أحدث المنشورات

مارسيل خليفة... دمعة حارقة كالصديد . .



هكذا أكُفُّ قليلاً ، عن عَبثِ المسافة وأخْترع لِنفسي كلَّ يومٍ عودةً مّا إلى البلد البعيد . ما كان النوم متاحاً إلاّ في ساعاتٍ متأخرةٍ من الليل ، أو في أختها المبكرّة من صباح الليل . ورأيتُ تدفُّق الحدث الدامي وكبرياء الألم في بيروت . حاولتُ إشغال نفسي بأمرٍ ما حتّى اتجنّب الحقيقة المُرّة . ولكن . .  تعب الغربة ، جحيم الوطن ، وكم كتبناه على لحمنا ونثرناه في قصائدنا  ، لم أفلح بالهروب .أرى ولا أرى ! أسمع ولا أسمع ! مطرٌ من الزجاج يصُبّ في أعماق الأبديّة . يصُبّ في غور سحيق .

الزجاج المتناثر مثل الدمع يغطي العيون . وَيَا للقلق الذي لم يكف يوماً عن مباغتتنا بلا رحمة .

كلُّنا على قلق ، نحتاج إلى خارقٍ ومعجزة !

كيف نقايض " كلنا للوطن " بغبار الدّمار المغزول بالدم والنَّار ؟

كيف انكسر  الأب كما ينكسر السَّرو العالي ؟  سحبوا منه طفلته ، وعلقوها على الهواء وصارت ألكسندرا  " نجمتنا "

وَيَا " عليّ  " جئتَ من أجل كيس طحين فطحنتك الأهراءاتْ .

وتلك الأم الثكلى ، المتشحّة بالسّواد ، تنادي ابنها " الحلو " صاحب العيون العسليّة . من الذي أهالَ على جسده المرهَف تراب التعب ؟ نهنهة البكاء لذلك المولود الخارج ، لتوّه من رحم أمّه في المستشفى المنكوبة . أيها الطفل الجميل ، لا أستطيع أن أتخيلك من غير أمٍ ومن غير أبٍ ، وسأنثرُ عليك ما في وسعي أن أنثر من زهر . . .

ثمّة كلب يعوي في ليل المدينة منتظراً عودة صاحبه الذي  طيّرهُ الانفجار الكبير وتبخّر .

كانوا هناك  : فوج الاطفاء ، العروس النائمة ، الناطور بثيابه المهلهلة ، صيّاد السمك بقصبته المتهالكة ، الرجل الذي يقف عارياً مصدوماً محموماً ، رافعاً ذراعيه في محاولة مستميتة لالتقاط المراكب السابحة في الفضاء . لا حَدّ ، أبداً ، لطاقة الأسى والعجز عن الامساك بأطراف سحيقة .

سماء من دخان ، أجساد تتسلّق الفضاء الشاسع ، نتطلّع بأبصارنا وبصائرنا الكليّة لنرى الحد الفاصل بين ما هو واضحٌ وما هو غامض .

بكاءٌ عاصف ، من يملأ فراغ الذين رحلوا ؟ والذين فقدوا ؟ من يملأ هذا الفراغ ؟ ما جدوى هذا العبث ؟ هنيئاً لأولئك الذين بلغوا الفردوس ! من ينتشلنا من هاوية السقوط ؟ من ينسانا تحت الركام على ضفاف المينا ؟ أين سترسو السفن ؟ وأين سترسو أحلام المدينة ؟ أفي وسع القمح أن ينبت في ساحة الشهداء ويصعد الى السماء ؟

أعترف بأني مخطوفٌ ، الآن ، إلى أمكنة الطفولة في بيروت ، وأخشى أن أشي ببوح " حميم " في وحشة قلبي المنطوي في العزلة . . يعود فيَّ الولد ، الذي كنتُهُ ليشتاق إلى مدينته الأولى .

كانت المدينة تستهويني ، وكنت أذرَعُها وحيداً في المساءات . طليقتان قدمايَ تَعْويان في الفضاء . كان ذلك عندما جئتُها ، على صهْوة حلميَ المبلّل برذاذ الطفولة ، لأدرُس في معهدها وعينايَ تَمسحان الناسَ والواجهات وسحرَها الخرافيَّ من شارع إلى شارع . ثمّ أتى الرصاصُ وأتتْ بعد حين الأغنيات العاشقات ينتحرن على شرفةِ وتر تنقره الأصابع في جنون ريشة النسرْ .

وهكذا سكنتني المدينةُ وروضّت صوتي على الوداعة . لم أعد قادراً على الحنين . أريدُ أيَّ مكان في مكان المكان كي اعود إلى ذاتي ، إلى باعة الصحف يصيحون ، ملءَ أصواتهم لاهثين ، بالعناوين الكبرى ، المقاهي الفائضة على الطرقات . أسواق المدينة ، وسط البلد ، ساحة البرج ، ساحة النجمة ، ساحة ساسين  ، مستديرة رياض الصلح ، الحمرا ، الروشة ، عين المريسة ، راس بيروت ، المنارة ، كورنيش المزرعة ، الأونيسكو ، سوق الخضار ، سوق السمك ، سوق العمومي ، سوق النورية ، سوق سرسق .

دور السينما ، الريڤولي ، الروكسي ، سينما اديسون ، قصر البيكاديلي ، التياترو ، مسرح فاروق .

الحنين إلى بيروت القبضايات وقنابيز وعصيّ خيزران وشوارب مفتولة . سقا الله !

ما زال في وسع ذاكرتي البيروتية أن تدلني على تاريخ أول الأشياء ، وأول الأسماء ، وأن أخترع صورة في المخيلّة الطيبة الهالكة في زمن الضجيج والوحشة .

تنفتح المدينة من المرفأ والتي تصعد بلا تعب ، وبلا ملل إلى تعرجات الجبال المحيطة لتصل القرى ببعضها .

كم كنّا نخشى أن تضيع منّا لحظة من فضائها الممتلىء بدهشةلحياة العامرة ، وماذا بعد ؟!

أصوات البواخر على رصيف الميناء تئنُ ، وإيقاعات أولى لقمر مكتمل ينبت  على راس الجبل وينزل مسرعاً ليسقط في بحر بيروت .

من أين ادخل في الوطن ؟

صديقي جورج  الحبيب قال لي صحّح النصْ من فضلك  : "لُذْ بالفرار قبل أن يهبط السقف عليك . اخرج من بابه البيعَتْ أخشابه . من نافذته الغربية التي سُدَّتْ بوجهك كي لا تتنشّق هواء البحر ، النهاية حتميّة ، والكل يعرف ، من القبطان إلى البحّار ، إلى ملاّح الصيانة  . قوارب النجاة قد ابتعدت وعلى متنها السارقين والفاسدين وكلابهم وبنادقهم وصناديق أمتعتهم وعطورهم وخمورهم وخزنات حديدية عليها أسماءهم المستعارة ، محكمة الاقفال لا تحرق ولا تَغرقْ . تقاوم الانفجار والاعصار ، بوصلة سقطت من جيب بحّار عتيق ، لا شرق فيها ولا شمال ، ولا جنوب ولا غرب ، كيفما قلبتها ، أشارت بلا مبالاة إلى القعر "

لم يبق حيّ سوى الموت  .

يتراكم الزجاج في كل مكان وتغيب المدينة مثل ميناء تهب نفسها للنيران . تنثرنا الدروب والشظايا وتجمعنا المفارق ونشقى في الشقاء مثل سفينة تهب نفسها للضباب .

تزحزحت الأرض من مكانها وتابعت دورتها المملّة ومدارنا الخاص المحظور يدمّر .

لا نرى النور ونراه . ينبغي ان نراه . ولا خيار لنا سوى بلوغ ذلك البصيص في نهاية ذلك النفق المظلم .

 دمعة اذرفها على مدينتي الموجوعة المجروحة

دمعة حارقة كالصديد

ولكِ سأغني . .

إرسال تعليق

أحدث أقدم
header ads
header ads
header ads