كنتُ دائم الكراهيّة لذلك التّاج، لفرط ما كان وجوده يبدو نشازاً وغير معقول على التّشكيل السّديميّ حيثُ كنّا، غير أنّ ما كان يمكن أنْ أؤاخذَ عليه، في الحدّ الأقصى، هو أنّني لم أكن أحرسه باستمرار، كما كانت الجدّة تطلب.

وحتّى أبي الذي كان يُظْهر لها الاحترام التّامّ على الدّوام، لم يستطع ثَنْيَ نفسه عن إثارة انتباهها:

لكنْ عليكِ أن تدركي يا أمّي أنّ هنالك شيئاً ما بصدد الوقوع، فيما ينصبُّ اهتمامك أنتِ على استرجاع هذا التّاج!

آه، لقد قلت وأعدت بأنّي لا أجد إلى النّوم سبيلاًقالتْ أُمّي (وهذا الرّد كان، أيضًا، غيرَ متلائم مع الموقف).

إثْرَ هذا سمعنا أصواتاً قويّة: «َبواهْبواهْسسكرْرْ!» وفهمنا أنّ أمْراً ما لا شكّ وقع للسّيّد "ه ن و": فقد كان يتجشّأ ويبصق دون تحفُّظ.

-سيّد "ه ن و"! سيّد "ه ن و"! تماسكْ واعتدِلْلكنْ، أين يمكن أن يكون قد مضى؟ بدأ أبي بالقول.

مُتَلَمِّسين سبيلنا في هذه الظّلمات التي ليس بها ولا بارقة ضوء، أفلحنا في الإمساك به وَرَفْعِهِ إلى سطح التّشكيل السّديميّ من أجل أن يسترجع أنفاسهوقد مَدَّدْناه على تلك الطّبقة الخارجيّة التي كانتْ تكتسب قِواماً، فتصبح متخثِّرة وزَلِقة.

واهإنّه ينغلقُ عليك، هذا الشّيء! - كان السّيّد "ه ن ويُحاول أنْ يقول (فهو لم يَكنْ قَطُّ ذا موهبة كبيرة فيما يَخُصُّ القدرة على التّعبير) - ننزل، ننزل، ونَبْتلعسْكَرْرَرَاهْ!

وكان يبصق.

فالجديد، الآن، على التّشكيل السّديميّ، كان هو أنّ من لا يأخذ الحذر، ينتهي به المطاف إلى أن يغوصوأمّي، بالغريزة التي للأمّهات، كانت الأولى التي فهمت ذلكوقد نادتْ بصوت جهوري:

يا أطفال، هل أنتم جميعاً هنا؟ أين أنتم؟

والواقع أنّنا كنّا قد تركنا أنفسنا نَشرد بعض الشّيء، ففيما مضى، حين كان كلّ شيء في مكانه، منتظماً لقرون، كان دَيْدَنُنا الحرص على ألّا نتفرّق، أمّا الآن، فقد غاب ذلك عن أذهاننا.

الزموا الهدوءولا يبتعِدَنْ أحد منكم، قال أبي. "غد (و)ن"! أين أنتِ؟ والتّوأمان؟ من رأى منكم التّوأمين فليتكلّم!

لمْ يُجِبْ أحد.

آهلقد ضاعاقالت أمّنا وهي تصرخ.

كان أخواي الصّغيران دون السّنّ التي يستطيعان فيها أنْ يُبَلِّغا الآخرين أمراً ما، ولذا كان من السّهل أنْ يضيعا، وكانا مَحروسَيْن باستمرار.

سأمضي للبحث عنهما، قُلْت.

نعم، "ك ف و ف ك"، اِمْضِ، هذا جيّدقال كلّ من أبي وأمّي.

ثمّ أضافا، وقد أعادا النّظر، على الفور، فيما قالاه:

لكنّك إذا ابتعدت، ستضيع أنت بدوركاِبْقَ هنا! ... على أيٍّ، اِمْضِ، لكنْ أخْبِرْ بالمكان الذي توجد فيهاِصْفِرْ!

بدأتُ أمشي في الحُلْكة، في المَوْحِلِ الذي آلَ إليه التّشكيل السّديميّ في تكاثُفِه، وأنا أصفر بلا انقطاعقلتأَمْشي، وأعني بذلك أني أتحرّك على السّطح بطريقةٍ ما، الأمر الذي كان بعيداً عن أن يتخيّله المرء دقائقَ معدودة قبل تلك اللحظة، والذي أصبح، بحلول هذه الأخيرة، كلَّ ما يستطيعُ محاولة القيام به، ذلك أنّ المادّة كانتْ رخوة حدّ أنّ الذي لا يتّخذ الحذر، عِوض أن يتقدّم على السّطح، سيغوص في خطٍّ منحرف، أو حتّى عموديّاً، ويجد نفسَه مدفوناًلكنّي في أيّما جهة سِرتُ، وفي أيّ مستوى فعلتُ ذلك، فإنّ حظوظ عثوري على أَخَوَيّ الصّغيرين كانت متساويةفالله أعلم بالمكان الذي تسلّل إليه هذان الاثنان.

فجأةً، هويت وتدحرجت؛ فكما لو أنّ أحدهم قام  بحسب لغة هذه الأيّامب"عرقلتي". تلك كانت المرّة الأولى التي أسقُطُ فيها، فأنا لم أكن أعرف حتّى كيف تكون «السّقطة»؛ لكنّنا كنّا ما نزال فوق شيء ما ناعم، ولذا لم يتسبّب لي سقوطي في أيّ ضرر.

لا تَسِرْ هناك، قال صوت، يا "ك ف و ف ك"، أنا لا أريد ذلك.

ذاك كان صوت أختي "غد (و)ن".

لماذا؟ ماذا يُوجَد هنا؟

قُمتُ بأشياء مع الأشياء... قالت هي.

لقد لزمتني لحظة لأدرك، عن طريق التّلمّس، أنّ أختي، إذْ كانت تفرك ذلك النّوع من الوحل، استخرجتْ منه كومةً من الأشياءقُبَيْبَاتٍ، أشياءَ مُحَزّزة وسِهاماً.

لكن، ما الذي تفعلينه؟

كانتْ "غد (و)نتُقَدِّم دائما أجوبة ليس لكلماتها ضابط ولا رابط:

خارِجٌ ما في داخله داخلتسلّلّلّ، تزَلّلّ، تزلّلّلّ...

تابعتُ مساري، الذي تخلَّلَتْه سقطاتثمّ حدثَ أنْ تعثّرتُ بالأبديّ الحضور، السّيّد "ه ن و"، الذي كان قد عاد في النّهاية، برأسه أوّلاً، إلى المادّة التي كانت تتكاثف.

هيّا، يا سيّد "ه ن و"، يا سيّد "ه ن و"، أيَصِحّ أنّك لا تستطيع البقاء واقفا!

وبدأتُ أساعده مُجَدّداً ليخرج من ورطته بدفعه، من حين لآخر، بقوّة، ومن تحت إلى فوق، إذْ إنّي كنتُ، أنا نفسي، منغمرا بكاملي في المادّة الرّخوة.

كان السّيّد "ه ن ويسعل وينفخ ويعطس (فالبرد كان قد اشتدّ بصورة لم نَشْهد لها من قبلُ مثيلاًحين برز إلى السّطح، وتحديداً إلى تلك البقعة من السّطح التي كانت تجلس بها الجدّة "ب ب'. ب". واهتزّت الجدّة إلى أعلى، وفي اللحظة نفسِها، تملّكها الانفعال:

الحفيدانلقد عادا... الحفيدان!

كلّا، أُمّاه، انظُري، إنّه السّيّد "ه ن و"!

إنّها لم تعدْ تفهم شيئًا.

والحفيدان؟

إنّهما هناقلتُ لها بصوت جهوريّوهنالك أيضًاً التّاج!

لا شكّ أنّ التّوأمين، منذ وقت طويل، كانا قد هيّآ لنفسيهما مخبأً سِرّيـاً، في سُمْك التّشكيل السّديمي، وهما اللذان خبّآ التّاج في هذا المكان السُّفْلِيّ ليلعبا بهففي الوقت الذي كانت المادّة خلاله قد بقيتْ شِبْهَ سائلة هنالك في الوسط تمامًا، وفي غياب الجاذبيّة، كان بمستطاعهما أن يقوما حتّى بقفزات خطيرة على حياتيهما نافِذَيْنِ عبر التّاج، لكنّهما، في هذه المرّة، قد وجدا نفسيهما أسيريْ نوع من الجبنة البيضاء الإسفنجِيّة التي سدَّتْ التّاج، وهما نفسهما كانا يشعران بأنّهما يُضْغطان بشِدّة مِنْ كلّ الجهات.

تمسّكا جيِّداً بالتّاج حاولتُ أنْ أُفْهِمَهُما هذالأحاوِل أن أُخْرِجكما من محبسكما، أيّها الأبلهان الصّغيران!

وبدأتُ أجذب وأجذب، وفي لحظةٍ ما، وحتّى قبل أنْ يتبيّنا وضعهما الجديد، كانا يتشقلبان على السّطح الذي كانَ غِشاءٌ قِشْريٌّ رقيق، شبيهٌ بزلال البيض، يُغَطّيه الآنأمّا التّاج فإنّه، على العكس من هذا، ما إنْ ظهر حتّى تحلّلفهل كان بالإمكان استيعابُ الظّواهر التي كانت تحدث في ذلك الزّمن، ومن ثمَّ شرحُها للجدّة "ب بب"!

في هذه اللحظة بالضّبط، كما لو لم يكنْ بإمكانهم اختيارُ وقتٍ أفضل، نَهَضَ الأخوال ببطء وقالوا:

حسناًإنّه لوقت متأخّر، والله يعلم ما الذي يقوم به أطفالنا، نحن قلقون بعض الشّيء، وقد سعدْنا برؤيتكم، لكنْ حان الآن وقتُ الذّهاب.

لا يمكننا القول بأنّهم كانوا على خطأ؛ بل كان هنالك حقّـاً، ومنذ وقت لا بأس بطوله، ما يجعل المرء يتخوّف ويمضي إلى حال سبيله بسرعة؛ لكنّ هؤلاء الأخوال، رُبّما بسبب المكان الشّديد الانتحاء الذي كانوا يقطنون به في العادة، كانوا من الصّنف الذي يستشعر الحرجوإذن، فلا شكّ أنّهم كانوا حتّى تلك اللحظة كالجالسين على الأشواك، لكنّهم تلبّثوا صابرين.

قال أبي:

إذا أردتمْ أن تذهبوا، فأنا لن أستبقيَكم؛ ولكن، فكّروا جيّداً، فلربّما يكون أكثرَ مُلاءَمةً أنْ تنتظروا حتّى يتّضح الوضع قليلًا، ففي هذه اللحظة، لا يعرف المرء أيّ أخطار يمكنها أن تظهر في طريقه.

جملة القول هي أنّ ما قاله أبي كان تجسيداً للحِسّ السّليم.

لكنّهم أجابوا:

لا، لا، شُكْراً على كُلِّ ما قُلت، وكلُّ شيء كان على ما يُرام، لكنّنا نحن، الآن، قد أتعبناكم بما فيه الكِفاية.

وأضافوا أقوالاً أخرى خرقاءوصفوة القول إنّنا، من جهتنا، لم نكن نفقه الكثير في شأن ما كان يحدث؛ أمّا هُمْ فلم يكونوا قد أدركوا شيئًا مِمّا يقع.

أولئك الأخوال كانوا ثلاثةخالة وخالان، إذا شئنا الدّقّةكانوا طوالاً جِدّاً ومتماثلين، تقريباً؛ ونحن لم نفهم أبدًا مَنْ مِن الثّلاثة كانَ أخَ مَنْ أو زوجَ مَنْ، ولا كنّا نعرف أيَّة علاقةٍ عائليّة، تحديداً، كانتْ تربطنا بهم في تلك الأزمنة، فأشياء كثرة كانت تبقى مبهمة.

وقد بادروا إلى الذّهاب، واحِداً تِلْوَ الآخرهكذا مضى الأخوال، كلٌّ في اتّجاه، صوبَ السّماء السّوداء، ومن حين لآخر، كما لو كانوا يتوخّون البقاء على اتّصال ببعضهم، كانَ يصدر عنهم: «أوهأوه!». كانوا يلجؤون باستمرار إلى أسلوبهم ذاك، ولم يكونوا قادرين على القيام بأيّما شيء بقليلٍ من المنهجيّة.

فَوْرَ انصرافهم، أصبحتْ «أوهأوه!» تلك تُسْمَع من أماكن قَصِيّة البُعد، في وقت كان ينبغي أن يكونوا خلاله ما يزالون على بُعْدِ خُطواتٍ منّاوكانت عباراتهم المستغرِبة تُسْمَعُ أيضًا، ولم نكن نفهم ما الذي تعنيه: «لكنْ، ها هنا، يُوجَد الفراغ، «لكنْ، مِن هنا، يستحيلُ المرور، «ولماذا لا تجيء إلى هنا؟»، «وأين أنت؟»، «لكن، اِقْفِزْ، إذنْ، «أقفز على ماذا، إذن، «لكنّنا هنا نعود إلى الخلف!». وجملة القول إنّنا لم نكن نفهم من كلّ ذلك شيئاً، فيما عَدا أنّ بيننا وبين الأخوال، كانت قد أصبحتْ تمتدّ، شيئاً فشيئاً، مسافات مَهُولة.

كانت الخالة، التي انصرفت بعد الآخَرَيْن، هي التي زعقتْ بِعبارات أكثر وضوحا: «وأنا، الآن، أبقى وحيدَةً على قِمّة هذا الشّيء الذي انفصل...»

وكان صوتا الخالين، الضّعيفان جِدّاً الآن بفعل البعد، يُكَرّران: «بَلهاء... بلهاء... بلهاء».

كنّا منشغلِينَ بِسَبْرِ تلك الظّلمة التي تعبرُها أصوات، وإذا بالتّغيّر يحدثالتّغيّر الوحيد الحقيقيّ الذي قُيِّضَ لي أنْ أَشْهَدَه، والذي كان كلُّ شيء، بالمقارنة معه، كأنه لاشَيْءوبإيجاز، فإنّه قد كان هنالك ذلك الشّيء الذي شرع في البزوغ في الأفق، تلك الذّبذبة، غير الشّبيهة بالأخرى التي كنّا، وقتَهَا، نُسَمّيها صوْتاً، ولا بتلك التي عبّر عنها القول الذي زُعِقَ به: «لنا موطئ قدم، ولا أيَّ واحدةٍ أُخْرى؛ كان الأمر يتعلّق بِغليانٍ ما يتمّ، في مكانٍ بعيد بالتّأكيد، ولكنّه كان يدنو، ومعنى ذلك أنّ وقتَ حدوثِه، حيثُ كُنّا، كان قد أزِف؛ وبلا إطالة، ففي لحظةٍ ما، أصبحت الظّلمة مظلمةً بالتّبايُن مع شيء آخر لم يكن كذلك، أعني الضّوءوبالكاد أمكننا القيام بتحليل أكثر تركيزاً للوضع من حولنا؛ وقد نجم عنه ما يليأوّلاً، السّماء، سوداءُ كالعادة، لكنّها كانت قد شرعتْ في ألّا تكون سوداء تماماً؛ ثانياً، السّطح الذي كنّا نقبع فوقه، والذي كان ذا حدبات وذا قِشْرة مُشَكَّلَة من جليدٍ قذارتُهُ مُقَزِّزة، ها قد بدأت قِشْرته تذوب لأنّ الحرارة كانت تَقْوى بسرعة كبيرة؛ ثالثاًظهر ما سنسمّيه، لاحقاً، منبع ضوء، أعني كتلةً كانتْ تتأجّج وكان يفصلها عنّا فراغٌ مَهُول، كما كان يبدو أنّها كانت تقوم بتجريب الألوانِ كُلِّها، واحداً واحِداً وباهتزازاتٍ متباينةثمّ، فيما عدا هذاهناك، في وسط السّماء، بيننا وبين الكتلة المتأَجّجة، كان ما يُشْبِهُ مناطق صغيرة ومنفصلة عن أيّ شيء، مُضاءة ومتنقّلة كيفما اتّفق، تدور في ذلك الارتفاع وفوقها أخوالنا أو أشخاص آخرون، يبدون ظلالاً بعيدة ويصدُرُ عنهم ضَرْبٌ من الصّرخات الثّاقبة.

لقد تمّ إذن أصعبُ الأمورفقلبُ التّشكيل السّديميّ، إذ انقبض، أنتج الحرارة والضّوء، والآن، كانت هنالك الشّمسوالباقي كلُّه كان مُسْتمرّاً في الدّوران حولها موزَّعاً ومُجمعاً في أقسام متنوّعة -: عُطارد، الزُّهَرَة، الأرض، وأُخريات أكثر بعدا، وكلّ الأشياء الأخرى، كلّ الأشياءوإضافةً إلى كلّ هذا، كان الجوّ حارّاً بشكل لا يُطاق.

ونحن، هنالك، كنّا مستقيمين تماماً في وقفتنا، فاغري الأفواه، ما عدا السّيّد "ه ن و"، الذي بقي، من باب الحذر، جاثماً على أربعوجدّتي، هنالك، بدأت تَضحكلقد قلتُ هذافجدّتي "ب ببكانت من زمن الإضاءة المُشَتّتة، وخلال زمن الإظلام بأكمله، كانت قد استمرَّتْ في الحديث بطريقة يُفهم منها أنّه، بين لحظة وأخرى، ستعود الأمور إلى ما كانت عليهوالآن، بدا لها أنّ تلك اللحظة كانت قد حلّتْ فعلا؛ في البداية، حاولتْ أن تتظاهر بعدمِ إيلاء أهمّية لما حدث، وبأنّها الكائن الذي يبدو له كلّ ما يقع طبيعيّاً؛ ثمّ، نظراً إلى كونها بقيتْ خارج اهتمام الآخرين، فقد بدأت تضحك وتُعنِّفنا:

أيّها الجُهّال... أيّها الجهلة...

ومع ذلك، فهي لمْ تكنْ حسنة النّيّة بشكل تامّ، أو ربّما كانت ذاكرتها قد فقدتْ مِنْ قُوَّتِهاوانطلاقاً ممّا كان قد فُهم، بادر أبي إلى القول، باحترازه المعهود:

أمّاه، أعرف ما الذي تريدين قوله، لكنْ، يبدو لي أنّ الأمر يتعلّق، رُبّما، بظاهرة مُختلفة...

وأشار إلى حيثُ الشّمس، وهتف متعجّباً:

انظروا حول أقدامكم!

خفضْنا أبصارناكانت الأرض التي نقف عليها ما تزال ركاماً هَلامِيّاً، شَفّافاً، وكانت تزدادُ صلابة وتكتسب كثافةَ لونٍ، بدءاً بمركزها الذي كان ضَرْبٌ من صَفارِ البَيْض يتراكم فيه، لكنّ نظراتنا كانتْ ما تزال قادرةً على اختراقها من طرف إلى آخر، إذْ كانت تلك الشّمس الأولى تُضيئُها بِقُوَّةوفي الوسط من تلك الفقاعة الشّفّافة، أعني الأرض، رأينا ظِلّاً يتحرّك، ويبدو كأنّما كان يسبح أو يطيروقالتْ أُمّنا:

ابنتي!

وبأجمعنا تعرّفنا على "غي(و)ن": فلربّما كانت الحرارة المُسْتعرة التي انبثقتْ من الشّمس قد أرعبتها، وجعلها ذلك، في اندفاعة من روحها المنعزلة، تغوص في المادّة الأرضيّة التي كانت تتكاثف، وها هي الآن تحاول أن تفتح لنفسها منفذاً في أعماق كوكبنا، وكانت تبدو مثلما فراشة من ذهب وفِضّة حين كانتْ تمرّ من منطقة بقيت مُضاءةً وشفّافة، ثمّ تختفي في دائرة الظِّلّ التي ما انفكّتْ تتعاظم.

هتفنا:

- "غد(و)نغد(و)ن!"

وارتمينا أرضاً مُحاولين بدورنا أنْ نفتح لنا مسلكاً، لنلحقهالكنّ سطح الأرض كان يتجمّد أكثر فأكثر ويصبح قشْرة ذاتَ مسامّ، وهكذا، فإنّ أخي "ر و ز ف س"، الذي كان قد نجح في حشر رأسِه بِداخل شَقٍّ في السّطح، وجد نفسه على وشك أنْ يُخنق بِشِدَّة.

بعدها، لم نَرَ الأخت أبداًكانت المنطقة الصُّلبة قد انتشرتْ في الجانب الأوسط من كوكب الأرضوكانت أختي قد بقيتْ في الجهة الأخرى، ولم أعرف قطُّ شيئًا عنها، ولمْ أَدْرِ إنْ كانتْ قدْ طُمِرَتْ في الأعماق أو أمكنها أن تنجو بجلدِها بالنّفاذ من الجهة الأخرى، وذلك حتّى اليوم الذي التقيتُها فيه، بعد زمن طويل جِدّاً، وقد تمّ اللقاء في كانبيرا، سنة 1912، وكانت هي متزوّجة بشخص يُدْعى سوليڤان، متقاعدٍ من الخدمة بالسّكك الحديديّة، كما كانتْ قد تغيّرتْ كثيراً، حدَّ أنّي بالكاد تعرَّفْتُ عليها.

وقد نهضنا، وكان السّيّد "ه ن ووالجدّة أمامنا، وقد أحاطتْ بكلّ منهما ألسنةُ لهب لازورديّة وذهبيّة اللون.

- "ر و ز ف س"! لماذا أشعلتَ ناراً في الجدّة؟ قال أبي بصوتٍ جهوريّ.

لكنّه، حين التفتَ ناحية أخي، رآه هو أيضاً مُحاطاً بألسنة اللهيبوكنّا كُلُّنا، أبي وأُمّي وأنا أيضاً، نحترق في النّارأو على العكسلم نكن نحترق، بل كنّا منغمسين فيما يشبه غابةً تُعمي الأبصار، إذْ كانت ألسنة النّار تتعالى حتّى ارتفاع شديد على سطح الكوكب كلِّه، وهكذا، فقد كان هنالك جوٌّ من نار وفيه كان بإمكاننا أن نجري وأن نُحَوِّم ونطير إلى الحدّ الذي تملّكنا معه حبورٌ جديدٌ علينا.

كانت إشعاعاتُ الشّمس قد بدأتْ تُحْرِقُ أغلفة الكواكب، التي كانتْ مِن هِلْيوم ومن هيدروجينوفي السّماء، حيثُ ينبغي أن يكون أخوالُنا، كانت تتدحرج كُراتٌ مُشتعلةٌ، ساحبةً خلفها أشرِطةً ذات أهداب تجمع بين الذّهبيّ والأزرق الفيروزيّ، مثلما تفعل بأذنابها المُذنّبات.

ثُمّ عادتِ الظُّلمةووقتها فكَّرنا أنّ ما كان يُمكن أن يَقَع قد وقع. «ها قد انتهى الآن ما كان قد استجدّ، قالت الجدّة، علينا أنْ نُصَدِّقَ القُدامى».

على العكس، فالأرض كانت بالضّبط قدْ أنهت إحدى دوراتها اليوميّةوكان الليل قد حلّوما استجدّ لم يكن إلّا في طور الابتداء.

ليست هناك تعليقات