مقدمة:
ليس بالأمر الصعب أن نأخذَ قلمًا
ونبدءا بكتابةِ التاريخ؛ نرتبُ الوقائع ونحللُ الأخبار، ونستخلصُ العب. ألاّ أن
نكتبَ تاريخ لبنان، فهذا أمرٌ صعب!
فما يزالُ، بعد ستين عامًا من
الإقرارِ بدولة لبنان، موضوع جدلٍ ونزاعٍ بين الباحثينَ والمؤرخين. حتى لطالما
طـُرحَ السؤال: هل تاريخ لبنان موجود؟ أو بشكلٍ آخر، هل للبنان تاريخٌ مستقلٌ
يستحقَ أن يُكتب؟ [1]
يكتسبُ هذا السؤال أهميةً خاصة؛ ذلك
أن تاريخ لبنان ليس موضوعَ
معرفةٍ فقط؛ بل هو موضوعُ انتماء أيضا. ويؤكد احمد بيضون في موضوع الصراع على
تاريخ لينان ان "الجماعات المتناوئة داخل لبنان الكبير يضع كل منها لفرادة
تاريخ دائرة جغرافية وبعدًا في الزمن خاصين به".[2] من هنا، تأخذ عبارة أسد
رستم: إذا ضاعت الأصول ضاع التاريخ[3]، بُعدًا مهمًا. ويقول
ايضًا في السياق ذاته ان التاريخ يقوم على الآثار التي خلفتها عقول السلف، فاذا ما
سطت عليها محن الدهر وضاعت او أزالت معالمها، فقدها التاريخ وكانت كأنها لم تكن.
وتكون النتيجة وكأنها لم تكن .
فهو من الأوائل الذين آمنوا بأن
التاريخ لا يقوم إلا على الآثار المتَوَارثة عن السلف؛ فإن ضاعت، يضيعُ معها
تاريخُ عصرِها ورجاِلها. ورأى انه لزامًا على المؤرخين قبل كل شيء ان يتفرغوا
للبحث والتفتيش عن شتى الآثار التي تخلفت عن السلف والتي "اصطلحنا ان نسميها
اصولاً".[4] فاهتم سنة
1936، وحتى قبلَ أن يُعلنَ عن استقلال لبنان، وتفرّغَ للبحثِ والتدقيق عن شتى
المراجع الأصلية وقام بتحقيقِ ونشرِ هذا التُـراث الثمين.
وهو يُذكـِّرُنا بمسؤوليةِ الحفاظِ
على الأصول العربية المهمة لتاريخ لبنان التي إذا عُرفت فقد حُـفظ التاريخُ فيها.
ويعتبرُها قاعدةً عامة لا تقبل الجدل؛ وأن لا سبيلَ إلى وضع تاريخ لبنان الصحيح ما
لم تُعرَفُ الأصول المدوّنة، فتـدرَسُ نُسَخُها، وتـُقابَـَلُ رواياتُها، وتـُنشرُ
النشر العلمي الأمين.
اخترتُ لهذه المداخلة ثلاثة مراجع
تناولت تاريخ لبنان، قام بتحقيقها ونَشرِها أسد رستم بالاشتراك مع فؤاد افرام
البستاني وهي: تاريخ الأمير فخر الدين لأحمد الخالدي الصفدي، كتاب الغرر الحسان في
أخبار أبناء الزمان وضعه الأمير حيدر احمد الشهابي، منتخبات من الجواب على اقتراح
الأحباب لميخائيل مشاقة لم يشارك البستاني في تحقيق هذا الكتاب.[5]
لن أتطرقَ في هذا البحث لا إلى منهجية
أسد رستم في التحقيق، ولا إلى أسلوبِه. لانني عند العودة الى كتاب صلاح الدين المنجد
حول قواعد تحقيق المخطوطات وجدت ان اسد رستم هو من المحقيق الذين يحبذون تقديم المخطوط
صحيحًا كما وضعه مؤلفه دون الافراط في الشرح والهوامش؛ فنلاحظ انه رجع الى اكبر عدد
من النسخ وقارن بينها وقدم الفهارس الدقيقة لتيسير الافادة مما في هذه الكتب وجعل مضامينها
في متناول كل باحث.[6] لهذا سوف تقتصر غايتي في هذا البحث على تبيان
مساهمةَ هذه الأصول التي ذكرت، في كتابة، أو مراجعة، تاريخ لبنان الحديث الذي كثُـرَ حولَه
المتجادلون حتى أصبح لكل طائفةٍ ومنطقةٍ تاريخَها الخاص، فتعددتِ الرؤى، وبات من
الصعب تَبيانُ الحقيقة عن الخيال.
تاريخ الامير فخر الدين:
لم يترك لنا الخالدي الصفدي
تاريخًا شاملاً عن الأمير فخر الدين بل تناول الحقبة بين سنة 1612 وإلى 1623. وهي
الفترة التي شَهِدت توترًا في العلاقة بين الأمير والدولة العثمانية. ويبدو من
مقدمة الكتاب أن الأمير طلب إليه أن يدونَ لتلك المرحلة. أن يطلب الأمير تأريخًا
لحياته السياسية، أمر غير مستغرب. ولكن لماذا هذه الفترة بالذات؟ هل يدخلُ هذا من
باب التماس الصفح عن خطاءٍ ما؟ أو أنه من بابِ التزلفِ للولاة العثمانيين وتأكيدًا
على البقاء ضمن ما يسميه أسامة مقدسي "حيز الطاعة"[7]
الذي فرضته السلطة العثمانية على أتباعِها؟ فالأميرُ يعلم، أن الشرعيّة تُعطى من
السلطان مقابل الانضباط وتوفير الأمن. ويتدخل الصفدي ليؤكد ولاء فخر الدين التام
والغير منقطع للدولة، فكلُ ما وصل إلى باب السلطان، هو وشايةٌ من الخصومِ والحساد.
فالأمير مُلتزم تسديد الضرائب في مواعيدها، مُحافظٌ على الأمن والاستقرار في مناطق
نفوذه.[8]
كما يحوي الكتاب على مغامرات
الامير علي ابن الامير فخر الدين في حوران وشرق الاردن. فالامير علي كان اليد
المينى لوالده في جميع اموره. رافقه في التصدي للاعداء وقُتل حاملاً لواءه. وقد تفرد
الصفدي بمعلومات عن حياة هذا الامير قلما نجدها في مراجع اخرى.
يتبيـّن لنا من رواية الصفدي
الخضوعَ الشبه التام الذي اتسمت به علاقةُ الولاة المحليينَ بالسلطان؛ وضرورةَ
استعادةِ الدولة لهذا الخضوع كلما حصل انحرافٌ من احدهِم أو تعدى طموحُه الحدودَ المرسومة
له. هذا مع العلم أن تاريخَ المعنيين، بشكلً خاص، كان سلسلةً من الثوراتِ ضد
السلطةِ المركزيةِ يصفُها عبد الرحيم أبو حسين بالثورة الطويلة The Long
Rebellion [9] وإذا استعرنا اصطلاحًا حديثًا نسميها بالثورة المستدامة؛ ثورةٌ
دفعها الطموحُ حينا والمحافظةُ على الأرض أحيانا أخرى. وبحسب الصفدي، فإن العلاقةَ
بين فخر الدين والولاة لم تختلف كثيرًا عن سابقاتِها. فيخبرُنا عن معارك شبه متصلة
بينهم. مع تبريراتٍ لتحركاتِ الأمير لا تنتهي، ورشقٍ للخصوم لا ينْضب. وفي الوقتِ
ذاتهِ، نرى أن الصفحَ لم يكن بعيدًا.[10]
فيتم الصلح بزيادة حصة الوالي من المال المحصّل؛ على أن تتناسبَ القيمةَ مع قوة
الوالي ونُفُوذِهِ. وكي تتمَ صورةَ الولاء، يؤكد الصفدي على تمسكِ الأميرْ
بالشريعةِ الإسلاميةِ والمحافظةِ عليها. فهو: فخر الدينِ وعمادُ المساكين. [11]
ومن المعروفِ أن موضوعَ الإيمانِ
أو الكفرِ عند الدولة العثمانية كان في الغالبِ يُستعملُ كوسيلةِ ضغطٍ أو تحذير،
ولم يكن تعبيرًا عن عداءٍ دينيٍ مطلق. فما أن تنتهي المشكلة أيـًّا كانت – ذهاب
فخر الدين إلى توسكانا مثلا - يتلمّسُ
الأميرُ الرضا فتـُرمَمُ علاقتـُه مع الدولة وتستعادُ مكانتـُه ويـُردُ اعتبارُهُ،
فتنمحي ذكرى الإثم والتدنيس.
ومن الملفِتِ أن المؤرخَ ، اغفل
بشكلٍ شبهُ تامٍ أخبارَ إقامةِ الأميرِ في توسكانة. فهو يُـشيرُ فقط إلى تاريخ
سفرِه ورجوعه. ويعبّرُ هذا، في رأي، عن رغبةِ المؤرخِ في العودة بفخر الدين إلى
"حيز الطاعة" فالتواصَلُ مع الغرب، يُحرجُ الدولةً، ويسببُ خللاً في
النِظَام. وبما أنها مرحلةٌ مهمة، إن لم
نقلْ مصيرية، في حياة فخر الدين السياسية، فقد أضافَ المحققُ ملحقًا هو،
باعترافِه، مدسوسٌ على نص الخالدي، يتناولُ، وبشيء من التفصيل، إقامةُ الأمير في
أوروبا؛ وملحقًا ثانيًا يسرُد آخر معارك الأمير مع الدولة العثمانية، فالهزيمةُ
والاعتقال؛ ويفصّلُ في ملحق ثالث نَسَبَ الأسرةِ المعنية. وكأنَّ أسد رستم أراد بهذه
الملاحقَ تتمةً لتاريخ الصفدي.
الغرر الحسان في أخبار أبناء الزمان:
أما تاريخ الأمير حيدر أحمد الشهابي
الغرر الحسان، فيُعتبرُ المرجعَ الأكبرَ لتاريخِ لبنان في القرن الثامن عشر
والثلثْ الأولْ من القرن التاسع عشر. ويعتبر الشهابي أولُ من كتب تاريخًا شاملاً
للبنان تناولَ الأخبارَ السياسية، وبعضَ الأمور الاجتماعية والاقتصادية، وشيئًا من
الحوادث الطبيعية، وذلك بطريقةٍ سرديةٍ مبسطة.
وقلما نجدُ باحثًا في تاريخ لبنان
إلاَّ ويستشهد بتاريخ احمد حيدر الشهابي، أولاً: لقربهِ من الأمير بشير، فهو شاهدُ
عيانٍ على ما يجري؛ وثانيًا: لاعتبار الكثيرين منهم أن الإمارةَ الشهابية أسست
لدولةِ لبنان، حتى نُـقِلَ عن الأمير بشير قولُهُ أنه "الأب المؤسس للتاريخ
اللبناني الحديث". مع انها مجردُ عبارةٍ وردت في عريضةٍ رفعها الأمير بشير
إلى السلطان طالبًا زيادةً في المعاش بعد نفيه من جبل لبنان.[12] لست هنا
بموقعِ المدافعِ أو الرافضِ لهذه المقولة، لأنها لا تتعلقُ بما تركه لنا الشهابي
وإنما ترتبطُ بطريقةِ تفسيرِ النص من قِـبَل المؤرخينَ والباحثين، وبالمغزى الذي
يَنْـتُجُ من التفاعُـلِ بين القارئ والأثر التاريخي.
نرى من خلالِ الأخبارِ المدونة في هذا
المجلد الضخم، أن السلطة العثمانية تعاملتْ مع الأمير بشير كما مع فخر الدين من
قبله. فيربطُ الشهابي رضا الدولة بالانضباطِ والهدوء وتوفير الأمنِ للرعايا، فضلا
عن تحصيلِ وأداءِ الضرائب في أوقاتها. ومثالاً على ذلك، ما وردَ على لسانِ والي
عكا عبد الله باشا مخاطبًا الأمير بشير "من باب أولى أن إذا ابتعدَ الخادمُ
عن خدامةِ مخدومه، فالمخدومُ يستخدمُ غيـَره. فلزم اننا نصبنا مكانك اميرين من
الجبل. والان حيث انك طالب استعطاف الخاطر
منا، وتراميك على بسط مراحمنا، لك منا الآمان... وان بدا لك عايق عن الحضور يكون
مرادك التعلق بخدمة غيرنا ولم يعد يحصل لك الرضا".[13] ولم يكن
المركز مضمونًا لا لهذا الامير او ذاك اذ ان الوالي يبقي الباب مفتوحًا اما الامير
فيؤكد له انه في حال وقع من الامراء ذنب "يوجب انحراف خاطرنا عليهم فحينئذ
ترجع الى مقامك لان ليس من شيمنا التناقض من دون سبب".[14] فكان بشيرْ، وغيره، يُعزَلُ ويُعَادُ كلما بدا
منه تقصيرٌ في واجباته.
كما يُوضِحُ الشهابي تعقيداتِ النظامِ
الإقـطاعي في جبل لبنان فتتضحُ لنا علاقةُ الإقـطاعيين مع بعضِهم؛ الروابطُ التي
كانت تجمعُ بينهم أو تفرق؛ المؤامراتُ والكمائنُ التي نصبوها لبعضهم؛ العلاقةُ
بالسلطة العثمانية ممثلةً بولاة دمشق وعكا؛ أحوالُ العامةِ وتَفَاعُلهم مع
الإقطاع، حريتُهم وحدودُها؛ علاقةُ الطوائفِ مع بعضها؛ العلاقةُ بين العامةِ
والخاصة؛ إلى ما هنالك من تفاصيلٍ أعطت صورةً حية لزمانِ المؤلف.
ولا يَـفْصُـلُ الشهابي لبنان عن
محيطه فتاريخُه لا يـُفهمُ إذا لم يـُفهمْ ما كان يجري من حِوله. لذلك يَعْرِضُ،
من ناحيةٍ عامة، لبعض ما جري في فلسطين وسورية وسائرُ أقطار الشرق الأدنى وبعضِ
البلدان الأوروبية؛ دخولُ الفرنسيين إلى بلاد الشام؛ وتعامُل الانكليز والأمير
بشير، كلُها حوادثٌ لم تكن عابرةً، بل تركت أثرًا كبيرًا على البلاد.
وكانت قمةُ التبدلِ في الحياة
السياسية، دخولْ إبراهيم باشا إلى سورية، وما جرى بينَه وبينَ أهل البلاد، ثم
نهايةُ الأمير بشير، ونهايةُ الإمارة الشهابية، وبدءِ متغيراتٍ كبيرة في السياسةِ
المحليةِ التي خسرت الكمَّ البسيط من حرية التحركِ التي عرَفتها أيام فخر الدين وفي
مراحلٍ متفرقةٍ من حياة الأمير بشير.
ومما يزيد من قيمة هذا الكتاب ان
الامير حيدر اعتمد في الجزئين الاخيرين على مذكراته الخصوصية التي لها اهمية كبيرة
وهو حفيد الامير حيدر موسى الشهابي المشهور الذي تولى الامارة 1706-1729. بالاضافة الى ذلك انتدب الامير حيدر مرارًا
للاعمال السياسية والادارية والحربية.[15] كما يقول هو عن نفسه انه عند توليه ادارة الشوف
سنة 1794 كانت له في تلك الظروف الحرجة مواقف تحلت بالحكمة والدراية. فهو اذن قريب
من الاحداث تفاعل معها وشارك في حلحلة العقد الصعبة حتى نال ثناء معاصريه. كما كان
على اطلاع على الفرمانات الرسمية، والمخاطبات التي تدور في الاوساط السياسية
الفاعلة من ولاة الجبل واركان الدولة. كما يخبرنا اسد رستم في مقدمة التحقيق ان
المؤرخ كان غالبًا ما ينسخ الاخبار بخطه وانه كان يقراء ويدقق ما يأمر باستنساخه. وتدل
لائحة من تعاطوا مهمة النسخ عنده او من ساعدوه في جمع تاريخه على اهمية هذا
التاريخ ومنهم احمد فارس الشدياق، اسعد الشدياق، المعلم بطرس كرامة، القس حنانيا
المنير وغيرهم. "وممن اشتهر بتقربه من الامير واعتنائه بتاريخ: الغرر الحسان،
الشيخ ناصيف اليازجي". ومع هذا فان الكتاب لا يخلو من بعض "مظاهر السهو
والخطاء"[16] والتي لا تنقص
من قيمة هذا الارث العظيم.
الجوابُ على اقتراح الأحباب:
الجوابُ على اقتراح الأحباب، من تأليف
الدكتور ميخائيل مشاقة: "سفرٌ جليلٌ مفيد"[17]، كما يصفه أسد
رستم. الغاية من وراء الكتاب، هي الإجابةُ على أسئلة "الأحباب" بما
يتعلق بتاريخِ عائلةْ مشاقة. فأتى النصْ أشبهُ بالمذكراتِ، يُوردُ فيها القصص
والحكايات عن عائلته، ويدوّنُ الأخبارَ دونَ أن يعبأ بوحدةٍ تأليفيـّةٍ وتصميمٍ
معينٍ ثابت. بالإضافة إلى ذلك، يحتوي النصْ سردًا عن حوادث سورية ولبنان في النصف
الأخير من القرن التاسع عشر.
وميخائيل مشاقة قريبٌ من دائرةِ
الأحداثِ اثـّر فيها وأثرتْ فيه. فدوّن معظمَها كشاهد عيان. كانت له علاقاتَ متينة
ومصالح مع القناصلِ الأجانب، مما أعطى خطابَـهُ قيمةً إضافية.
وتكتسب رواية ميخائيل مشاقة مصداقيةً خاصة، حيثُ لا مصلحةَ لهُ فيما يكتبْ؛ لم
يزيـّنْ ويحسّنْ في روايته، ولم يضعْ استنتاجاتٍ معينةْ، ولا خضعَ لظروفٍ
تـُلزِمُه التزلفْ، كما لم يُشايع فئةً معينهً من الناس لينصِرِها على الأخرى.
ونرى ذلك واضحًا في معالجتِه لأخبارِ الخلافِ بين الدروز والمسيحيين.
كما يُبعد عن الدروز، وهو المسيحي
المتشدد، التهم التي كانت تُلصق بهم: "من الأمور المخلة بالناموس الإنساني
فهو محض أكاذيب لا صحة لها".[18] وتأتي هذه
الشهادةُ على خلفيةِ ظروفٍ قاسيةْ لتؤكدَ ما يقوله أسامة مقدسي، من أن الحروب
الطائفية في لبنان القرن التاسع عشر ليست واقعًا أو مؤامرة، بل الأحرى، إنها
تعِكسُ خياراتٍ واعية لدى جماعاتٍ متعددة، في وضعٍ تاريخي محدد.[19]
وربما ما نقرَاءُهُ في النص عن الشيخ
نجم العقيلي دليلٌ على ذلك:
"من
إرشادِ هذا الرجلِ الحكيم تلاشى تدبيرُ أصحابُ الحركاتِ، وبطُـل عمَـلَهم، وأضحى
الجميع كعيلةٍ واحدةٍ بالممنونية لعَمَلهِ الذي حفظَ البلاد من الخراب. فلو
وُجـِدَ مثلَه اثنان في عصرِنا من النصارى والدروز، لحفظوا بلادَهم من المصايب
التي لحقتْ بهم في حوادثِ سنة 1841 و 1860".[20]
ومن الحوادث المهمة التي يدونها مشاقة
تلك التي ادت الى "تدمير المشايخ النكدية".[21] وهو يرى ان
السبب الاكبر، غير ايقاعهم بين الزعماء من آل جنبلاط وآل العماد، انه لم يكن
للامير الشهابي المقيم في دير القمر اية سلطة على الدائرة المحيطة بدار النكدية. كما
تفهم مشاقة للعلاقة الحساسة بين الدروز ومسيحيي دير القمر بالذات. فيذكر مثلا ان
بعض الشبان "الجهلة" كانوا يتعدون احيانًا كثيرة على الدروز الذين
يحضرون لقضاء مصالحهم في البلدة، "ويعاملوهم بالشتايم وانواع السفاهة التي
يتحاشا الدروز التلفظ بها".[22] وكان المعتدي
غالبًا ما يطلق سراحه بعد تدخل أعيان الدير مما أدى الى تدعيات انعكست سلبًا على
العلاقة بين الطوائف.
ولكن مشاقة لم يوفرْ الدروز من
الانتقاد كما لم يوفْر الطوائف الأخرى، فنراه مستاءً مما يسميه "سؤَ تصرف
نصارى كسروان" وأنَّ عدمَ ملاحظتهم عواقب التوقفِ عن دفع الجزيةِ المفروضة،
لا بد وأن يَجـْلُبَ لهم ولغيرهم من المسيحيين أعْظمَ المصائبْ:
" هذه المظاهرةُ
بالعصيان جعلتْ الدولةَ لا تأتمنُ جانِبَهم خصوصًا لمجاهرتِهم بالانتماء لدولةٍ
أجنبيةٍ مع أنها غريبةٌ عنهم. فاغتنمَ الدروزُ تغيّرَ الدولة نحوَهم واستغلوا
الموقِـف فحصلَ التصادم".[23]
كما نقراء في كتاب مشاقة اخبار الحكام
الاتراك الذين تولوا على ولاية عكا، فنراه يفصّل في مظالم الجزار ويثني على عدالة
خليفته سليمان باشا، وحسن درايته مع مشايخ "المتاولة" وكيف استطاع
بحكمته تأمين جانبهم؛ ثم كيف عم السلام في ولاية صيدا "فجميع الاهالي حصلوا
على الراحة التامة بالمعمورية وتأمين الطرقات مع قيام الحق وهلاك الباطل بين
الاهالي بعضهم مع بعض وبينهم وبين الحكومة".[24] اما يوسف باشا
الكردي له "اعمال سخيفة يأمر بأجرايها في كل مدة بنوع جديد"[25] فيأمر بأن
يلتحي المسلم وان الحلاق الذي يحلق ذقن مسلم تقطع يده. ولكن مشاقة لا يكتفي
بالانتقاد اذ يقارن بين هذه العادة "ونظيرها عند الاوربيون بان الرجال يطلقون
شعر روؤسهم كالنساء ويحلقون اللحا والشاربين" حتى انهم كانوا يحتالون في قتل
من يزاحمهم على الحكم او "يقصون شعر رأسه فلا يعود فيه لياقة ان يكون
حاكمًا".[26] قد تبدو هذه
اخبار لا قيمة لها في الواقع ولكنها تدل على تجرد مشاقة في ايراد الخبر وعدم
انحيازه الى ابناء دينه من الغرباء بل يعطي لكل حقه في ممارسة تقاليده. وكتاب "الجواب على اقتراح الاحباب"
مليئ بالاخبار الاجتماعية والطرائف التي يتفرد بها والتي تدلنا على حياة المجتمع
الذي عايشه المؤرخ.
ويُعَرّفُـنا ميخائيل مشاقة على
"بلبلت أفكاره في أمور الديانة"[27] والتي أدت
بالنتيجة إلى التخلي عن ديانة أهله واعتناق المذهب البروتستانتي. وهو صراع مع
الذات والمجتمع أصابَ غيرَه من أبناء الجبل بعد الانفتاح على الإرساليات وعلى
الثقافة الغربية. وكان هذا التحول، عند مشاقة، نتيجة اقتناع فكري مبني على سعة
اطلاع وثقافة واسعة، تتبينُ لنا من خلالِ النص؛ مما يمكن اعتبَـارُه نموذجًا
تاريخيًا للعلم والتعليم في لبنان تلك الحقبة. كما يعرّفنا كيف أن الصراع بين
الأرثوذكس والكاثوليك في دمشق، وتدخل الأتراك فيه، انعكس سلبًا على المسيحيين.
وكغيره من المؤرخين المعاصرين الذين اعتنوا بجبل لبنان أساسًا، أدرك مشاقة أن هذا
التاريخ لا يُفصل، عن بقية المناطق في سوريا العثمانية.
خلاصة:
ونعود لنسألَ كيف ساهمت هذه الأصول،
والتي عرفناها بفضل أسد رستم، في كتابة أو
مراجعة، تاريخ لبنان الحديث. فبالإضافة إلى المعلومات القيمة التي حوتها هذه المراجع،
فإن أولُ ما يُلفـتُنا أن هذه السرديات لها رؤية متشابهة حول التاريخ؛ وانه يمكن
اعتبارُها نموذجًا لمنهجية وأسلوب التأريخ في زمان مؤلفيها، فهي تؤرخ لنظامٍ
إقطاعي، نُخبوي، تراتبي مُسيطرٍ على طبقةٍ كادحة. وهو بدورهِ خاضعٌ، إلى سلطةٍ
عليا، متمثـلةْ بولاة، مارسوا كلَ أشكال الضغط، المعنوي والمادي، باسم المحافظةِ
على مجتمعٍ مستقرٍ هادئ. فالخروجُ على الطاعة والتمرد على أي صعيد كان: نُخبويًا
أو عاميًا، يُـقَابلُ بعقابٍ شديد قد يصلُ إلى درجة القتل أو التكفيرِ.
ولا نرى في هذه الأصول لبنان
"الملجأ الرومانسي"، بحسب التصورات الأوروبية الباكرة، لامرتين، تشرشل،
فولنى او ستانهوب، ولا هو الجبلُ المفصول "المنعزل" عما يدور حوله، ولا
تضعهُ هذه الأصول في مواجهة جوارٍ ضاغطٍ معادٍ حاول طمسَ شخصيّة الجبل المميزة.
ولا تاريخُـهُ يحكي عن تسامح وطني أفسدته الطائفية، فالعنفُ موجودٌ، وإن تمثـّل
أساسًا في عنف النُخبة للإبقاء على نظامٍ اجتماعيٍ صارم. وأن الرُتبَـةَ، لا
الديانة، كانت المؤشر الأهم في التراتبية المحلية. ونتعرّفُ إلى جبل لبنان موطنًا
لسكانٍ اختلفت طوائِـفُهم من غير الموارنة والدروز؛ وأن الموارنة ليسوا، دون سواهم
من أهل الجبل، الركيزة التي بُـني عليها تاريخ لبنان الحديث. فنرى عند مشاقة أن
الأرثوذكس والكاثوليك والشيعة شاركوا أيضا في صنع هذا التاريخ.
كما نرى أن استقلالَ لبنان لم يكن
مطلقًا، حتى أيام فخر الدين، الذي اختاره المؤرخون اللبنانيون المتشددون ultra-nationalists - بحسب عبد الرحيم أبو حسين[28] - لأن يكون
المنادي الأول، بلبنان الكيان المستقل، مقولةٌ لم ترد لا نصًا ولا تضمينًا في
المراجع المحققة. أو أن تحَالفَ وتسامُح الأمير فخر الدين مع الموارنة خلق فكرةَ
الوطنِ القومي، لهاتين الطائفتين. فهذه الخصوصية اللبنانية التي تُـشير إليها بعض التواريخ المحلية الحديثة، لا نَجِدُها في الآثار
التي وضعها أسد رستم بين أيدينا.
فما نلمُسهُ في تلك الأصول، أنه كان
للبنان سردًا تاريخيًا موحدًا في القرن التاسع عشر، ومن ثم فرّقته كلُ فئةٍ حسب
اتجاهاتها، ورسمت له خطوطًا تتلاءم مع طموحاتِها، حتى بات لكلٍ تاريخهُ؛
تاريخٌ لم نستطع إلى اليوم أن نلملمه
في كتابِ تاريخٍ موحد.
[1] احمد بيضون، الصراع على تاريخ لبنان أو
الهوية والزمن في أعمال مؤرخينا المعاصرين، بيروت: منشورات الجامعة اللبنانية،
1989)، 11.
[2] المرجع ذاته.
[3] انظر التوطئة التي وضعها
اسد رستم لكتاب الامير حيدر احمد الشهابي، لبنان في عهد الامراء الشهابيين، وهو
الجزء الثاني والثالث من كتاب الغرر الحسان في أخبار أبناء الزمان للأمير حيدر
أحمد الشهابي، (بيروت: منشورات الجامعة اللبنانية، 1969)، توطئة.
[4] المرجع ذاته.
[5] احمد الخالدي الصفدي، لبنان في عهد الامير فخر
الدين المعني الثاني، تحقيق اسد رستم وفؤاد افرام البستاني، (بيروت: منشورات الجامعة
اللبنانية، 1969)؛ الامير حيدر أحمد الشهابي، لبنان في عند الامراء الشهابيين
وهو الجزء الثاني والثالث من كتاب الغرر الحسان في أبناء الزمان، تحقيق اسد
رستم وفؤاد افرام البستاني، (بيروت: منشورات الجامعة اللبنانية، 1969)؛ ميخائيل
مشاقة، منتخبات من الجواب على اقتراح الاحباب، تحقيق اسد رستم وصبحي ابو
شقرا، (بيروت: المكتبة البولسية، 1985).
[6] انظر: صلاح
الدين المنجد، قواعد تحقيق المخطوطات، (بيروت: دار الكتاب الجديد، 1982).
[7] عن هذا
الموضوع انظر: اسامة مقدسي، ثقافة الطائفية: الطائفة والتاريخ والعنف في لبنان
القرن التاسع عشر تحت الحكم العثماني، ترجمة ثائر ديب، (بيروت: دار الآداب،
2005)، 75-79.
[8] الصفدي، فخر الدين،
4.
[9] انظر: Abdul
Rahim Abu Husayn, “The Long Rebellion: The Druzes and the Ottomans, 1516-1697”,
Archivum Ottomanicum, 19(2001), p 165-191.
[10] أسامة مقدسي، ثقافة
الطائفية، 84.
[11] الصفدي، فخر الدين،
4.
[12] أسامة مقدسي، ثقافة الطائفية، 86، هامش
رقم: 1.
[13] حيدر الشهابي، الغرر
الحسان، 666.
[14] المرجع ذاته.
[16] المرجع ذاته: المقدمة: يج.
[17] مشاقة، الجواب
على اقتراح الاحباب، المقدمة، ج.
[18] انظر: المرجع ذاته،
127-130.
[19] عن هذا الموضوع انظر:
أسامة مقدسي، ثقافة الطائفية، 62-69.
[20] أسامة
مقدسي، ثقافة الطائفية، 27.
[21] أسامة
مقدسي، ثقافة الطائفية، 34.
[22] أسامة
مقدسي، ثقافة الطائفية، 34.
[23] انظر هذه الاخبار، مشاقة، الجواب
على اقتراح الاحباب، 155.
[24] مشاقة، الجواب
على اقتراح الاحباب، 41.
[25] مشاقة، الجواب
على اقتراح الاحباب، 41.
[26] مشاقة، الجواب
على اقتراح الاحباب،41.
[27] مشاقة، الجواب
على اقتراح الاحباب، 65.
[28] جاءت هذه العبارة في مقال للدكتور عبد الرحيم ابو حسين لم يكن قد نشره
عند كتابة هذا المقال. وقد سمح لي من فضله ان اسشتهد ببعض ما جاء فيه. المقال
باللغة الانكليزية تحت عنوان:
“Rebellion, Myth Making and Nation Building: Lebanon from an
Ottoman Mountain Iltizam to a Nation State”.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق