البير قصيري… رجل حر بين القاهرة وباريس

alrumi.com
By -
0

 


تيري باكو |

 ترجمة وتقديم: عبد المنعم الشنتوف(القدس العربي)

 تحتفي هذه الدراسة التي نقدم ترجمتها العربية بالتجربة الإبداعية للكاتب المصري ذي التعبير الفرنسي البير قصيري، الذي ولد في القاهرة عام 1913 وتوفي في باريس عام 2008. ويسعى الكاتب والأكاديمي الفرنسي تيري ياكو الأستاذ في جامعة باريس فال دو مارن إلى الاقتراب من بعض تفاصيل وسمات سيرة وعوالم البير قصيري السردية والفلسفية التي وجهتها والتي احتفت بالكسل واللامبالاة في سياق التعاطي مع أشياء وظواهر الحياة. أبدع قصيري على امتداد هذه الحياة الطويلة والصاخبة أعمالا متميزة نذكر من بينها: «بشر نسيهم الرب» 1941. «كسإلى في الوادي الخصيب» 1948 «شحاذون ونبلاء» 1955»العنف والسخرية» 1962 «مؤامرة مهرجين» 1975 «ألوان النذالة» 1999.

النص

هو ذَا كاتب لم يكن له أي حضور حين كان حيا في المعاجم والموسوعات. كان أشبه برجل لا شرعية له في عالم الأدب وعصيا على التصنيف ومراوحا بين ثقافتين ومدينتين (القاهرة وباريس) وعالمين. مصري مسيحي رأى النور في القاهرة عام 1913. كان أبوه من الأعيان، فيما كانت أمه امرأة أمية لا تتحدث معه بغير اللغة العربية. وقد تابع على الرغم من ذلك دراسته في المدارس الفرنسية، واطلع منذ نعومة \اظفاره على كلاسيكيات الأدب الفرنسي. شغف بملاحظة ساكنة مدينته التي يحفظ تفاصيلها عن ظهر قلب، وحولهم ضدا على إرادتهم إلى أبطال لقصصه القصيرة، التي شرع في نشرها ابتداء من سنة 1936 في المجلات القاهرية، قبل أن يصدرها في مجموعة قصصية عام 1940 بعنوان «بشر نسيهم الرب». أعجب هنري ميلر بهذه المجموعة وكتب عنها: لا يوجد كاتب قيد الحياة تمكن مثل البير قصيري من أن يصف وبأسلوب لاذع حياة تلكم الحشود الغارقة في الهامش». اشتغل في الفترة ما بين 1939 و1945 على متن بواخر الشحن المصرية، قبل ان يستقر في باريس في نهاية الحرب العالمية الثانية، في فندق لويزيانا في زنقة لاسين، الذي سيموت فيه في الرابعة والتسعين من عمره. وقد سبق له أن حل عام 1930 في العاصمة الفرنسية لمتابعة دراساته.
لم يلبث أن أصبح وجها بارزا في حي سان جيرمان دوبري، ارتبط بصداقة مع البير كامو وانجذب إلى عوالم بوريس فيان وجولييت غريكو ومولودجي وجان جينيه والبيرتو جياكوميتي. ويتذكر الناشر الفرنسي الجزائري المولد إدمون شارلو: حين تعرفت على البير قصيري دون شك في نهاية عام 1945، أو بداية عام 1946 راعتني هيئته النحيفة والأنيقة، التي تتميز بشيء من اللامبالاة بدت لي مناقضة لقسمات وجهه الدقيقة، ذات التعبير الساخر في الغالب، التي تكثفها نعومة أو رخاوة تؤشر إلى عبثية الأشياء والمواقف». تبرزه الصور الفوتوغرافية بالفعل شخصا مسرفا في أناقته وطريقة اختيار ملابسه ومخبره الساخر ونظرته الملغزة وفمه الذي يفتقر إلى شفتين. كان بكل تأكيد شخصا غريبا ومغويا. تشتمل أعماله على سبع روايات واقتباس مسرحي «كسإلى في الوادي الخصيب» كوميديا من ثلاثة فصول، علاوة على المجموعة القصصية التي أسهمت في شهرته وشجعته على الاستمرار في الكتابة بمعدل جملتين في الأسبوعين، خضع عام 1998 لعملية جراحية لاستئصال سرطان في حنجرته. وقد فقد من جراء ذلك حباله الصوتية. ولبث على الرغم من ذلك باريسيا ومواظبا على الجلوس في «لي دو ماغو» و»فلور» حيث كان يتواصل مع آلاف من المعجبات والقراء بواسطة قصاصات مكتوبة.
احتفى العديد من الكتاب مثل توفيق الحكيم ونجيب محفوظ وطه حسين ويوسف إدريس وجمال الغيطاني وصنع الله إبراهيم وأندري شديد بهذه المدينة العجيبة والصاخبة التي تتسم بالفوضى والإسراف في كل شيء، وهي أيضا المدينة الرقيقة والهادئة والنهمة والحلوة إن صح هذا التعبير. شيدت القاهرة على طول النيل بين الصحراء والمقطم. وشهدت انفجارا ديموغرافيا رهيبا؛ إذ انتقلت من 700000 نسمة ما بين الحربين العالميتين إلى 18 مليون نسمة. وهي تشهد الآن توسعا جغرافيا مثيرا للدهشة، بظهور مدن جديدة وتجمعات سكنية في الصحراء. هل كان من الممكن أن يعثر فيها البير قصيري على نفسه؟ أجدني ميالا إلى تأكيد ذلك؛ لأن كتاباته لم تكن تستهدف فقط وصف القاهرة او صوغ شهادة عن المدينة وأسرارها وألغازها وسحرها، وإنما عن حالة نفسية أو مزاج سكان القاهرة وبعض القيم مثل الكسل واللامبالاة حيال المال والارتقاء الاجتماعي والسلطة، والعزوف عن أي مداهنة للحكم والمناقضة لكل ما ينزع إليه المجتمع المصري منذ عقود عديدة؛ أقصد الإثراء والاستهلاك والممارسات التي تفتقر إلى المعنى.
ووفق هذا المعنى تبقى رسالته راهنية والنبرة الهزلية الضاحكة، التي يتبناها قادرة على مخاطبة القراء. وقد أفلح بواسطة الهزل والمواقف المضحكة من جذب قرائه وحثهم على التفكير في الشرط الإنساني، بمعزل عن أي نزوع صوب التفلسف الميتافيزيقي أو تلقين دروس خصوصا، دون السقوط في منزع أخلاقي طفولي يضع القارئ موضع اتهام. ويبدو من العبث تجاهل الحضور الطاغي لهذه المدينة معمارا وجسدا وحسا في قصصه ورواياته:
«أصبحت الحضارة مرعبة بشكل خاص بطول شارع فؤاد الأول وشارع عماد الدين. في الحقيقة هذان الشارعان ينعمان بكل الذي تحافظ عليه وتفرط فيه مدينة متحضرة من أجل البلاهة البشرية. هناك بعض المشاهد السخيفة. بارات حيث الكحول باهظ الثمن. كباريهات حيث الراقصات متاحات. محلات للموضة. محلات جواهرجية. أيضا إعلانات مضيئة، لم يكن ينقصها أي شيء في العيد. إنه التوحش على مدى البصر. الحلاق يقتل زوجته. بشر نسيهم الله». ترجمة لطفي السيد. «ترامواي في مكان ما من شارع محمد علي كان يجري على القضبان بصافرته الحزينة، يعلن عن محنة عالم بعيد. على جدار محل مبيض بالجير لوحة شعبية تجسد ضفة النيل مع قارب يقف على النهر. ثابت كما لو كان لم يعد يريد التحرك، لكنه يظل هكذا للأبد. ساعي البريد ينتقم. بشر نسيهم الله».
تجلي هذه المقاطع موهبة الحكّاء، التي كان يمتلكها البير قصيري وقدرته على استيعاب وهضم شخصيات الكوميديا الحضرية. وهي وجوه تتكرر باطراد في نصوصه: الشحاذ، أو الطفل الفقير، أو العاهرة الصغيرة، أو البائع المتجول، أو زبون مقهى المرايا بشكل خاص، أو الوصولي أو السياسي المخاتل.. تبدو المدينة مضاعفة؛ إذ ثمة من جانب المدينة ذات الطابع الغربي بكل بريق أنوارها، وفِي الجانب الآخر في الظل المدينة الفقيرة بمنازلها وشققها الآيلة للانهيار، حيث الصخب وانعدام الراحة والرفاهية. ولهذا التقاطب المكاني مظهر اجتماعي؛ إذ نشهد تعايش عالمين بسلطة الإكراه وبمعزل عن أي لقاء أو انصهار أو تمازج. وليس ثمة أي اعتراض أو احتجاج على هذا الظلم. يلبث كل في مكانه في ما يشبه قدرية حتمية:
ـ لا أفهم يا سيدي كيف تبقى عديم الإحساس حيال تصرفات هؤلاء الأوغاد؟
رفع جوهر صوته وهو يجيب:
ـ لم أنكر إطلاقا يا ولدي وجود هؤلاء الأوغاد.
ـ لكنك تقبل بذلك ولا تفعل أي شيء كي تواجههم.
ـ صمتي ليس قبولا. أنا أحاربهم بطريقة أكثر نجاعة منك.
ـ أي طريقة تلك؟
ـ بأن أرفض أي تعاون ومشاركة في هذه الخدعة الكبيرة.
ـ لكن شعبا بكامله لا يمكنه ان يستكين إلى هذا الموقف السلبي. إنهم مرغمون على العمل.
ـ عليهم ان يتحولوا إلى متسولين. ألست بدوري متسولا؟ سوف ترى حين يكون لنا بلد كل سكانه متسولون إلى أي حال تصير إليه هذه الهيمنة الرائعة. سرعان ما سوف تتحول إلى غبار. (رواية متسولون ونبلاء).
كان بطل هذه الرواية جوهر في ما مضى أستاذا للفلسفة، وقد تحول من تلقاء نفسه إلى متسول. وقد أصبح مكلفا بحسابات بيت للدعارة ومسؤولا عن كتابة رسائل العاهرات. وهو ينعم بالكسل ويجد السلوى في الحشيش وتمضي حياته رخاء وسط بسطاء القاهرة، ولا يرجو إلا شيئا واحدا وهو تكرار المماثل؛ ذلك أن كل يوم يجود عليه بدفق أحداث ومسرات بسيطة. ولأنه مناهض للعنف فقد رفض جوهر العمل السياسي، شأنه في ذلك شان البير قصيري، الذي مجد في «كسإلى في الوادي الخصيب» قيمة الكسل والعزوف عن العمل وحولها إلى فضيلة شبه ثورية. تلوذ الأسرة بكاملها بالنوم السعيد وتعتبر القيلولة «مقدسة» والخمول فنا للعيش. وهذا ما حملهم على الدهشة والحزن حين علمهم باعتزام الشاب سراج الرحيل إلى المدينة بحثا عن العمل. قال رفيق: الله نصير الكسإلى. وسوف يظل شرف العائلة في مأمن؛ إذ لن يعثر الشاب الصفيق على العمل وسوف يعود إلى البيت.
تشكل رواية «العنف والعبث» عملا يحتفي بالبروباغاندا التي تواجه بإفراط في البروباغاندا. أصيب حاكم المدينة بالزبونية والوصولية ويمارس الاستبداد بسعادة وهو محاط بالمحظيات والانتهازيين ويحكم قبضته ويشتري ذمم بعضهم ويسجن الآخر. كان طاغية راضيا عن نفسه وذا سلوك مترفع واحتقاري، كان بالإضافة إلى ذلك متكبرا ومغرورا. كانت جماعة من المعارضين قد ألصقت على جدران المدينة ملصقات تمجد هذا الرجل الذي يثير الخوف أكثر مما يبعث على الإعجاب. وكانت الحجج والذرائع في هذا السياق متسمة بالادعاء والتبجح إلى درجة يختلط فيها الافتقار إلى الشعبية بالعبث. يثير الحاكم حفيظة وغضب المقربين إليه وأيضا أعضاء حكومته. تعرضت صوره للتمزيق كما أصبح مادة للهزء والسخرية بشكل مفضوح، بسبب ثقته المفرطة في قوته. وفي أثناء ذلك كان إرهابي يعد عدته ويضع عبوة ناسفة كي يحول الديكتاتور وسيارته إلى رماد. وكان ذلك نقيضا لما كان يصبو إليه معارضوه الرافضون لعنف العملية، التي من شأنها أن تحوله إلى شهيد. وكان كافيا في هذا الخصوص الركون إلى حملة تحريض ودعاية لإسقاطه.
قيل أحيانا عن البير قصيري إنه كاتب من الدرجة الثانية. وحري بنا الاحتياط من هذه التصنيفات التي تكون دوما قديمة وعرضة للجدل. ذلك إن قصيري الكسول يسائل بطريقة تعتمد اللامبالاة والسخرية والذكاء الملفات «الجدية» مثل السلطة والحب والعمل والحياة الحرة. وهذا لعمري كاف لأن يجعل منه كاتبا مستحقا للاعتراف والتقدير.

Tags:

إرسال تعليق

0تعليقات

إرسال تعليق (0)