Page Nav

HIDE

Grid

GRID_STYLE

اخبار عاجلة

latest

أساتذة فان غوخ

  صبحي حديدي (القدس العربي)  بعد أن اقترح سيرة لحياة الفنان الهولندي الكبير فنسنت فان غوخ (1853 – 1890) لعلها الأفضل حتى إشعار آخر قد يكون...



 صبحي حديدي(القدس العربي)

 بعد أن اقترح سيرة لحياة الفنان الهولندي الكبير فنسنت فان غوخ (1853 – 1890) لعلها الأفضل حتى إشعار آخر قد يكون طويلاً، أو بالأحرى لم تتفوّق عليها سيرة أخرى منذ صدورها سنة 2011 تحت عنوان «فان غوخ: الحياة»؛ يعود الناقد التشكيلي والمؤرّخ الأميركي ستيفن نايفه إلى اقتراح عمل جديد عن الفنان، بعنوان «فان غوخ والفنانون الذين أحبّهم» وصدر مؤخراً بالإنكليزية عن ّراندوم هاوس» في نيويورك.

ويشير نايفه إلى حقيقة أولى محورية مفادها أن الفتى فنسنت ترعرع على مشاهدة الأعمال الفنية زمناً كافياً قبل أن يمسك الريشة بنفسه، وفي كلّ المدن الكبرى التي سكنها (لاهاي، أمستردام، بروكسيل، أنتويرب، لندن، باريس…) كان المتحف مقصداً دائماً وأساسياً في حياته اليومية. وفي رسالة إلى أخيه ثيو كتب فان غوخ: «من الخير للمرء أن يحبّ قدر ما يستطيع، وعلى المرء أن يقترب بافتتان من الحياة كلها، لكن من الفنّ والأدب خصوصاً. هنا تكمن القوّة الفعلية، وذاك الذي يحبّ كثيراً ينجز الكثير، وهو القادر على الكثير، وما يُنجز بحبّ هو الأكثر إتقاناً».


حكايات مفرحة ومزادات مثيرة في سجلّ فنّان عاش فقيراً ومات خالي الوفاض، وظلّ على الدوام أسير تجربة ممضة معقدة بدأت بطفولة مضطربة، وتتابعت فصولها سنة إثر أخرى من اضطرام الوجدان وتفتُّق الموهبة وغربة الروح

ولائحة الفنانين الذين تأثر بهم فان غوخ تبدأ من الفرنسي غوستاف دوريه، خاصة أعماله التي تلتقط باطن الغابات وألوانها؛ وتمرّ من فرنسي آخر هو جان – فرنسوا ميلليه، أو «الأب ميلليه» كما كان فان غوخ يحبّ تسميته؛ ولا تنتهي عند كبار أقطاب حركة الـ»باربيزون» أمثال كاميه كاروت، جول دوبريه، شارل – إميل جاك، وجول بروتون. لافت أنه أعرب عن تأثره بهؤلاء وسواهم في رسائله إلى أخيه، لكن حين يغيب هذا الإعراب فإنّ التأثر يبدو ناطقاً وصريحاً في أعماله ذاتها؛ وعلى نحو لا يتكلّف إخفاء بصمات «الأستاذ» الذي يعود إليه فان غوخ، بل يكاد يستصرخ المشاهد أن يلتقط خطوط الاستلهام.



وقبل أن يبدأ الرسم في سنة 1888، عكف فان غوخ على إعادة رسم عشرات الأعمال لكبار فناني تلك الحقبة، التي شهدت أيضاً ولعه بالفن الياباني عموماً والفنان أندو هيروشيجي خصوصاً؛ وفي لوحته الشهيرة «المقهى الليلي» لا تخفى آثار لوحة لوي أنتيكان «جادّة كليشي، الساعة الخامسة مساء»؛ وفي صورة الفنان الشخصية الشهيرة تذكرة واضحة بلوحة رمبرانت التي تحمل أيضاً الاسم ذاته؛ وهكذا… ويشير نايفه إلى أنّ فان غوخ لم يكن يقلّد هذه الأعمال، بقدر ما كان يكرّم أصحابها عن طريق إعادة رسمها، وكان أيضاً «يترجمها إلى لسان آخر» حسب تعبيره.


وفي شباط (فبراير) 1890 كان من المحال على السيدة ماري جينو، صاحبة «مقهى المحطة» المطلّ على ساحة لامارتين في بلدة آرل الفرنسية الجنوبية، أنّ تتخيّل أنّ نهاراً سوف يحلّ ذات ساعة – بعد 116 سنة في الواقع – فيشهد بيع صورة لها مرسومة بالزيت على القماش، بمبالغ طائلة تُعدّ خرافية تماماً في مقاييس ذلك الزمان، وهذا الزمان أيضاً. والأرجح أنّ مدام جينو كانت تتسلى مع هذا الرسّام الطيّب، العصبيّ الحساس الرقيق، الموشك على الانهيار العصبي أو ربما الجنون، حين جلست ذلك اليوم أمام فرشاته وقماشه ونظراته الثاقبة، واضعة يدها على خدّها، مبتسمة قليلاً، وأمامها كتابان.


كانت اللوحة تلك خامس – ويُتفق عموماً أنها أجمل – عمل في سلسلة بعنوان «الآرليات» نفّذه فان غوخ على سبيل التحيّة والتقدير لصديقه الفنّان الفرنسي الكبير بول غوغان بعد فترة خصام شخصي بينهما، وخلاف أسلوبي، وتباعد في المزاج الجمالي. وفي سنة 2006 بيعت هذه اللوحة بمبلغ يقارب 40 مليون دولار أميركي، ضمن مزاد علني لم يخل من الطقوس المعتادة في التكتّم والتنافس والتصارع والتجارة الصرفة. وذلك العمل بالذات كان تتويجاً لطور من الحنين الجارف إلى زمن التعاون المشترك والصداقة الجميلة بين غوغان وفان غوخ، قبيل إحالة الأخير إلى مصحّ عقلي؛ وكانت سلسلة «الآرليات» ذروة صراع الفنّان العبقري من أجل استرداد وجوده الآخذ في الاهتزاز والتلاشي. ولقد كتب إلى غوغان يصف لوحة «مدام جينو» كما يلي، بتواضع مذهل: «لقد حاولت من خلالها أن أحترم رسمك، وأكون مخلصاً له (…) ولك أن تعتبر العمل منتمياً إليك، بمثابة تلخيص لأشهر من تعاوننا المشترك».


حكايات مفرحة ومزادات مثيرة في سجلّ فنّان عاش فقيراً ومات خالي الوفاض، وظلّ على الدوام أسير تجربة ممضة معقدة بدأت بطفولة مضطربة، وتتابعت فصولها سنة إثر أخرى من اضطرام الوجدان وتفتُّق الموهبة وغربة الروح؛ حتى لكأنّ هذه النفس ناءت بثقل ما تزاحم في داخلها وحولها من عذابات، فتوقفت عند سنّ السابعة والثلاثين. «من أنا في أعين الناس؟ نكرة، أم معتوه منفّر»؟ هكذا تساءل ذات نهار، حين تفاقمت وطأة اكتشافه لتلك الحلقات الجهنمية التي تجعله مغترباً عن مواضعات شرط بشري عسير، في عالم يراه رغم ذلك جميلاً ورحباً وجديراً بالعيش. وأما آخر كلماته التي عُثر عليها في قصاصة صغيرة دسّها في جيبه قبل أن يطلق على أحشائه الرصاصة الرخيصة اللازمة، فقد كانت: «وماذا في وسعنا أن نفعل سوى أن نجعل لوحاتنا تنطق»؟

ليست هناك تعليقات