الى منح الصلح في الذكرى السابعة لغيابه..
بشارة مرهج
في مرحلة الحرب اللبنانية وما حفلت به من مأسٍ وتغييرات فقدت رأس بيروت بعضاً من ذاتها لا بل بعضاً من روحها عندما رحلت عنها مؤسسات عديدة كانت ترصع شوارعها واحياءها بالوان العصر – واحياناً سابقة للعصر – لتجعلها منارة فكرية وثقافية واجتماعية ومحجة للبنانيين والعرب والاجانب، ينتزهون في طرقاتها، ويدلفون الى مكتباتها ويرتادون مدارسها ويتخصصون في جامعاتها ويتمتعون بأنديتها ويتغنون بمقاهيها ويتلذذون بمطاعمها، وينهلون من مواردها العذبة التي تتدفق حيوية وأناقة وتفيض على محيطها نضارة وألفة وسمواً، ناهيك عن سحر اللقاء وثراء الحوار وما يليهما من نثر للوعود وتعميق للصداقات.
من تلك المؤسسات، او قل من تلك المعالم، التي توارت مخلفة وراءها الاسف والتساؤل: مكتبة راس بيروت، المراكز الثقافية الاوروبية، نادي خريجي الجامعة الامريكية، مطعم فيصل، مقاهى الهورس شو، الاكسبرس، الويمبي، الستراند، أليسار، فضلاً عن دور السينما الأنيقة التي كانت تجذب هي الأخرى روادها من كل مناطق بيروت ومحيطها.
في ذلك المدار الثقافي السياسي كان لمطعم فيصل – موضوع حديثنا – دور كبير ومكانة مرموقة .وكان المطعم يقع وسط شارع دانيال بلس (مؤسس الجامعة الامريكية) ومقابل مدخلها الرئيسي – Main Gate – بحيث لا يمكن لأحد ان يتفادى رؤيته اذا كان خارجاً من الجامعة او داخلاً إليها. الى ذلك يجاور المطعم شارع عبد العزيز ومستشفى الجامعة، ولا بد من المرور أمامه قبل الولوج الى شارع جاندارك الذي يصل شارع بلس بشارع الحمرا.
ذاع صيت “فيصل” في مختلف البلدان العربية حتى أصبح معلما لا بد من زيارته لكل المتنورين والسياسيين العرب .
مكانته كما شهرته انما برزت من كونه ملتقى سياسياً وفكرياً في آن. حتى طلاب الجامعة الذين كانوا يرتادونه انما كانوا ايضا من ذوي الاهتمامات السياسية يشعرون بداخله بشيء من الأهمية بالمقارنة مع آخرين كما بشيء من الحرية السياسية التي تفرض عليهم الاطلاع والمطالعة كي يكونوا على مستوى الآخر “والأخ الأكبر” عند المناقشة في مواضيع الساعة او القضايا الكبرى.
ومن اطرف الكلمات التي كانت ترد على لسان بعض أهل القلم، كما خريجي الجامعة الامريكية تلك الكلمات التي تتوغل في وصف مطعم فيصل وتنسج حول القصص النادرة والنوادر المثيرة حتى وصل الامر بالبعض الى اعتباره مركزاً متقدماً من مراكز التأثير السياسي في المنطقة العربية بدليل ان الرئيس عبد الناصر ذكره صراحة في معرض انتقاده لحزب البعث الذي كان يهيئ نفسه آنذاك لحكم سوريا والعراق.
كان “فيصل” مقصداً للاساتذة والطلاب والمتخرجين وأهل الطلاب فضلاً عن جماعة المثقفين والصحفيين والأطباء والسياسيين والجماعات الحزبية ليشكل من كل هؤلاء، ومع كل هؤلاء، ملتقى ونادياً ومطبخاً سياسياً ومحطة مرغوبة لزوار الجامعة ومستشفاها فضلاً عن زوار المكتبات والانترناشيونال كوليدج، والمدارس الأخرى التي كانت تزين الشارع الشهير.
ولقد احتضنت راس بيروت التي شكلت المدى الحيوي للجامعة الامريكية ومطعم فيصل مؤسسات تربوية وثقافية عديدة، وفي فضائها نبتت أفكار جديدة ونشأت تقاليد عصرية تحاكي مواقع لندن ونيويورك، أما في بيوتها فقد تأسست أحزاب كالحزب السوري القومي الاجتماعي، حركة القوميين العرب، حزب النداء القومي، وأطلت أندية كالنادي الثقافي العربي، نادي العروة الوثقى، المركز الثقافي الالماني (غوته)، المجلس الثقافي البريطاني، المركز الثقافي الاسباني، فضلاً عن أندية الجامعة نفسها، ونشطت حركات سياسية قومية (حزب البعث) وحركات يسارية (الحزب الشيوعي) فتفاعلت القوى وتنافست الأفكار فأصبحت راس بيروت، والجامعة ضمناً، محط أنظار الطلاب والمثقفين والعلماء والخبراء واللاجئين السياسيين والعاملين في المصارف وشركات الطيران والسفارات والشركات فضلاً عن العائلات العربية واللبنانية التي تدفقت اليها لتكون على مقربة من أبنائها الطلاب او طلباً لرغد العيش والرفاهية في ربوعها السخية التي وفرت لساكنيها وزائريها الاستقرار وكل عناوين الرقي الاجتماعي سواء في فنادقها الحديثة او مسارحها أو مقاهيها أو مطاعمها أو دور السينما فيها.
في هذا الإطار العصري الذي وجد فيه وضمن هذا المناخ الاجتماعي التفاعلي الذي شارك فيه طور مطعم ” فيصل” نفسه وعزز خدماته وجدد ادارته لينطلق ويزدهر ويصبح قبلة أنظار الانتلجنسيا اللبنانية تبحث أخطر وأطرف الأمور حول طاولاته، جنباً الى جنب مع ناس من مختلف الاقطار والطبقات والمناطق والمشارب – يتبادلون الاراء والاخبار والاسرار ويتوغلون في تحليل المعلوم وكشف المستور ويستحضرون الحكام والحكومات الى طاولات التحليل والتشريح والتقييم لتطير بعد ذلك الأخبار الى الدواوين والبلاطات فيتحسس الأمراء والملوك والرؤساء، واحيانا يتوجسون مما كان يجري من احاديث داخل اسوار المطعم خاصة اذا تناولت تلك الاحاديث احتمالات التغيير السياسي او الانقلابات العسكرية . وكم من مرة تحدث الحاكم العربي في مجالسه الخاصة ومع المسؤولين اللبنانيين عن مشاكل “فيصل” واشكالاته وحلقاته السياسية خطيرة الشأن.
كان “فيصل” مطعماً شرقياً – لبنانياً ليس له مثيل في راس بيروت يحاكي مطعم الريس الشهير وغيره من المطاعم المعروفة في تقديم أشهى المأكولات كالكبة بالصينية والمشويات والمازات والمسبحات والباميا بالرز والصيادية والارنبية والمغربية والى ما هنالك من أطايب يسيل لها اللعاب.
لكن “فيصل” فوق ذلك – او بالاحرى قبل ذلك – كان صالوناً سياسياً رفيع المستوى يغذي المجتمع بافكار جديدة وتحليلات مفيدة هي ثمرة الحوارات السياسية والادبية التي كانت تجري في رحابه بين أساتذة جامعيين ومثقفين كبار بينهم منح الصلح ود. محسن العيني ود. قسطنطين زريق ود. خليل حاوي ود. نبيه فارس ود. نقولا زيادة ود. يوسف صايغ ود. عدنان اسكندر ود. يوسف ايبش.
اللبنانيون من رواد فيصل كانوا من مختلف المشارب السياسية يتحولون في المطعم الى زملاء وأصدقاء يتسامرون ويتناظرون ويتبادلون الاخبار والأفكار ولكن في النهاية تفضل كل فئة التحلق حول ذاتها الى طاولة أو ركن في المطعم. وعلى سبيل المثال كنت ترى من جهة القوميين السوريين وفي مقدمهم صباح قبرصي، نظام الأشقر، فداء جديد، ضياء قبرصي ومعهم يوسف زعرور وطلاب من الكورة (فريد نبتي) وفي زاوية أخرى كنت تشهد حضورا للطلاب البعثيين من بينهم رغيد الصلح، معن بشور، عماد شبارو، منصور حريق، بشاره مرهج، وكان ينضم اليهم أحيانا ايلي الفرزلي وشفيق ابو جودة وناجي الحسن وربيع وعبد الرحمن الأسير وطلاب عرب من الاردن وفلسطين وسوريا. اما زاوية القوميين العرب فكانت محفوظة هي الأخرى لوليد قزيحة، بهاء الدين عيتاني، غاندي حلبي، بسام ابو شريف، موفق زهر الدين.
ومن قبلهم جهاد ضاحي وهاني الهندي واحمد الخطيب وجورج حبش ووديع حداد وصالح شبل.
الى ذلك كان يتوافد الى المطعم من الطلاب: محمد قباني، هاغوب دمرجيان، ابراهيم خوري، كميل حوا، وليد سليمان، محمود شريح، محمد مطر، عبدو قصير، عبد الله ابو حبيب، رينه خلاط، فاروق المصري، حافظ رافع.
أما الجيل الذي سبقنا فأذكر حضور محمد عطا الله، بشير الداعوق، وليد الخالدي، محمد الصباغ، حسن الشريف، زهير علمي، عبد المحسن قطان، كمال الشاعر، عصام نعمان، الياس ونقولا الفرزلي، مكرم عطية، وليد بركات، فخري صاغية، سهيل الشماس، سهيل السعداوي.
ومن الشخصيات السياسية أتذكر حضور الرؤساء عادل عسيران، كامل الاسعد، أمين الحافظ وزوجته ليلى عسيران، أديب الفرزلي، أما الرئيس صائب سلام فكان حاضراً بشخص علي المملوك.
ومن الصحفيين ميشال ابو جوده، رفيق خوري، سونيا بيروتي، مهى سمارة، رياض نجيب الريس، ابراهيم سلامه، احمد شومان، الياس الديري، سليمان الفرزلي، ذو الفقار قبيسي، سمير شاهين، زهير السعداوي، فريد الخطيب معظمهم يتحلقون حول منح الصلح وينضم اليهم أحياناً كامل الزهيري واحمد بهاء الدين من مصر.
كما كان لاطباء الجامعة، رغم ضيق الوقت، حضور دائم وقت الظهر أتذكر منهم د. كمال بخعازي، د. كرم كرم، د. سامي حريق، الياس الشماس، باسل عطا الله.
ومن الشعراء والفنانين، يوسف الخال، صلاح الأسير، محمود كحيل….
ومن اساتذة الجامعة أتذكر نديم نعيمة، لطفي دياب، كمال الصليبي، سهيل جبور، بول خلاط، الياس سابا، منير بشور، نعيم عطية، البرت بدر، جان مرهج، حليم بركات، يوشف شبل، مارون كسرواني، سمير ونديم خلف، محمود زايد.
في مطعم ” فيصل” كنت تجد نفسك وسط لفيف من الرواد العرب اساتذة وطلاباً وزائرين تسمع رأياً لكمال ناصر وتعليقاً لغسان كنفاني او معلومة لعبد الوهاب الكيالي او ملاحظة لشفيق الحوت أو معادلة ليوسف صايغ دون ان ننسى بالطبع سرديات عبد المحسن ابو ميزر ومرافعات محمد يوسف نجم واطلالات جهاد كرم وفؤاد نخله ومحمد صباغ وحسن الشريف واسهامات اسعد عبد الرحمن وماهر المصري ومطالعات مروان ونبيل ومحمد الدجاني.
اما من الوسط الأردني فلا زلت حتى الان اتخيل صور اللقاءات التي كانت تضم آل زريقات (حران ومروان) وآل الطاهر وآل جان بك وآل فارس وآل المعشر والمفتي ومعهم ظافر كيالي وجرير وريما حلزون ومعهم جورج مدور وباسم فارس واسامة طوقان فضلاً عن الاصدقاء ناصيف عواد، أديب ناصر، أنور بطيخي وفاروق حوراني ومحمد مال الله واسحق الحسين .
وإن حالفك الحظ كنت تشهد في “فيصل” حوارات ساخنة عن بغداد والموصل والبصرة تتردد على ألسنة سعدون حمادي، خير الدين حسيب، فيصل حبيب خيزران وعامر خياط واخرين ممن تسببت في تهجيرهم الانقلابات العسكرية والصراعات الحزبية. اما من سوريا فكان الحضور يشمل أهالي الطلاب وبعض الشخصيات السياسية ومن بين هؤلاء لا زلت أذكر تواجد إحسان نظام الدين، الوليد طالب، صادق جلال العظم وبشر العظم وحسان صمادي فؤاد ومالك زين وغسان دروبي دون أن ننسى بالطبع وعاطف دانيال وأصدقاء منح الصلح.
كان “فيصل” قبلة للشباب اما الجنس اللطيف فلم يكن حضوره ملموساً في تلك حتى شرعت مجموعة من الطالبات اللبنانيات والاردنيات بارتياده، أتذكر منهن باقة: لينا وسناء وهدى عسيران ، فاطمة سبيتي ، منى نجيب، بشرى بدير، بشرى جبر، هدى منصور التي انتخبت ملكة جمال الجامعة، ونجلاء وعبله نصير، مجاد الطاهر، ميما وملاك ونور جان- بك، رشا فارس، هدى المعشر، استر اسحاق، سامية سكر، هدى شعشاعة. كما كانت تطل على المطعم هدى عاقل، سيرين كحالة، كوكب الريس من دمشق ومها فارس من العراق التي رشحناها – خاصة طلاب قسم الاقتصاد- ملكة لطلاب الجامعة.
في مطعم فيصل كنت تحسب نفسك أحياناً في رام الله او عمان او دمشق او بغداد نسبة الى كثافة الحضور من هذا البلد العربي او ذاك، كما كان النقاش ينقلك أحياناً الى باريس لنقد مقولات جان بول سارتر، او واشنطن مستدعياً مقالات كلوفيس مقصود وخطابات فايز صايغ فضلاً عن أطروحات شارل مالك وسواهم من الاعلام الذين غزوا الجامعات الامريكية.
ومن مزايا “فيصل” انه كان مركز بريد خاص لبعض الطلاب العرب واللبنانيين يودعون فيه رسائلهم ويتذوقون إلى طاولاته أطباقه الشهية ويقسطون لادارته الدفعات المترتبة عليه. وقد قال لي د. كرم كرم الذي كان يرتاد المطعم انه كان يحاسب ادارته آخر الشهر.
كان بائع الجرائد يتكئ على شباكه والى جانبه طاولة البلياردو تنتظر الطلاب في محلات آرام المحاذية للمطعم. أما اذا ارادوا تصفيف الشعر فلديهم محلات “جرداق” و”سفر” و”مايك” وفي الوسط منهما محلات “بخعازي” للوجبات السريعة المصحوبة بتعليقات المعلم جبران اللاذعة فضلاً عن “الانكل سام” الشهير الى ان تصل الى مطعم ومقهى “اليسار” ولمسات جورج الزعني واخوانه، دون ان ننسى مطعم أنيس صابر الذي أختص بالفلافل الشهية دون غيرها. وأمام المطعم (فيصل) كان يتوقف متهادياً مترويا ترامواي بيروت بالوانه الزاهية ومقاعده الخشبية ناقلاً الطلاب والعمال من مختلف المناطق. كما من أمامه كانت تمر سيارات السرفيس بلا إنقطاع بتعرفتها الزهيدة. أما من كان يفضل سيارة التاكسي فالموقف حاضر على بعد أمتار. كذلك المكتبة ومكتب الصيرفة، البنك ومكتب السفر لصاحبه الشيخ رمزي علم الدين.
ولا أذيع سراً ان بعض رواد المطعم المستديمين كان يسرع الى المطعم مبكراً لحجز طاولة من تلك المطلة على شارع بلس ومدخل الجامعة الرئيسي.
فما ان يفرغ من قراءة جريدته – قراءة الجرائد كانت شائعة تلك الايام – حتى يطلب من أنور أو نايف فنجاناً من القهوة – سكر قليل ومتى حضر يرشفه نقطة نقطة فيما العين تعاين حور العين اللواتي يمررن مسرعات في الشارع او جامعيات حسناوات يطلعن من باب الجامعة كالبدور في سهد ايلول وهن يتحدثن الى زميلاتهن وزملائهن. ولا أبالغ اذا قلت ان باب المنافسة كان مفتوحاً بين المتقدمين لاحتلال الطاولات الستراتيجية الثلاث من ظفر باحداهن ملأت الابتسامة وجهه وكأنه أحتل القلعة ومن فاته القطار إقتنع بالمرسوم وشد الى الرحال الى ركن داخلي لا بأس به من وجهة نظره.ولا أبالغ اذا قلت ان باب المنافسة كان مفتوحاً بين المتقدمين لاحتلال الطاولات الستراتيجية الثلاث من ظفر باحداهن ملأت الابتسامة وجهه وكأنه أحتل القلعة ومن فاته القطار إقتنع بالمرسوم وشد الى الرحال الى ركن داخلي لا بأس به من وجهة نظره.
ومن حظ المطعم أنه كان يتألق وسط منطقة تعج بالحياة توفر ما يريده الطالب او الاستاذ وكأنك في الحي اللاتيني – في العاصمة الفرنسية على ما ذكره الصحافي المصري الشهير احمد بهاء الدين.
” فيصل ” مثله مثل مقهى الفيشاوي في القاهرة، ومقهى الهافانا في دمشق، ومقهى البرلمان في بغداد، مثله مثل الهورس شو في شارع الحمرا ومطعم العجمي في سوق الطويلة ومقهى الديماغو في باريس، وكافيه لافوت في فيينا كان حديقة مترعة بالقصائد والذكريات الجميلة وسط مرحلة مثقلة بالنكبات والاحزان. كان بالفعل تجربة مضيئة يصعب استعادتها بأنوارها ولحظاتها الملهمة التي نفتقدها في احوالنا الراهنة الخالية من الحوار الحقيقي الحميم المعرضة لكل انواع البطش والانحطاط والتفلك.
“فيصل ” لم يكن مطعماً عريقاً فحسب، وانما كان ايضا منتدى رحباً ذا حضور طاغٍ في راس بيروت تتردد عليه شخصيات من كل الاطياف والجنسيات والمشارب تشدهم اليه زمالة ومعرفة الى ود وتقارب وأن اختلفت الاراء والرؤى، اذ أنه كان مجالاً رحباً للحوار الحر الذي كنا نفتقر اليه في الجامعة حيث الوضع ديمقراطي على السطح ومتشدد في العمق، فالحوار متاحاً في القضايا الاكاديمية ومشتقاتها اما في القضايا السياسية الحساسة فكان الحوار يخضع أما للرقابة او الاجتناب. وقد إنعكس ذلك على نشاط الطلاب من خلال جمعياتهم التي كانت تجد صعوبة في التعبير عن مواقفها الحقيقية.
كنا نجزع لما يؤكد المحاضر الأجنبي أن العرب لا قدرة لهم على تأميم النفط، وأن عليهم أن يقنعوا بالحصة التي تعينها لهم الشركات التي استثمرت الأموال ونقلت المعدات وحفرت الآبار واستخرجت النفط.
أما في الشأن الاقتصادي فكانت تتوالى علينا النظريات عن اليد الخفية التي تنظم شؤون الانتاج والتوزيع كما المنافسة الحرة التي تسهم في خفض الاسعار وجودة السلع بينما نركز نحن بالتعاون مع ” أكاديمية فيصل” على دحض مزاعم المرجعيات وكيفية تحول المنافسة الحرة الى حربة بيد الاحتكار يستخدمها في فرض السعر الذي يريد وإفقار الناس. هذا فضلاً عن نظريات التاريخ وأحداثه التي كنا نعمل فيها تدقيقاً وتصحيحاً لتفادي حشو الرؤوس بالافكار التي تحابي الاستعمار وتحط من شأن دول العالم الثالث الى ما هنالك من معارك كانت تبرز على السطح مع إنكشاف الدور الاستعماري الأمريكي في العالم كما في منطقتنا العربية بالذات وخاصة فيما يعود الى الوحدة العربية والقضية الفلسطينية وسواهما من القضايا الحساسة. ويصعب الأمر أكثر اذا تعدى النشاط إبدأ الرأي الى مبادرة عملية تحرك جماعة الطلاب في ندوة او معرض او مسيرة فإن الأمر يزداد صعوبة ويزداد معه الاحتكاك بين الطلاب والادارة المنحازة الى الموقف الامريكي نفسه.
واذا حضرت الى المطعم بغياب المجموعة فيجب ان تكون أيضاً حاضر الذهن اذ من الممكن ان يفاجئك نادل المطعم بسؤال لا تتوقعه أو بمعلومة جديدة يجب ان تعطي رأيك فيها واشهد ان هؤلاء الندال كانوا في غاية الذكاء والدهاء وسرعة الخاطر والخدمة الجيدة بحيث تشعر انك في بيتك الثاني. وأكثرهم دهاء كان المتر أمين الذي كان يقتنص المناسبة لجعلها حدثاً كما فعل مع بروفسور مسلم ويدرس الاسلاميات في الجامعة عندما طلب له المسكر في فنجان الشاي.
أما الأخرون نايف وميشال وأنور فكان عليك ان تأخذهم في الاعتبار وتتصرف معهم بعيداً عن المقاييس المتبعة في المقاهي العامة اذ ان كلا منهم كان يهوى ويحسن النقاش في القضايا المطروحة.
“فيصل” لم يكن محطة سهلة وإنما محطة صعبة حيث يتعرض الشخص لأسئلة وامتحانات ينبغي ان يكون مستعداً للاجابة عليها اذا انخرط في مجموعة مهتمة بالشأن العام كانت جلساتها أشبه بالندوة الفكرية (Seminar) تبحث في المعطيات، تقلب الاحداث، وتنفض الغبار عن الخلفيات وتحدد الابعاد في وسط ثقافي خاب ظنه من الحضارة الغربية التي خانت مبادءها وأنقلبت على قيمها ورضخت لمبدأ القوة وروجت لتفوق الرجل الأبيض.
وكم من مرة شهد “فيصل” مقابلات حوارية تـثرى بمعلومات مثيرة لم يكشف عنها النقاب من قبل، او افكار جديدة تثري الجميع حيث العقل يواجه العقل برصانة ومسؤولية في لقاءات ثمينة حرة لا تبجيل فيها ولا تكفير وانما اصرار على كشف المحجوب واكتشاف الطريق. وهنا استشهد بالمفكر منح الصلح الذي قال مطعم “فيصل” ولد كظاهرة من ظواهر مرحلة تاريخية في حياة العرب، ومن ليبرالية الثقافة في الجامعة الامريكية وقد نافس الجامعة، على ما تقول النوادر، في تخريج البارزين ، حتى لكأن الفائز بالسبق هو من حصل على شهادتين من التخرج واحدة من الجامعة والثانية منه.”
وقد كان لمنح الصلح كرسياً في مطعم فيصل وأقصد هنا كرسياً جامعياً استحقه الرجل لثقافته الواسعة وذهنه المتوقد ومعلوماته التاريخية وغناه السياسي. لذلك كنا في كثير من الاحيان نحضر الدرس في الجامعة ثم نستعيده في ندوة (سيمنار) “فيصل” حيث نعيد قراءة النص وأحياناً نصحح التحليل الذي سمعناه من المحاضر سواء تعلق التحليل بموضوع النفط او الاقتصاد والتاريخ.
كان “فيصل” مساحة حوار بل أرض لقاء يملك كل واحد من رواده حصة فيه. فهو المكان الذي تستكمل فيه الندوات وتُحلل فيه المحاضرات حيث تطرح وجهات النظر المتعددة دون خوف من الرقيب سواء كان حاكماً او ضابط مخابرات او حتى عِسا من عسس الادارة المتخوفة من عصبة الشباب وثوراتهم على الاملاء وغلاء الاقساط وانحياز الجامعة الى السيد الامريكي الضعيف امام اسرائيل وأمنها وسطوتها.
ولربما اليوم نحن بأشد الحاجة الى الحوار الذي وفرته مرحلة “فيصل” بكل ما حملته من ملامح الحداثة ومعالم التنوير. فالحوار، قبل ان تطل مرحلة الاستحواذ والاقصاء، كان ضالة المؤمنين يتوسلونه للاضاءة على الموضوع أو اقناع الآخر في حلقات تتشكل داخل الجامعة كما في الشارع والمقهى والمطعم والمسرح.
كاتب لبناني