دومينيك كليفنو | ترجمة وتقديم: عبد المنعم الشنتوف
القدس العربي
يستعيد الأكاديمي الفرنسي دومينيك كليفنو في هذه الدراسة، التي نقدم ترجمتها العربية، تفاصيل دالة عن حضور الرسام الفرنسي الشهير هنري ماتيس في المغرب، وتحديدا في طنجة في الفترة الممتدة بين يناير/كانون الثاني 1912 وفبراير/شباط 1913. يبدو التشديد واضحا في هذه الدراسة على الولع الخاص بالشرق وعوالمه وشخوصه، في ارتباط بتيار الفوفيزم الذي كان مبدعه الرئيس وضوابطه الجمالية المغايرة لما هو مألوف، التي جعلته بمنأى عن التقليد الاستشراقي السائد إبان القرن التاسع عشر. شكلت محطة طنجة المغربية ذروة التحقق الجمالي في تجربة هنري ماتيس، في انسجام مع تيار الفوفيزم. وكان انفتاحه الواعي على الفن الإسلامي وتمثيلاته.
دومينيك كليفنو أكاديمي متخصص في الفن الإسلامي، يعمل أستاذا للفنون التشكيلية في جامعة تولوز لا ميراي الثانية. أصدر عددا من الأعمال المهمة في هذا الخصوص، نذكر من بينها «جماليات الحجاب.. بحث في الفن العربي الإسلامي» «زخرف ومعمار الإسلام».
هنا نص مقال كليفنو:
في سياق حواراته مع نقاد الفن، كان ماتيس يشدد دائما على المنزلة المهمة التي كان يحتفظ فيها للشرق عنده: أحببت الشرق كثيرا وكنت دائم الانجذاب صوبه. هل يمكن اعتبار هذا الانجذاب امتدادا لتيار الاستشراق في القرن التاسع عشر، الذي مثّل العالم الإسلامي بالنسبة له فضاء للهروب يمتزج داخله الواقع بالاستيهام؟ هل كان ذلك محصلة اعتناق وإيمان بجمالية الفن الإسلامي؟ باعتباره تمثيلا وتعبيرا عن علائق فلسفية وإنسانية مع الإسلام؟
كان لقاء ماتيس مع ما كان يدعوه بـ«الشرق» موصولا بالفن الإسلامي، الذي يرجع الفضل إلى عديد من الرسامين الاستشراقيين من خلال أعمالهم لدخوله إلى السياق البصري الغربي. وقد سنحت الفرصة لماتيس كي يتعرف إليه منذ بداية القرن العشرين. فقد زار في عام 1900 المعرض الدولي بأروقته المخصصة لتركيا وإيران وباحتفائه بالفن القبطي. وسيكون في مقدوره عام 1903 حضور المعرض المهم المخصص للفن الإسلامي، الذي نظمه غاستون ميجون في متحف فنون الزخرفة. وسيتم بعد سنتين من ذلك افتتاح قاعة مخصصة للفن الإسلامي في متحف اللوفر، حيث توجد حسب ماتيس، أجمل ما رأت عيني من التحف الخزفية. ومنذ ذلك الحين تخلّق هذا الولع المشبوب والمستنير بمنتجات الفن الإسلامي: سجاد، خزف ومنمنمات. بيد أن اللقاء الحاسم والأهم مع فن الشرق المسلم، تم في أكتوبر/تشرين الأول عام 1910 في ميونيخ في ألمانيا، حين زار ماتيس معرضها الاستثنائي الذي اشتمل على 3500 قطعة تنتمي إلى مختلف أرجاء العالم الإسلامي. وسوف يقول ماتيس عقب هذه الزيارة، إنه عثر على «تأكيد جديد» في ما يتعلق بأبحاثه الفنية الخاصة.
وبموازاة هذا الانجذاب صوب الفن الإسلامي، اتخذ البحث عن الشرق عند هنري ماتيس، خصوصا في السنوات الأولى من القرن العشرين شكل سلسلة من الرحلات. وسيقوم عام 1906 بزيارة خاطفة إلى الجزائر. وسيتركه هذا الاقتراب الأول من الواقع الإسلامي على جوعه. لكنه خلال خريف 1910 وتحديدا بعد شهر من حضوره معرض ميونيخ الاستثنائي، سيقوم برحلة إلى إشبيلية وغرناطة وقرطبة. كانت الأندلس حيث تنثال الذكريات العربية والمغربية، في شكل خاص، مقدمة وفاتحة لولعه بهذا الشرق، الذي سيلتقيه في السنة اللاحقة في المغرب. مقامان طويلان في طنجة. امتد الأول من يناير إلى إبريل/نيسان عام 1012. والثاني من أكتوبر 1912 إلى فبراير 1913. وسوف يعود من هاتين الرحلتين بلوحات تشهد على هذا الانتشاء المتخلق عن اللقاء بطبيعة وسكان طنجة.
ويبدو من خلال اطلاعنا على هذه الأعمال، أن تجربته مع الفن الإسلامي والواقع الجغرافي والإنساني المغربي قد امتزجا. فكما لو أن ماتيس رأى المغرب، من خلال المصفاة الملونة للمنمنمات الفارسية.
علينا ان نعود إلى هذه السنوات السابقة على الاكتمال المغربي.. ما الذي لفت انتباه ماتيس في الفن الإسلامي؟ علينا إيلاء الأهمية في المقام الأول إلى ما كان يناسب انشغالاته في تلك اللحظة، وأقصد الألوان. سوف يفصح عن هذه اللحظة الحاسمة في تجربته الفنية في سياق حوار أجري معه عام 1925 حول «الفن الحي» وسوف يشدد ماتيس على معاصرة هذين الحدثين في تعبير فصيح: كان الولع باللون يتخلق داخلي. وفي تلك اللحظة بالذات نظم معرض الفن الإسلامي الكبير.
كان ماتيس عام 1903 ماخوذا في اكتشاف الفوفيزم الذي يحتفي باللون الخالص. كذلك في اكتشاف في الفن الإسلامي، خصوصا في المنمنمات الفارسية، بموازاة بعض أنماط نسخ الفضاء، يتمثل في التوظيف المتفرد للألوان. وفي الوقت الذي كان يضطلع فيه اللون في جل التراث التشكيلي الغربي بوظيفة وصفية، فإنه يتحرر في سياق التشكيل الفارسي من إكراهات وضغوط الواقعية. وعلى العكس من ذلك فقد تمكن من خلال رفضه الخضوع لثنائية الأبيض والأسود، والاكتفاء بمحاكاة تأثيرات الظل والنور من استشراف استقلاله. ولأنها تحررت من ضغط وثقل الواقعي، فان الألوان المنبعثة من منمنات معلمي هرات وتبريز وبخارى، تتجلى في أقصى إشعاعها وأصالتها الأولى، وكما لو أنها تتوخى التعبير عما مؤداه أن العالم الذي تقوم بتمثيله لا ينتمي إلى ما هو أرضي وإنما إلى عالم مفارق. وفي غمرة هذا العالم ذي التمثيل البصري الخالص الذي يؤثر التراث الغنوصي الشيعي وسمه بعالم المثل، لا ينحصر النور في ما ينبعث من مصدر خارجي، وإنما يتجاوزه إلى ما يضيء الأشياء من الداخل، وما يرشح من الألوان.
تشكل الفترتان التي أقام فيهما ماتيس في طنجة، لحظة حاسمة في تجربته التشكيلية. سوف يتطور «بعده الشرقي» الذي جرى إعادة تفعيله بواسطة معرض ميونيخ، وزيارة الأندلس عام 1910، والذي يفصح عن حضوره في النسق البصري لماتيس بشكل يجعل منه أشبه باكتمال رحلة بحث.
إلى أي حد استشعر ماتيس مسبقا الدلالة الصوفية والفلسفية للون داخل المنمنمات الفارسية؟ يبدو جليا أنه عثر فيها على صدى لأبحاثه الخاصة. وترتبط إحالاته على الشرق في حواراته وكتاباته في تصوراته بخصوص اللون. وفي حالة التشكيل فإن الألوان لا تكتسب سلطتها وبلاغتها إلا حين استعمالها في حالتها الأصلية، وحين لا يكون إشعاعها وأصالتها محجوبتين بأخلاط تعارض طبيعتها.
يحق لنا أن نتساءل رغم ذلك، إن كان ما ذكرناه، هو العلاقة الوحيدة التي تصل بين ألوان ماتيس وألوان الشرق. يقدم اختيار بعض الايقاعات من لدن ماتيس في هذه الفترة التي تمتد بين 1903 و1913 علاوة على طريقة تجميعها وخلق أواصر وصلات بينها إلى جانب الثقافة البصرية للعالم الإسلامي بعض التماثلات التي تستحق أن نخضعها للمساءلة. والحق أنه خلال هذه السنوات، التي شهدت تلاحما وطيدا مع الفن الإسلامي، خضعت تجربة ماتيس التشكيلية إلى تحولات تشي بعلاقة عميقة بالعالم الإسلامي. ويفصح هذا التطور في نسق توظيف الألوان عند هنري ماتيس بشكل تعاقبي عن طريقتين. ثمة في البداية هيمنة للأحمر والأخضر، ثم ما نلبث أن نشهد انتقالا تدريجيا صوب اتفاق أكثر رصانة على توظيف الأزرق والأخضر.
تشكل الفترتان التي أقام فيهما ماتيس في طنجة، لحظة حاسمة في تجربته التشكيلية. سوف يتطور «بعده الشرقي» الذي جرى إعادة تفعيله بواسطة معرض ميونيخ، وزيارة الأندلس عام 1910، والذي يفصح عن حضوره في النسق البصري لماتيس بشكل يجعل منه أشبه باكتمال رحلة بحث. وبفضل ألوانها الصارخة أحيانا مثلما هو الشأن بالنسبة للوحة «الزهرة وقوفا» حيث يتقاطع فستانها الزمردي مع خلفية قرمزية، يجري تنويعها بالبنفسجي والأخضر الفستقي، مثلما هو الشأن في لوحة «حميدو» لكن دائما بنوع من الطزاجة المنيرة فإن اللوحات المنجزة في طنجة، تبدو كما لو أنها تعبر عن متعة ماتيس المتخلقة عن انصهار التجربة الجمالية للفن الإسلامي، والتجربة المعيشة للواقع الجغرافي والإنساني في طنجة. وما لم تمنحه إياه رحلة الجزائر عام 1906 سوف يجود عليه به المغرب. ويتعلق الأمر بذلك الإحساس بالتكامل التام بين مساره الفني والفضاء، أقصد الشرق.
هكذا إذن سوف تعبر ثلاث لوحات أنجزت داخل فيلا بروكس، عن الإحساس بوحدة الوجود حيال الطبيعة، بمعزل عن أي محاكاة لصور المعلمين الفرس. ويضطلع اللون داخل هذه اللوحات بالدور ذاته المتمثل في تحويل الواقع إلى رؤية تحيل على الجنة. وهذا على الأقل ما سوف يقر به صديقه مارسيل سمباط بقوله: إن هنري ماتيس حوّل الطبيعة المغربية إلى جنة أرضية. يجدر بنا أن نتحدث في هذا الخصوص، ليس عن تحويل وإنما إعادة تشكيل. لن يتحدد تأثير اللون في تحويل الواقع إلى جنة أرضية، وإنما في الكشف عن ماهية الجنة في الطبيعة. لا يتعلق الأمر هنا بتحويل ماتيس إلى صوفي فارسي؛ إذ يتوسل باللون بوصفه وسيلة للتعبير عن انفعالاته. بيد أنه لا يسعنا تجاهل نصيب المكون الديني في سياق العلاقة الانفعالية التي يحتفظ بها مع الطبيعة والألوان. ومع التجربة المغربية انصهرت أسطورة العهد الذهبي، التي جسدتها لوحات «ترف لذة وهدوء» 1904، أو «بهجة العيش» 1905 – 1906 بألوان الفردوس.
تتيح لوحة «فوق السطح» التي تشكل مع لوحتي «من النافذة» و«باب القصبة» عصب الثلاثية المغربية، نموذجا آخر لهذا الشعور الديني الذي يمكن للون أن ينتجه. ورغم أن هنري ماتيس كان قد صرح بأن هذه اللوحة تمثل شخصية الزهرة فوق سطح الماخور، فإنه يقدم لنا صورة امرأة شابة تجلس القرفصاء في وضع الصلاة فوق سجاد. وباستثناء مثلث النور الوردي وبقع صفراء وحمراء وبرتقالية لحوض أسماك ـ موضوع التأمل – وزوج من النعال موضوع على حافة السجاد، فإن الكل كان يسبح في هالة مضيئة من اللونين الأخضر والأزرق. وقد حولت هذه المصفاة الملونة شخصية الزهرة إلى وجه يشع بالروحانية.
يستشرف هذا الإحساس بالانغمار في ألوان الإسلام ذروته في لوحته الشهيرة «المقهى المغربي» التي تعتبر آخر ما رسمه ماتيس في المغرب. نرى في هذه اللوحة ست شخصيات جامدة، في وضع الجلوس أو الاستلقاء، وفق تسلسل أفقي كما لو كان الأمر متعلقا بمنمنمة. اثنان في مقدمة اللوحة يتأملان حوض أسماك حمراء وباقة ورد، وأربعة في الأعلى قبالة قوس يزين أعلى اللوحة. من أين ينبع هذا الإحساس بالصمت والهدوء والخشوع؟ يقينا من وضعية الشخصيات، لكن خصوصا من امحاء وتلاشي ملامحهم وذوبانها في اللون الذي يهيمن على كل الحقل التصويري. أخضر ناعم وخفيف وأثيري يوشك أن يكون مطموسا وتتخلله بضع بقع حمراء تحيل إليها الأسماك والورود. وقد علق ماتيس على ملاحظة أبداها مارسيل سمباط في خصوص دلالة هذا الامحاء: ذلك لأنني كنت أقصد صوب مشاعري أي استشراف النشوة.