أليس مكدِرمُت
ترجمة حيدرة أسعد(منصة تكوين)
دعونا نبدأ بالجُمل الأولى.
أخالُ أن قدرًا كبيرًا من الوقت يُخصص في ورش الكتابة للحديث عن الجملة الأولى. وهذا، باعتقادي، ما ينبغي أن يكون.
ما عليك إلا أن تأخذ بعين الاعتبار كم الروايات والقصص التي يمكن تعرفها من خلال جملتها الأولى وحدها، لتُقدر الأهميةَ، العبءَ والفرصةَ، التي يتمتع بها السطر الأول. ونسبيًّا، لا أعرف إن كان ثمة شكلٌ آخر من الفنون يُمكن تعرفه من خلال عينة بالغة الصغر كهذه. (يُسمح لعشاق الموسيقا الاعتراض هنا).
ليكن اسمي الذي أُعرف به هو إسماعيل.
جميعُ الأسر السعيدة تتشابه، لكن كل أسرة تَعسةٍ هي تَعسةٌ على طريقتها.
في يوم من الأيام، وكان يومًا جميلًا جدًّا، كانت هناك بقرة قادمة عبر الطريق، وقابلت هذه البقرة القادمة عبر الطريق صبيًّا صغيرًا لطيفًا جدًّا اسمه الطفل «تاكو».
عندما استيقظ غريغوري سامسا ذات صباحٍ بعد أحلامٍ مزعجة، وجد نفسه وقد تحول في فراشه إلى حشرة عملاقة.
قالت السيدة دالاواي إنها ستشتري الزهور بنفسها.
ها أنا ذا أقف أكوي، وما طلبتَه إلي يترنح ألمـًا ذهابًا وإيابًا مع المكواة.
في ظروفٍ معينة، ثمة ساعات في الحياة أكثر إيناسًا من الساعات المُخصصة للحفلات، تُعرف بساعات شاي الأصيل.
في إحدى البلدات عاش أبْكَمان، وكانا برفقة بعضهما بعضًا على الدوام([1]).
قال جون مكفي إن مطلع مقالٍ يمثل كشافًا يضيء وصولًا إلى متن النص، وهذا أمر جيد بما يكفي لوصف مطلع عملٍ غير روائي، حيث تكون القصة، التي سبق أن حدثت فعلًا، تامة البناء، وبقي أن تُوثق فحسب. إلا أن الجملة الأولى في عمل روائي تمثل ما هو أكثر من مجرد كشاف أو خطافٍ أو حتى طُعْمٍ بالنسبة للقارئ المتطلب. ترسي الجملة الأولى في عمل روائي القيود الأولى على عالَم خيالِ المؤلف اللا محدود. وقبل أن تُكتب هذه الجملة كل شيءٍ ممكن. والكاتب الروائي يتمتعُ بمطلق الحرية للكتابة عن أي شيء –نحن، في النهاية، نختلقُ هذه الأشياء– وبأي صوتٍ يريده: صوت طفل، صوت كلب، صوت رجل ميت، صوت إله في جنته، أو حتى صوت الكاتب نفسه.
ليست الصفحة البيضاء سوى فضاء مُدهش من الاحتمالات اللا نهائية، والكلمات الأولى التي نخطها عليها ليست سوى... جملة، شيء من قبيل السجن، الحبس لكل ما هو منفلت، وعد جميل وغير مُحدد ضمن قصة مُعينة محدودة بزمان ومكان (الجدران الأربعة للسجن والسقف والأرضية) وبصوت (صوت السجين أو النزلاء الآخرين) وبقوانين (سجاننا)، وبقواعد سردية ونحوية، وقواعد المنطق والصياغة، والخبرة والإحساس، وقواعد علينا أن نلتزمها حتى لو –على الأخص لو– تهيأنا لكسرها.
ترى الروائية غلوريا نايلُر أن الجملة الأولى في عملٍ روائي بمثابة الحمض النووي للقصة، إذ تُخلَّق منها الجملة فالثانية فالثالثة فالرابعة، وهكذا حتى الأخيرة. وإذا كتب المؤلف الجملة الأولى بمهارة، فسوف تدق وترًا، نغمةً، مزاجًا، موسيقا سيتردد صداها على مدار القصة أو الرواية، مدويةً بشتى الطرائق عَبر كل جملة، بهذه الطريقة حتى النهاية.
«قالت السيدة دالاواي إنها ستشتري الزهور بنفسها» ستقودنا بعد ما يزيد على المئتي صفحة إلى:
قال پيتر: «سآتي أنا أيضًا»، لكنه استمر جالسًا لحظة. ما هو هذا الفزع؟ ما هي هذه النشوة؟ هكذا فكر في نفسه. ما الذي يملؤني بالانفعال المفرط؟
قال إنها كلاريسا.
ذلك أنها كانت هناك.
«ذلك أنها كانت هناك» هي الجملة الأخيرة في الرواية التي تبدأُ جملتها الأولى بـ«السيدة دالاواي» وتنتهي بـ«بنفسها».
ذلك أنها كانت هناك. السيدة دالاواي. بنفسها.
وأية رواية يمكن أن تُختتم بلغة جادة وعالية المستوى بمثل هذا الوعي الفردي:
26 أبريل:
والدتي تصلح ثيابي القديمة. إنها تصلي الآن، كما تقول، لكي أتعلم في حياتي الخاصة وبعيدًا عن البيت والأصدقاء ما هو القلب وما هي مشاعره. آمين. فليكن كذلك. مرحبًا أيتها الحياة! إنني ذاهب لكي أقابل للمرة المليون حقيقة التجربة ولكي أصنع في مصهر روحي الضمير الذي لم يخلق لعنصري.
27 أبريل:
أيها الأب القديم، أيها الصانع القديم، فلتعضدني الآن وإلى الأبد بروح من عندك.
لم تكن الرواية لتصل إلى مثل هذه الخاتمة لولا أنها بدأت بالإرهاص لها عبر اللغة والمنظور وإيقاع الموسيقا الذي ابتدأ من سطرٍ أول كهذا:
«في يومٍ من الأيام، وكان يومًا جميلًا جدًّا، كانت هناك بقرة قادمة عبر الطريق، وقابلت هذه البقرة القادمة عبر الطريق صبيًّا صغيرًا لطيفًا جدًّا اسمه الطفل تاكو».
إن المنظور والصوت والإيقاع؛ ضمير الشخص الأول، الشخص الثالث، الراوي محدود العلم، الراوي العليم، والشخصية، والموضوع، ونعم، القصة... كلها يبدأُ تأسيسه، سواء بشكلٍ بارز أم لا، اعتمادًا على الجملة الأولى.
فلا تستغرب كم الوقت الذي يُنفق في ورشات الكتابة الأدبية للحديث عن الجملة الأولى.
ومع ذلك، وبعد كل هذا الحديث، لا يمكنني أن أقدم لك قاعدة تبت في ما يمكن أن يجعل جملة أولى ما، جملةً أولى جيدة، وسأكون متشككة حيال من يدعي أن لديه مثل هذه القاعدة. لكن هناك شيئًا تعلمتُه: في غالب الأحيان، الجملة الأولى لمسودة قصة تخضع للتقييم في ورشة كتابة ليست الجملة الأفضل لبدء القصة.
الحقيقة أنه، في معظم الأحيان، تؤدي المهمة البسيطة التي تُطرح في ورش الكتابة، والمتمثلة في قراءة نص معطى والبحث عن جملة أولى أفضل من الموجودة، إلى الكثير من الخيارات الرائعة، التي يوجد العديد منها في الصفحة الثانية أو الخامسة عشرة أو حتى في المقطع الأخير.
لماذا يحدث هذا؟
بالنسبة للكاتب المبتدئ، غالبًا ما يكون ذلك مجرد حالة من التراجع، التمسك بالأشياء الجيدة، الكتابة الجيدة، التفاصيل الدقيقة، الصوت الأصيل... وهذا الأخير هو الشيء عينه الذي قاد الكاتب نحو الصفحة الفارغة في البداية، وذلك إلى أن يتكلف القارئ العناء أو يعلن إخلاصه من خلال الخوض عبر الشروحات المتعرجة أو الحوارات المباشرة أو التفلسفات المضجرة التي يصمم الكاتب على حقنها في المطلع.
نحن الكُتاب جميعنا –دعونا نواجه الحقيقة– محضُ أرواحٍ وحيدة بذواتٍ وَعِرة وهشة مثل جروفٍ بيضاء من بودرة الأطفال، وجميعنا لديه الاعتقاد القائل بأن قارئًا يجرؤ على السؤال، بعد عشرين صفحة فحسب: "لماذا ينبغي لي أن أهتم بهذا الأمر؟"، أو "عم تتحدث أيها الكاتب؟"، هو قارئ لا يستحق، بشكلٍ لا لبس فيه، كامنَ عطايانا.
(لقد شهدتُ مؤخرًا هذه الظاهرة -أُطلق عليها قناع ازدراء الكاتب المتزعزع- في مهرجان أدبي مزدحم، حيث سألتِ القارئة، وهي امرأة كبيرة السن، المؤلفَ الشاب لرواية أولى مشهورة، عما إذا كان الارتباك الذي شعرتْ به في بداية كتابه، حين كان يحاول وضع شخصياته جميعها في نصابها، متعمدًا منه كي يشعر به القارئ. بعد لحظة حرجة من الصمت الفاتر، أجاب المؤلف ببرود: "أظن أن ارتباككِ كقارئة يُعبر عنك أكثر مما يُعبر عني ككاتب". إن إذلال السائل، وإهانة الجمهور، المكون في معظمه من نساء متقدمات في السن، ورغم كل تلك الموهبة الأدبية المبكرة لا يعطي أي حصانة من أن تكون أحمق).
قد تكون الافتتاحياتُ المضجرة أسلوبَ المؤلف في كشف مدى تفاني القارئ المُطلق. إلا أن الكاتب المبتدئ، غالبًا ما يتراجعُ خوفًا من فكرة أنه إذا أحسن كتابة الجملة الأولى، أحسن التوصل إلى الجزء الصحيح –إلى الشيء الذي قاده إلى الصفحة البيضاء ليبدأ– فإن الرواية ستموت في المقطع الثاني، وربما في الجملة الثانية، لأنه ليس ثمة ما يقال بعد.
تفشل الجمل الأولى أيضًا حين يفتتح الكاتب المبتدئ أو غير المبتدئ القصةَ أو الروايةَ بخطة مفرطة التحديد؛ خلاصة الحبكة مع أرقام رومانية وأحرف كبيرة وصغيرة أو موجز مفصل يفسر كل علاقة وكل انعطاف، وبذلك تكون الجملة الأولى المكتوبة من النص الفعلي خالية من الطاقة، ومن الموسيقا، كما أي سطر من قائمة الأعمال الواجبة اليومية.
ولإعادة صياغة ما قاله هنري جيمس، الذي بدأ كما لو أنه يملأُ نموذجًا فحسب، وبالتالي فقد جاءت لغة السطر الأول؛ الحمض النووي للقصة، صالحة للاستعمال في أحسن الأحوال، ومفتقرة للحيوية في أسوأ الأحوال. يبدو أنها بالية لأنها هكذا بالفعل –فقد عُولجت مرارًا وتكرارًا في ذهن المؤلف– حتى لو كانت طازجة على الصفحة.
ومن واقع تجربتي، فإن الجمل الأولى المتفوقة التي تكون دفينةً في الصفحة الثانية أو السابعة أو الثامنة عشرة من عمل قيد الكتابة هي جملٌ تظهر من دون تخطيط مسبق، جملٌ كُتبت بغير صيغة جاهزة، بغير تواطؤ، جملٌ لم تُؤلف في لحظات الإلهام الخالص أو لحظات السعي الدؤوب للتألق، بل في لحظات القلم على الورقة/الأصابع على لوحة المفاتيح (الفأس على الصخرة الصلبة؟) من العمل اليومي للانتهاء من رواية القصة. ذلك النوع من الجُمل التي تفاجئ الكاتبَ وتبهجه حين يُلفت انتباهُه إليها باعتبارها بداية مُمكنة، ومفضلة.
حين أفكر بتلك السطور الأولى الفارقة في الأدب، من تولستوي إلى تيلي أولسن، فإن الشيء الوحيد الذي يبدو أنهم جميعًا يشتركون فيه هو السلطة؛ وهي كلمة قد يكون من السهل تعريفها في هذا السياق بما ليس فيها بدلًا مما هو فيها على وجه الدقة.
«ليكن اسمي الذي أعرف به هو إسماعيل» مثالًا، هي ليست: أظن أنه يمكنك القول إني تمتعت بالعديد من الأسماء المختلفة في حياتي، وبعد كل شيء، فقد كنت طفلًا صغيرًا وخجولًا، وقد انتُقِدتُ كثيرًا، ومن بين جميع الأسماء والألقاب التي كانت لي عبر مسيرة سنواتي الخمس والعشرين، فأنا أفضل أن تشير إلي بالاسم الذي يمكن أن تظنه، إلى حد ما، قديمًا أو ربما توراتيًا، كما أن أمي كانت تبدو بروتستانية أو شيء من هذا القبيل، ولكنها لم تكن كذلك، لقد كانت لا أدرية، رغم أنها كانت تقرأ الكتاب المقدس حين لم يكن ثمة شيء آخر لتقرأه...
لو كان ثمة تمهيد غير مكتوب لـ«ليكن اسمي الذي أعرف به هو إسماعيل»، فسيكون شيء من قبيل: اجلس، توقف عن الكلام، أنصتْ إلي.
السلطة. إن ما تحمله كل هذه الجمل الأولى البارزة، بكل تنوعها، هو الثقة. من دون مواربة. من دون بناء على الأشياء الجيدة.
إنهم يقولون: أنصتْ. لدي قصة لأرويها. وأنا أعرفُ كيف سأرويها، صدقني.
---------------
([1]) هذه الاقتباسات هي مطالع الروايات التالية، على الترتيب، وقد أُرفقت بالترجمة التي أُخذت منها: («موبي ديك»، هرمان ملڤل، ت: إحسان عباس — «آنا كارينينا»، ليو تولستوي، ت: صياح الجهيم — «صورة الفنان في شبابه»، جيمس جويس، ت: ماهر البطوطي — «التحول»، فرانز كافكا، المترجم — «السيدة دالاواي»، ڤرجينيا وولف، ت: عطا عبد الوهاب — «ها أنا ذا أقف أكوي»، تيلي أولسن، المترجم — «بورتريه لسيدة»، هنري جيمس، المترجم — «القلب صياد وحيد»، كارسن مكالرز، ت: عزة حسون).