محمد خضير... الخطّ المنفرد (سكيتش سردي)

alrumi.com
By -
0



  تبدأ هذه القصة من ذكرى بعيدة، عائدة من محطّة قطار صحراوية شبه مهجورة.. بالأحرى تبدأ من خارطة قديمة لسِكك حديد العراق، اشتراها ناظر محطّة_ متقاعد_ صباح يوم جمعة من بائع تحفيّات في ساحة الميدان بالباب المعظم، مع مجموعة تذكارات تافهة تتضمّن ميداليات حربية وأزراراً فضّية وأقلام حبر، إضافة إلى قوري معدنيّ صغير، يصلح لإعداد طبخات الأعشاب، التصقت رائحة آخر طبخةٍ عشبية بفوّهته.

  كان الناظر المتقاعد قد واعدَ صديقاً، عمِلَ مساعداً له في نظارة محطّة قطار فرعيّة مدةً تربو على عقدين زمنيّين، بأن يلتقيه أمام كشْك بيع القرطاسية والصُّحف، المقابل للمحطّة العالمية، بجانب الكرخ. جلس الصديقان على الرصيف المقابل للمحطّة، وهما الآن يدقّقان في النقاط السُّود التي ترمز لمحطّات القطار صعوداً من البصرة إلى بغداد، تقابلها نقاطُ النزول من بغداد للبصرة: "لا أحبّ السَّفر قدر تذوّقي لطبخة شاي، لكنّي أفتقد شيئاً عساني أهتدي إليه على هذه الخارطة. هل وضعوا ما يدلّ على محطّتنا تلك؟".

  كانت خارطة سِكك الحديد ممزَّقة، منشورة بين يدي الصديقين، فانهمكا بلصق أوصالها بشريط لاصق اشترياه من كشك القرطاسية، ثم تبحّرا في مسافاتها بما تبقّى لهما من ذاكرة ونظَر وراء نظّارتيهما المغبرتين (غُبار القطارات المتقاطعة في بقاع مكشوفة).

  هنا.. وهنا.. دلائل وإشارات، محطّات بأسماء قُرى ومواقع أثريّة ومنازل متفرقة: الشعيبة، أرطاوي، الطوبة، النخيلة، تلّ اللحم، الخُضر، السَّماوة_ تتصاعد نقاطُها على الخارطة من طرف الجنوب حتى المحطّة المتوسطة، السَّماوة. وفي الاتجاه الشّمالي تتنازل النقاط الدائرية السُّود على الخارطة، ابتداء من محطّة كرخ بغداد، لتلتقي وسط مسافة السكّة الحديد بنقاط الجنوب.

  _ قد نعثر على سِرّنا هنا.. هل تراه؟

  _ لا أرى ما يشير إلى وجودنا يوماً في تلك المحطّة. أظنّها هُجِرت واندثرت فلم يكلّفهم ذلك رسمُ رمزٍ لها على الخريطة.

  _ هل شاهدتَ مثل هذه الخارطة قبلاً؟

  نفترض أنّ الناظر يتذكّر ملاحظات مندرسة من موقع المحطّة المهجورة تلك: بئراً مطويّة، جِلدَ أفعى منسلخاً، كتابةً غير مقروءة حُفِرت بآلة حادّة على وتدٍ كونكريتيّ ناتئ بجانب الطَّوار، أهمّها كلمات تشير الى تاريخ ٧ تموز ١٩٦٣ (ولعلّ الكتابة كانت بمسمار ناظر المحطّة أو أحد مساعديه اللذين شاهدا قطارَ بضائع يغادر محطّتهما ويتوجّه جنوباً بسجناء أحياء إلى سجن نقرة السلمان بصحراء السَّماوة في ذلك الصيف البعيد).

  أو نفترض العكس، فنتخيل ما تداوله الشخصان المنفردان في محطة القطار، أو أخفياه سرّاً بينهما، ولم يسجّلاه في دفتر يوميّات المحطّة، في ذلك اليوم الحارّ. (ليست تلك يوميّة اعتيادية أفشاها سائقُ قطار بضائع للرجلين اللذين تصدّيا له، عندما تلبّثَ القطار لحظات في محطّتهما.. الحمولة خاصة وسرّية جداً.. ما يحويه قطار البضائع كان بَشَراً.. أكثر من مئة ضابطٍ سجين، اتُّهِموا بالتآمر على نظام الحُكم، وحُمِلوا الى حتفهم في حاويات حديدٍ منصهرة بشمس تموز).

  _ حسناً، لم ندوِّن حرفاً عن هذه البضاعة البشرية في دفتر المحطّة. أتظنّ أصحابَنا نُظّارَ المحطّات السابقة أهملوا الأمر وكتموه، كما فعلنا؟

  _ أتشعر بذنب ما؟ أظنّنا سجّلنا شهادتنا على العمود الكونكريتي في المحطّة. ولن تستطيع الخرائط محو كلماتنا منه أبداً.

  _ أفهمك. كان السائق يعلَم بحمولته هو الآخر. طار بالقطار الى محطّته الأخيرة في السَّماوة. أخبرني بأنّها رحلة الموت التي ستطارده في منامه ويقظته مهما ابتعدت به السنوات.

  _ لعلهم استبدلوا اسماً آخر باسم محطّتنا.. أمّ العظام.. أترى هذا الاسم هنا في هذا الموقع شماليّ محطّة السَّماوة بفراسخ قليلة؟ لم أسمع بهذه المحطّة من قبل.

  يدقّق الناظر بنقطةٍ تكاد تندثر بين سلسلة الدوائر السُّود المتقاطرة كخيط نمل، حيث وضع المساعدُ إصبعه عليها، ويقول:

  _ لا أعتقد أنهم غيّروا شيئاً على الأرض. كان خطّنا منفرداً، ضائعا بين خطوط كثيرة متفرعة.

  _ سكّة منفردة؟ ماذا تعني بذلك؟

  _ خطّ حمولات سرّية. خطّ الموت.

  - مَن أعلمك بذلك؟ أأنت ابن عمّ الخرائطيّ الملعون، ذاك الذي حذفَ محطّتنا من خارطته.

  يعلم الناظر المتقاعد، من خبرته الطويلة في تداول البضائع والأخبار المتعلقة بها (أسلحة، جثث، إضبارات سجناء، كتب ممنوعة) بأن لا شيء يستوجب حذف اسم المحطّة المنفردة من خرائط السِّكك القديمة، إلا أن يكون الحذف جريمةً تضاف الى مئات الجرائم السياسية التي اقترفتها سلطاتُ عهود الظلام. وما قيمة ذلك؟ فالخطّ القديم حفَرَ أثرَه في شواهد كثيرة، كجدران سجن نقرة السَّلمان، حيث انتهت الرحلة بحمولتها البشَرية، قبل هدمه كلّياً، بعد سنوات طويلة من الرحلة.

  مهما كانت قيمة الخرائط، ووجود رجال سككٍ أحياء، يتساءل هذا التمرين عمّا يُضاف الى حوارات نظّار المحطّات المنفردة بين الخطوط المتشابكة، ماضياً وحاضراً. ما عسى أن يضيف رسّامٌ طبوغرافيّ معاصر (يستعين بالأقمار الصناعية والحواسيب الذكيّة) إلى تفرّعات شبكة الأقدار المتماثلة، وآثار الخطوط القديمة؟ أيّ الرموز يثبّت على خارطته، وأيّها يحذفه منها، لتتواءم تضاريسُ الصحراء المترامية وحفريّات هذه القِصّة؟ وبالأحرى، أيّة نهاية قصصيّة موازية، أو متقاطعة، تُوضَع بدلاً من النهاية المعروفة عن حمولة قطار الموت تلك، المتداولة على الألسُن، وتحتويها مذكراتُ مَن عاشوها بعد إطلاق سراحهم من السجن الصحراويّ؟

Tags:

إرسال تعليق

0تعليقات

إرسال تعليق (0)