أحدث المنشورات

جان داية... المؤثِّرون الثلاثة ملحق النهار


 

قبيل الاجتياح الاسرائيلي للبنان عام 1982، طرت من لندن الى نيويورك لنبش وثائق خاصة برواد النهضة في لبنان وعموم بلاد الشام، وتصويرها. في طليعة هؤلاء المعلم بطرس البستاني والإمام عبد الرحمن الكواكبي وجبران خليل جبران. اضافة الى مقابلة عدد من الاصدقاء الذين هجّرتهم بوسطة عين الرمانة، منهم العازفة ديانا تقي الدين التي يقول والدها سعيد ان من لا يطرب لعزفها على البيانو يحسن به ان يقتطع أذنيه. ولما كانت تلك باكورة رحلاتي الى "اميركانيا"، على حد تعبير جبر ضومط، فقد تبرع الدكتور ادمير كوريه بمرافقتي لزيارة وحيدة سعيد تقي الدين. في الطريق الفاصل بين المترو ومقر البعثة اللبنانية، التقينا أولاً بأحد قدامى أعضاء الحزب القومي، فأبلغه ادمير، بصفته مسؤول الحزب في نيويورك وعموم اميركا الشمالية، بموعد المهرجان الحزبي. هنا، سأله الرفيق العتيق عما اذا كان بلّغ "الأمين غسان تويني". أجابه ادمير ان غسان تويني لم يُمنح رتبة الأمانة، ناهيك بأنه ترك الحزب منذ ربع قرن. لم يقتنع صاحبنا بالمعلومتين، ربما لأنه حضر مهرجاناً حزبياً مماثلاً في العام 1946 وقد دعاه اليه مسؤول الحزب في بوسطن وعموم "اميركانيا" غسان تويني. ما إن ودعنا شيخ الشباب، حتى التقينا برفيق آخر لادمير الاكاديمي لا الحزبي. فكانت حفلة تعارف بالدكتور الجامعي الذائع الصيت ادوارد سعيد الذي التقيته للمرة الأولى والأخيرة أيضاً.


أخيراً وصلنا الى مكتب العازفة التي كانت تقوم بوظيفة بعيدة عن العزف، هي سكرتيرة البعثة ورئيسها.

بعدما قدمت لها، كالعادة، تقريراً مفصلاً برحلتي السعتقية، اخبرتني ان والدها خيّرها بين درس اللغة العربية أو لغة الموسيقى، فتخصصت بشوبان وأهملت اليازجي. أبدت اسفها لأن جهلها للغة الضاد حرمها الاستمتاع بقراءة ساخر بعقلين. في نهاية اللقاء، أبلغتني بل فاجأتني بأن الأستاذ غسان ينتظرني.


قبل السلام، سألني: بَعدك قومي؟ أجبته، مداورةً، حين قدّمتُ إليه الدكتور ادمير كوريه، ابن الجزيرة الشامية المقيم في مانهاتن، على انه مسؤول الحزب القومي في "اميركانيا". فابتسم مواصلاً طرح الاسئلة وأحياناً الأجوبة، في ذلك اللقاء الأول، على رغم مرور أكثر من عشر سنين على مساهماتي في تحرير "الملحق" الثقافي وصفحة "النهار" الثقافية، والطويل على غير عادة لقاءات الاستاذ القصيرة حتى لو كانت "غمة طمة".


بسرعة، وبلا مقدمات، قلب الصفحة على مؤسس "الاحرار" و"النهار" فقال: دشّن والدي حياته الصحافية بمقال صغير نشره في مجلة "المنار" البيروتية. فهلا ساعدتني على نبشه بعد ان "كعيت" في العثور عليه؟ فاجأته حين وعدته بأن أرسل إليه المقال بالبريد المضمون فور عودتي الى لندن! وعاد الى التساؤل ليطمئن قلبه: يوجد اكثر من جبران تويني، فهل أنت متأكد من ان المقال الذي سترسله اليّ هو من نظم الوالد وتلحينه؟ عدت الى الجواب الذي يقطع الشك باليقين: ان المقال الذي سأرفقه بحبة المسك المعهودة، موقّع بالاسم الثلاثي: "جبران اندراوس تويني"! قال: لقد اطمأن قلبي، ولكن ما حكاية حبّة المسك؟ قلت: ما سيصلك ليس فقط المقال الباكورة المنشور في "المنار" الارثوذكسية، بل ايضاً المقال الثاني، ودائماً المنشور تحت العنوان الدائم "يسؤوني".

من جديد قلب الصفحة حيث قال وهو يشير باعتزاز الى ثلة من المجلدات – التقارير: غداً، أي بعد 25 سنة، سنقوم برحلة مماثلة الى مركز التوثيق الديبلوماسي في واشنطن دي سي للتعريف بمحتويات التقارير اللبنانية، تماماً كما تفعل مع التقارير البريطانية والفرنسية والاميركية. اضاف: هذه التقارير مذيّلة بتوقيعي، وهي تبتدئ ببداية مهمتي كرئيس للبعثة اللبنانية في الأمم المتحدة، وتنتهي بالتقرير الاخير الذي أختم به مهمتي الديبلوماسية بعد اسابيع. ولما كنا في المكتب الذي تعاقب على الجلوس فيه كل رؤساء البعثة اللبنانية في الأمم المتحدة ومجلس الأمن، فقد نوّه بأبزرهم وهو الدكتور شارل مالك، ليس فقط كقدوة له كسفير في نيويورك، بل ككبير أساتذته في الجامعة الاميركية البيروتية.

***

هل كانت مصادفة أن ينوّه الاستاذ بالفرسان الثلاثة: الصحافي جبران تويني، والزعيم أنطون سعاده، والدكتور شارل مالك؟

بعد أربع سنين، حل الاستاذ ضيفاً على مجلة "المنبر" الباريسية، فكانت مقابلة صحافية طويلة عريضة اشتركتُ مع الشاعر طلال حيدر في طرح أسئلتها، ونُشرتُ وقائعها في العدد العاشر الصادر في 1 كانون الأول 1986. رداً على سؤال يتمحور على تأثره بوالده جبران تويني، أجاب: "في حديث مع أدونيس ويوسف الخال وطلال حيدر، قلت بأن شخصيتي من الوجهتين الفكرية والادبية، هي حصيلة اجتماع ثلاثة تأثيرات أساسية: والدي كصحافي، وأنطون سعاده، وشارل مالك. وأنا، باستمرار، أرى نفسي من خلال الثلاثة مجتمعين، بدليل أن تأثري فيهم يبقى في دائرة التأثر ولا يتعداها الى دائرة الانتساب الكلي. كذلك، فإن علاقتي بهم هي علاقة داخلية لا خارجية تنطوي على محبة كبيرة لهم. ومن خلال هذه المحبة انتقدتُ الثلاثة. فقد انتقدتُ شارل مالك وأنطون سعاده. كذلك انتقدتُ والدي عندما كان يتحدث عن "الأمة اللبنانية العربية"، وكنت آنذاك تحت تأثير مدرسة الزعيم – سعاده – من حيث التفكير العلمي. من هنا، بقيت بعيداً عن اطار "التلمذة" الكاملة لأيٍّ منهم، مع معرفتي بأن شارل مالك، وهو الحي الوحيد بينهم الى الآن، يتبرأ مني، وأنطون سعاده "لم يقصّر". أما والدي فقد خابت آماله فيّ. فمنذ أول عهدي في الصحافة، كان همّي أن أعمل عكس ما يعمله والدي، وهذا شأن طبيعي بين كلّ ابن وأب، حيث تصرفت مهنياً معه كما كنت أتصرف في البيت. لذلك ترى صدري فسيحاً الآن (لا حول ولا قوة) تجاه جبران غسان تويني. ولست على استعداد لأن اضيّع الوقت في "مشارعة" ابني كما ضيّع والدي وقته معي".

وكرر الاستاذ عناوين هذه المعلومة وخطوطها العريضة في أكثر من مقابلة. بل انه دخل في التفاصيل، في "الحديث الثالث" الذي نشر في كتابه "سرّ المهنة وأسرار أخرى" المؤلف من 590 صفحة من القطع الكبير، وقد ضمّنه مذكراته التي صيغت بأسلوب حواري. وحسناً فعل حين وزّع ذكرياته على أجوبته القصيرة والكثيرة. فتويني ساخر أصيل بالشفهي، وبالحوارات لا المقالات والدراسات. لذلك حفلت المذكرات باللون الساخر المتسم بالعفوية والرشاقة.

على سبيل المثال، نقرأ العبارات والآراء التي لم ترد في "المنبر": "من الدكتور مالك تعلمتُ، مع الفلسفة، ضرورة الشمول في النظرة، فلا تتعامل مع الاحداث، ولا تتعامل مع الانباء خصوصاً، من غير أن تحلّها في اطارها الأشمل... ومن أنطون سعاده تعلّمتُ الى العقيدة، نظام الايمان بعقيدة، وتربية النفس بالنظام... فضلا عن أمثولة الاستشهاد التي هي التكريس التاريخي والمناقبي الوحيد لأية مثالية... أما من أبي فتعلمتُ كل شيء آخر، من التعامل مع الناس، الى معاملة القلم، الى معاشرة القارئ الى إرث الصداقات. حزني الكبير اني لم اتتلمذ على يده عملياً وبشيء من الاستمرارية، مع يقيني بأن الابن ليس سرّ أبيه بقدر ما هو سرّ الابن أن يثور على صورة الأب وما يمثل، حتى عندما يتشبّه به".

لكن ما هي الاشياء الثمينة الأخرى غير ارث الصداقات والعلاقات الاجتماعية، التي ورثها وتعلمها غسان من أبيه؟

في العدد الأول من "الأحرار المصورة" الصادر في 11 كانون الثاني 1926 بدأ رئيس التحرير جبران تويني يذيّل باب "على المكشوف" الذي يحتل صفحتين بتوقيع "أبو غسان". في الصفحة العاشرة من العدد نفسه، وتحت عنوان "أبو علي وأبو غسان" كتب "جابر": "رزقني الله غلاماً منذ أيام. وضعته والدته في مستشفى ربيز. وكنت خارجاً من المستشفى يوم الولادة فلقيني صديق حميم فقال بماذا أهنئك؟ قلت: بمولود ذكر. قال: لا تنسَ شوقي. فحسبت انه يشير الى أني سأخبر أحمد شوقي بك لينظم الأبيات التي وعدني بها – يوم كان في لبنان – إذا رزقني الله مولوداً ذكراً. فقلت إني سأكتب اليه حالا. قال اني أريد أن أقول لك لا تنسَ شوقي. أي لا تنسَ ما قاله يوم رزقه الله غلامه علي إذ أنشد:

صار شوقي أبا عليّ/ في الزمان الترللّي.

في المناسبة، سألني الاستاذ في مكتبه البيروتي يوم كانت مكاتب "النهار" في شارع الحمراء، ما إذا كنت تصفحتُ مجلد "الأحرار المصورة". وقبل أن أجيبه، عاد ليسألني عن رأيي في إعادة طبعها. ولما كان واثقاً من أني تصفحتُها وأعجبتُ بها، فقد ألحق السؤالين بثالث: ماذا لو أعدت قراءتها وأعددت دراسة عنها، لتتصدر الطبعة الجديدة الى جانب افتتاحيتي؟ وهكذا كان. ومن المرجح بل المؤكد ان توقيع "أبا غسان" الذي ولد بولادته وهو الابن البكر، اضافة الى الأسلوب الساخر الذي انتهجه أبو غسان في تحرير باب "على المكشوف"، ناهيك بخبر الولادة، وقد ورثه الابن بالشفهي كما تدل مقابلاته التلفزيونية والصحافية وكتابه "سر المهنة"... كانت بين الدوافع التي جعلته يعيد طبع المجلد الصادر بين عامي 1926 و1927.

على ذكر الوراثة، ثمة شيء آخر ورثه غسان عن أبيه هو الأثمن والأقدم: الموهبة. جبران ولد في العام 1890. وعندما أصبح في الخامسة عشرة، دشن حياته الصحافية بالمقالتين الساخرتين المتواضعتين اللتين نشرهما في "المنار" في العام 1905. غسان المولود في العام 1926، نشر قصيدة بالفرنسية عنوانها A la brise في مجلةLa Revue du Liban في 29 أيلول 1941، أي يوم كان في الخامسة عشرة، وقد نوه بذلك رئيس التحرير في تقديمه الشاعر الناشئ. كذلك دشّن غسان مقالاته في "النهار" بمقال عن الحياة المدرسية عنوانه "التلميذ بين مديره ومعلمه" نشر في 27 شباط 1942، ولكن بتوقيع مستعار "المُضرب".

يلحظ الأب موهبة الابن، ويقرر مساعدته في تفجيرها، عندما نقّح المقالة ونشرها في صدر الصفحة الأولى. على ذكر الموهبة المبكرة، فما لم يرثه غسان عن جبران هي العصامية. ذلك انه ورث عن أبيه جريدة "النهار"، وتمكن بمساعدته من دخول الجامعة الاميركية في بيروت وجامعة هارفرد في بوسطن. في حين دخل الطفل جبران تويني مدرسة "الثلاثة أقمار" بواسطة الشيخ ابرهيم المنذر، واضطر الى ترك المدرسة بعد السرتيفيكا ليعمل صفّيفاً للأحرف في المطبعة، التي كان يمتلكها أصحاب "المنار". وعندما أصدر أصحاب المطبعة و"المنار" جريدة "باريس" في باريس عام 1908، انتقل تويني الى العاصمة الفرنسية ليدير المطبعة ويحرر بعض أبواب الجريدة. وتولى سكرتيرية تحرير "نهضة العرب" التي أصدرها رشيد المطران في باريس عام 1909، بعد توقف "باريس" عن الصدور. ولما توقفت الأخيرة بعد عام أيضاً، دفعت عصامية جبران الى الانتقال الى مصر أسوةً بمئات الشوام، فتولى رئاسة تحرير جريدة "الدلتا" في المنصورة حيث كانت تقيم أدال سالم التي أصبحت زوجته، وراسل "الاهرام" و"المقطم" و"المحروسة". وفي العام 1923 عاد الى بيروت، ليتوج عصاميته بعد عام بجريدة "الاحرار" التي اصدرها مع خليل كسيب وسعيد صباغة، وبجريدة "النهار" التي تفرد بإصدارها في العام 1933. وحفّزت عصامية الاب، الابن الى تطوير "النهار" التي كانت تصدر بأربع صفحات، بإكثار عدد الصفحات والمحررين، اضافة الى اصدار دوريات اخرى، ناهيك بالمطبعة ودار النشر وشركة التوزيع. هذه النقلة النوعية فريدة في العالم العربي باستثناء ما قام به اميل زيدان الموهوب الذي ورث "الهلال" عن ابيه العصامي جرجي زيدان فطوّرها واصدر معها "المصور" و"الاثنين" و"الفكاهة" وغيرها. من الاشياء الثمينة التي ورثها غسان عن جبران: العلمانية. كان الأب يحث ويكتب انطلاقاً من مبدأ ان الدين لله والوطن للجميع. بل ان علمانيته كانت اقرب الى علمانية شبلي شميّل الملحدة منها الى علمانية المعلم بطرس البستاني "المؤمنة". لذلك، كان مستغرباً للأب انتساب الابن الى حزب الكتائب في مطلع حياته. واذا كان مقبولاً لديه انتساب ولي العهد الى الحزب القومي المعروف بعلمانيته، فقد انزعج من هذا الانتساب لحزب يقول بسوريا الطبيعة اولا، وبلبنان كنطاق ضمانه للفكر الحر، ثانياً، وبالعروبة ثالثا، في حين قال هو بلبنان اولاً وبالعروبة – وليس القومية العربية – ثانياً واخيراً. ولم يرض عن عضوية ابنه في حزب سعاده، الا بعد أن لبنن رئيس الحزب نعمة ثابت وبعض المسؤولين في القيادة أمثال مأمون اياس واسد الاشقر، المبادئ والنهج السياسي، في أواسط اربعينات القرن الماضي، حيث كان المؤسس والزعيم منفياً في الارجنتين. وما دامت نهاية المقطع الخاص بجبران تويني قد أدخلتنا في بداية المقطع الخاص بأنطون سعاده، فلا بأس من متابعته.

انتمى تويني الى حزب سعاده في العام 1943 يوم كان طالباً في الجامعة الاميركية. وفي العام 1946، انتقل الى جامعة هارفرد لاكمال دروسه. وصادف وجوده في بوسطن، استقالة مسؤول الحزب في الولايات المتحدة فخري معلوف – عم أمين معلوف – الذي كان سعاده يعتبره المفكر الاول في حزبه. وبرغم أنه لم يتجاوز العشرين ربيعاً، فقد تولى تويني مسؤولية ضابط الارتباط بين زعيم الحزب المنفي طوعاً الى الارجنتين، وقيادة الحزب في بيروت التي كان نعمه تابت الأبرز فيها على المستوى الاداري، وفايز صايغ الابرز على الصعيد الثقافي والاعلامي. وحين طلب معلوف من زعيم حزبه أن يحلّه من قسمه – وهو طلب يحصل للمرة الاولى في الحزب القومي وربما في الاحزاب الأخرى – لسببين، أحدهما سلبي وهو عدم موافقته على مقال سعاده "نفوذ اليهود في الفاتيكان"، والثاني ايجابي وهو اعتناقه الكثلكة التي حلت مكان المذهب البروتستانتي. رفض سعاده طلبه معللاً ذلك بأنه تناول نفوذ الصهيونية في دولة الفاتيكان وليس في العقيدة الكاثوليكية، اضافة الى أن حزبه لا يتدخل في مذاهب اعضائه ما داموا مؤمنين بمبدأ فصل الدين عن الدولة. ولكن، امام الاصرار النهائي للحل من القسم، أصدر سعاده مرسومين، طرد في الأول الأمين فخري معلوف، وعيّن في الثاني الرفيق غسان تويني منفذاً للولايات المتحدة، اضافة الى مسؤوليته كضابط ارتباط بين الزعيم في الارجنتين وقيادة الحزب في بيروت.

لكن عضوية غسان تويني ومسؤوليته الرفيعة في الحزب القومي سرعان ما تبخرتا على رغم تناغمه مع سعاده في شأن معلوف، ويعود سرّ التبخّر الى اصطفاف تويني مع الدكتور فايز صايغ الذي لعب دوراً كبيراً في اقناعه بمبادئ الحزب، بعدما وقع خلاف اداري – فلسفي بين صايغ الذي كان يتولى عمدة الاذاعة وزعيم الحزب. بعد عودة سعاده من مغتربه القسري في 2 آذار 1947، حاول اقناع صايغ بتبني منهجه هو في ادارة العمدة، والاستمرار في الايمان بفلسفته ازاء قيمة الحرية. وحين باءت محاولته بالفشل، طرده من الحزب مع بعض المتضامنين معه وفي طليعتهم يوسف الخال وغسان تويني. مع ذلك، فقد نشر الاستاذ افتتاحية في "النهار" عنوانها "سعادة المجرم الشهيد" رداً على اعدام زعيمه السابق بعد اجراء محاكمة صورية وسريعة، فاعتقل لمدة ثلاثة اشهر، وظل يلعب السيف والترس مع الرئيس بشارة الخوري كتابة واعتقالاً، خصوصا بعد ترشحه باسم الحزب وفوزه في المعركة النيابية، الى ان اضطر الرئيس الى الاستقالة تحت ضغط المعارضة التي كان الحزب القومي أحد اركانها. كانت المفاجأة الثانية بعد مفاجأة الافتتاحية والنيابة. فقد استأنف تويني نشاطه الحزبي، وكان من المرحّبين بسعيد تقي الدين عبر افتتاحية نهارية بعيد انتمائه الى الحزب القومي في تشرين الاول 1951. ومع انه جمّد عضويته في اواخر خمسينات القرن الماضي، فقد تساءل في مستهل محاضرته "سعاده: القضية والتغيير والأبعاد" التي ألقاها في قاعة عصام فارس في 20 أيار 2004: "هل أنا لا أزال عضواً في الحزب؟ وقد طرح عليّ هذا السؤال الرئيس حافظ الاسد اكثر من مرة، منها مرة في حضور الرئيس أمين الجميل". ويعود سر أو بالأحرى اسرار ذلك، إلى تأثير سعاده عليه في حادثة إعدامه في 8 تموز 1949، وقد عبّر عن "أمثولة الاستشهاد" كتابياً في "سر المهنة" وعملياً "نوستالجيا" حين كان يطلب من سائقه رفيق ابو فاضل اثر المحاولة الانقلابية في اليوم الأخير من العام 1961 كي يمرّ قرب ثكنة المير بشير حيث اعتقل الدكتور عبدالله سعاده ومئات المسؤولين والكوادر، على رغم انه كان يسكن في الأشرفية، والطريق بين مكاتب النهار ومنزله لا تمر عبر كورنيشي المنارة والمزرعة. يكمن السر ايضاً في تعميق سعاده لعلمنة غسان التي ورثها عن والده، وفي أمور أخرى.

لنقلب الصفحة على الأرثوذكسي الثالث الذي يتذكره الاستاذ كمؤثر فيه خصوصاً في توسيع بيكار تحليل الأحداث الاقليمية وربطها بنظيرتها العالمية، كما اشرت سابقاً نقلاً عن مذكراته في "سر المهنة". لم يكتفِ الاستاذ بإبداء إعجابه بأستاذه في هذه الناحية من منهجه في كتابة التعليق الدولي، بل هو كرر ذلك في مقال "شارل مالك في واشنطن" المنشور في "النهار" بتاريخ 21 كانون الأول 1957. يقول تويني في الافتتاحية التي تمحورت على لقاء وزير خارجية الولايات المتحدة وقتذاك جون فوستر دالاس بوزير خارجية لبنان شارل مالك، والتي مرّ عليها الزملاء مرور الكرام خصوصاً في لبنان: "شارل مالك من القلائل الذين أدركوا ان لقضايانا اطاراً أوسع هو العالم الذي أصبح – في عصر الصواريخ خصوصاً - عالماً واحداً، فحرصوا على ان يكوّنوا لأنفسهم رأياً في أوروبا وقضاياها مثلاً، أو في الشرق الأقصى ومشاكله، ناهيك بموقفهم من قضايا قد لا يبالي بها رجال الدولة عندنا كنزع السلاح مثلاً، أو تصنيع الدول المتخلفة النمو في أقاصي المعمورة. إذ ذاك يقدر لبنان ان ينال لقضاياه اكثر ما يمكن ان ينال بلد مثل لبنان، لأن قضاياه توضع في اطارها الصحيح، الاطار العالمي. ذلك ان "سرّ ديبلوماسيّة الدولتين الكبيرتين أميركا وروسيا، في استحالة اتباع اي منها سياسة محلية أو أقليمية حيال أية قضية بمعزل عن انعكاسات هذه السياسة في مواضع أخرى من الاطار الكوني. هنا قوة شارل مالك".

وكانت للفلسفة التي ترأس مالك دائرتها في الجامعة الأميركية ودرّسها لتلاميذه، تأثيرها القوي في غسان، بدليل اختياره "مفهوم الحرية عند إيمانويل كانط" عنواناً لأطروحته في جامعة هارفرد.

صحيح انه لم يكمل الدراسة بسبب اضطراره للعودة إلى بيروت نتيجة وفاة والده والتفرغ للعمل الصحافي في "النهار"، لكن حنينه إليها وتداوله لبعض العبارات الفلسفية وأسماء بعض الفلاسفة، لم يتوقف طوال حياته. وإذا كان التأثير الفلسفي قد جرى في الطالب غسّان تويني، فإن منهجه في العملين الديبلوماسي والوزاري لم يخل من بصمات السفير ووزير الخارجية شارل مالك، التي تقاطعت مع بصمات السفير جبران تويني. وبقدر ما كان النائب تويني مختلفاً في أدائه عن أداء النائب مالك، فإنه تأثر بالوزير مالك كما هو ظاهر في مقاله عنه. وإذا كان تأثر تويني بوالده السفير بارزاً لجهة تخليه عن رئاسة "النهار" لصالح ترؤس سفارة، فإن تأثره بمالك يوم كان الأخير ينافس فارس الخوري رئيس البعثة السورية في الأمم المتحدة، في مجابهة سفراء إسرائيل وداعميهم في مجلس الأمن، والانتصار عليهم، لا يحتاج إلى دليل.

ولكن، ماذا عن ارثوذكسية مالك؟ لقد كانت غير مؤثرة في أرثوذكسية جبران تويني وأنطون ساده، مع الفارق الكبير في الأسباب. مالك الأرثوذكسي البطرامي الكوراني، كان متحمساً للكثلكة على حد تأكيد صديقه اللدود سعيد تقي الدين. وأبو غسّان تردد في عمادة أولاده لأنهم ورثوا المذهب ولم يختاروه. وسعاده الزعيم كرر فعل إيمانه بمبدأ فصل الدين عن الدولة، وعلى الصعيد الشخصي عاش الـ45 عاماً من غير ان يعرف أحد إذا كان ملحداً أو مؤمناً

إرسال تعليق

أحدث أقدم
header ads
header ads
header ads