فاضل العزاوي إذا كان ثمة شاعر عربي حوّل كل حياته الى شعر فهو بامتياز سعدي يوسف الذي لا يمكن تصور وجوده أساسا في منطقة أخرى خارج دائرة الشع...
فاضل العزاوي
إذا كان ثمة شاعر عربي حوّل كل حياته الى شعر فهو بامتياز سعدي يوسف الذي لا يمكن تصور وجوده أساسا في منطقة أخرى خارج دائرة الشعر. المقولة الفلسفية التي أجترحها ديكارت ذات مرة: "أنا أفكر، إذن أنا موجود" تتخذ عند سعدي يوسف صيغة أخرى أكثر التصاقا به: "أنا أكتب الشعر، إذن أنا موجود". فإذا ما تصفحت أعماله الشعرية الكثيرة لوجدت نفسك وجها لوجه أمام تاريخ يمتد لما يقرب من سبعين عاما من الزمان. إنه ليس تاريخ بلده العراقي او وطنه العربي او العالم، وإن عكس ذلك أيضا بطريقة ما، بقدر ما هو صدى تفاصيل حياته التاريخ، منبثقا من عاطفة تتأجج في كل قصيدة جديدة كان يكتبها، زمان يتشكل من خلال ارتباطه بوقائع المكان الذي يوجد فيه، بالتفاصيل الصغيرة التي يلتقيها على قارعة الطريق، فهو كما يقول عن نفسه مدون قبل أن يكون أي شيء آخر. سعدي يوسف هو الشاعر الأقل تجريدا في قصيدته، وربما كان أيضا الأقل اهتماما بالأفكار التي تقع في مكان ما وراء الحس، ذلك لأن ما يظهر في قصيدته ليس صورة الأفق البعيد الذي ينتظرنا وإنما تفاصيل الطريق التي يسلكها اليه. فرغم انه يجعل "شيوعيّه الأخير" وهو اللقب الذي أطلقه على نفسه في السبعينات من عمره يدخل الجنة فان ما يسحره في الجنة التي تظل صورتها مجردة ومبهمة ولا يقول لنا شيئا عنها، رغم كل أنهار النبيذ التي يفترض أنها تتدفق في وديانها المشجرة الخضراء ورغم الحوريات الفاتنات المنتظرات عشاقهن المطهرين على السفوح، المستعدات دائما وأبدا لممارسة الحب بإشارة إصبع واحدة، وهو ما يتوق له بطل سعدي بالتأكيد، هو سعادة الطريق التي يقطعها شيوعيّه الأخير.
ما يهم سعدي يوسف من العالم ليس معناه الميتافيزيقي الذي قد يحوّل الشعراء الذين يقعون في شراك أسئلته المحيرة الى أنبياء من حجر في معبد، ما لم يمتلكوا القدرة على ما يكفي من الفكاهة لإنزال السماء الى الأرض، وإنما الحياة ذاتها وقبل كل شيء حياته هو بالذات. كل ما كتب عنه سعدي يوسف طوال حياته يرتبط بمشاهد الحياة اليومية، باللقطات الصغيرة هنا او هناك. كل ما يعيشه يصلح في نظره أن يكون شعرا. يكفيه أن يجد الجملة المناسبة التي يفتتح بها نصه لتكون القصيدة، وهو يمتلك دائما حيلة القول التي يفتح بها قصيدته. كل ما حوله يصلح أن يكون شعرا، فلماذا يدعه يفلت منه؟ كل نهار جديد يعني قصيدة جديدة او ربما أكثر من قصيدة، إن لم يكتبها اعتبر نهاره نهارا ضائعا.
إشتكى سعدي يوسف ذات مرة حين كنا لا نزال في العراق من صحافي سوري كان يقتحم عليه مكتبه مبكرا في الصباح ويظل يثرثر بلا انقطاع حول كل ما يعن له، "فيجهز" على يومه، على حد تعبير سعدي.
كان جان بول سارتر يقول حين يسأله أحد ما عن عافيته: "ما جدوى الصحة إن لم يستثمرها المرء في الكتابة؟" لقد فعل ذلك سارتر حتى الإنهاك الذي قاده الى فقدان البصر في النهاية. وهو نفس المصير الذي انتهى اليه جيمس جويس أيضا في سن مبكرة نسبيا. ولكن شكرا لله، أن كتابة الشعر تتعلق بالبصيرة قبل البصر ولا تتطلب كتابة آلاف الصفحات الروائية او الفلسفية، كما فعل سارتر وجويس. سعدي يوسف من الشعراء العرب القلائل الذين يرون أن كتابة القصيدة تحتاج الى ما هو أكثر من الموهبة: العمل اليومي والمران المستمر. وهنا يشبه الشاعر حامل الأثقال او الملاكم الذي لا يمكن له درء الصدأ عن عضلاته بدون تدريب يومي متواصل يفرضه على نفسه من أجل الوصول الى القصيدة الأفضل التي يريدها، ولكن سعدي يوسف لا يتوانى عن نشر نتائج تمريناته المكررة التي تشير لنا الى الطريق التي سلكها قبل ذلك.
لا يتعلق الأمر بالنسبة للشاعر بتطويع اللغة او الأوزان او ايقاع الجملة فحسب وإنما قبل كل شيء بتعلم التقاط شذرات الذهب المختلطة بمعادن رخيصة كثيرة تشبه الذهب داخل تلال من التراب، بإدراك المنظر الجوهري في الحركة العابرة واكتشاف كيمياء وضع كلمة جنب أخرى، وفي النهاية بخلق الإيقاع الكامل للقصيدة.
رغم إعجاب سعدي يوسف الكبير بالشاعر بدر شاكر السياب وسيره على خطاه حتى في ما يتعلق بخلافاته السياسية فان مكانه يقع في منطقة أكثر قربا من الشاعر عبدالوهاب البياتي، رغم اختلافه عن الإثنين معا، إذ تبتعد لغة سعدي البسيطة والمباشرة والتي تمتلك الكثير من ملامح اللغة اليومية عن لغة السيّاب، ذات الفخامة الكلاسيكية التي تدل على ارتباطه الوثيق بالقصيدة العربية التقليدية التي خرج من خيمتها وغنائيتها المنقولة الى الشعر الحديث، مثلما يختلف عنه في البنية الدرامية التي تشكل أهم ملمح القصيدة السيّابية، حيث يبني سعدي يوسف قصيدته في الأغلب على الكتابة الوصفية. صحيح أنه ظل هو الآخر غنائيا في معظم شعره، وبخاصة في مرحلتيه الأولى والوسطية، الا انه اقترب في العقدين الأخيرين من حياته من التجربة الستينية التي كان بعيدا عنها، بل ورافضا لها حين وجوده في العراق، محاولا الوصول الى ايقاع ربما كان أكثر مواءمة لقصيدته الجديدة والإقتراب من ايقاع النثر، ربما تحت تأثيرات قصيدة النثر التي شاع انتشارها في الكتابة العربية، ولكن أيضا لتراجع مستوى القصيدة الغنائية ذات الرنين العالي، وهو أمر يتعلق أيضا بمضمون القول الشعري وطريقة النظر الى العالم كقضية متعلقة بالحداثة وروحها التي يعكسها الشاعر في قصيدته والطريقة التي يقدم بها الشاعر نفسه الى قرائه.
لقد استفاد سعدي يوسف من عبدالوهاب البياتي في البداية. تعلم منه وبخاصة في "أباريق مهشمة" بساطة الجملة الشعرية والوصف والكتابة عن الأشياء اليومية الصغيرة والعابرة، وربما أخذ منه أيضا وخاصة في دواوينه الأولى مفهومه السياسي اليوتوبي الإنساني. ولكن الشاعر الذي أثّر عميقا في سعدي يوسف سياسيا وجماليا هو الشاعر اليوناني يانيس ريتسوس. لم يأخذ منه سعدي يوسف مفهومه فقط عن القصيدة اليومية ووصف الأشياء الصغيرة وانما أيضا الإفراط في كتابة القصائد الانطباعبة ونشر عشرات الدواوين مما جعل الكثير من قصائده تبدو مكررة او متشابهة. فهو قد يكتب في اليوم الواحد قصيدة او قصيدتين او حتى ثلاث قصائد. وحينما أُنتُقدَ على ذلك رد سعدي يوسف بأنه قد يكتب خمسين قصيدة من أجل الوصول الى قصيدة واحدة جيدة. قد يبدو مثل هذا الأمر مفهوما، لو انه اكتفى بنشر القصيدة الواحدة الجيدة وحدها، وانما ينشر أيضا كل القصائد التي يعتبرها هو نفسه مجرد تمارين شعرية. وبلغ به التأثر بريتسوس حد أن يكتب مثله ديوانا بعنوان "ايروتيكا" هو في الحقيقة "بورنو" فاضح، بعكس ديوان ريتسوس القائم على الايروتيكا الحسية.
لا ينتمي سعدي يوسف زمنيا الى ما صار يعرف الآن في الأدب العربي بجيل الرواد الذي مثله شعراء مثل السياب ونازك الملائكة والبياتي، وإنما الى الجيل الذي أعقبه وانحدر منه، فهو يصغرهم ببضع سنوات. ولكن هذا الإنتماء يظل شكليا، إذ لا يكاد يمتلك أي قيمة فنية مشتركة خاصة به تجمع بين شعرائه، باستثناء "الإعلانية السياسية" التي عرف بها معظم شعراء جيل الخمسينات تحت تأثير الحركتين القومية والماركسية اللتين امتلكتا قلوب الشعراء حينذاك، فضلا عن أن بعض شعرائه شكل ما يشبه فكرة الجسر بين جيلين: الرواد والستينات وضاع بينهما. فمن بين عشرات الشعراء الذين كانوا يكتبون الشعر حينذاك لم تبق سوى بضعة أسماء واصلت الكتابة او قدمت مفهوما جماليا مغايرا الى جانب سعدي يوسف: محمود البريكان، حسين مردان، يوسف الصايغ، مظفر النواب، عبدالرزاق عبدالواحد، لميعة عباس عمارة، شاذل طاقة، صلاح نيازي. وهنا ليس من الصعب ملاحظة أنه ليس ثمة الكثير الذي يجمع بين هؤلاء الشعراء ليشكل تيارا يمتلك سمات تميزه عن سواه. إنهم شعراء لكل منهم قصته المختلفة ورؤيته السياسية. وهو حال سعدي أيضا. ولكن إذا كان سعدي قد افتقد الركيزة الجمالية والفكرية في جيله، باستثناء الروح السياسية التي ارتبطت بحركة التحرر العربية في الخمسينات وشطرتهم الى قوميين وشيوعيين فانه امتلك ما يكفي من الدأب ليشق طريقه الخاصة به، كصوت بارز في الشعر العربي، وفي الوقت ذاته كصوت مرتبط بالمنجز الشعري العراقي المستمر حتى الآن. ففي حين ظل العديد من مجايليه أسرى منجزهم الأول فتح سعدي يوسف قصيدته ولو متأخرا أمام الحركات التجديدية التالية التي شهدها الشعر العراقي والعربي في الستينات. فبقدر ما كان معلما كان تلميذا أيضا، حتى وإن لم يكن ذلك سهلا عليه دائما. إخلاصه لنفسه كشاعر كان البوصلة التي دلته دائما الى طريق الينابيع رغم ثقل موروثه الشخصي نفسه. مشكلة الكثير من الشعراء أنهم يشيخون دائما في النهاية، فكما يقع الشيوخ أسرى ذكرياتهم الجميلة الماضية المشككة في أي جمال يمكن أن يمتلكه الحاضر، غالبا ما يعجز الشعراء عن الرؤية الجديدة تحت وطأة ما كان مجدهم الأول، فيظلون يكررون أنفسهم حتى النهاية المريرة. وحده الشاعر الحقيقي يظل شكاكا حتى وإن حصل على مجد العالم كله، فما يهم ليس الطريق التي قطعها المرء وإنما ما ظل من الطريق أمامه. وحده الشاعر الحقيقي يظل دائما مجنونا بالحياة، يغرف من بئرها الطافحة، فاذا ما توقف مات وانتهى شعره. ولم يكن ذلك غائبا عن سعدي يوسف.
تلقى سعدي يوسف الكثير من الصدمات في حياته مثلنا جميعا، لكنها لم تفقده القدرة على المواصلة. لعب النرد مع الزمن نفسه وراح يذكرنا كطفل بهيج بأنه انتصر عليه، بأناقته الداندية وقمصانه المزركشة وربطة عنقه المقصوصة حتى النصف والتي ربما أراد أن يجعل منها "موضة شعرية" حين عرض بكرم واحدة منها عليّ أنا أيضا، لأتنكر أنا الآخر مثله، فضلا عن القرط الذي راح يعلقه بأذنه، وهو أمر يكاد يكون نادرا بين المثقفين العرب. في السبعينات من عمره او ربما قبل ذلك او بعده بقليل إكتشف فضيلة أن يبدو شابا، كجزء من دفاعه ضد الشيخوخة، وصار أكثر جرأة وميلا الى اللعب والمشاكسة والعدوانية عما كان عليه في الأربعين او الخمسين من عمره، وصار في الكثير من شعره الأخير يقترب من المحاولات الشعرية الستينية التي حاول الوقوف ضدها سابقا بدعوى "الواقعية الإشتراكية". فقد عدد سعدي يوسف في مقالة له منشورة في مجلة الأقلام في العام 1972 كل ما اعتبره مواصفات ستينية للشعر، رافضا إياها: اللاغنائية، اللامباشرة، اللاخطابية، اللانداء، اللاتشبيه، اللاطبيعية، اللاروي، اللايومية، اللاسياسية، اللاإنتماء، اللارواد، اللاعمود، اللاتراث، اللاوعي"، خاتما قائمته بالقول: "وفي مواجهة كل لا أقول نعم." ولكنه تعلم أن يقول لا أيضا.
عاش سعدي يوسف في الحقيقة الكثير من النكبات والتقلبات والخيبات في حياته واضطر الى مغادرة بلاده والتنقل بين العديد من البلدان. فقد اعتقل بعد انقلاب العام 1963 شهورا عدة غادر بعدها الى الجزائر التي عمل مدرسا فيها. وبعد عودته الى العراق في العام 1970 إضطر الى مغادرته ثانية في العام 1979 الى الجزائر بعد حملة القمع التي طالت الشيوعيين ليعود في العام 1980 الى بيروت ويعمل مع حركة المقاومة الفلسطينية. ثم انتقل بعد الإجتياح الإسرائيلي في العام 1982 الى سوريا ومنها الى قبرص للعمل في مجلتي "الموقف العربي" و"فلسطين الثورة" حتى انتقاله الى عدن في جمهورية اليمن الديمقراطية للعمل في أجهزتها الثقافية. وحين اضطرب الوضع السياسي هناك أيضا إنتقل الى باريس التي أمضى فيها ما يقرب من العام ليعود مرة أخرى الى بيروت ودمشق قبل انتقاله الى عمان في الأردن التي أقام فيها سنين عدة حتى انتقاله الى لندن في نهاية تسعينات القرن الماضي وطلبه اللجوء السياسي فيها ومن ثم حصوله على الجنسية البريطانية التي وفرت له الأمان الضروري لمواصلة عمله الشعري.
وفي خلال هذه الفترة الطويلة راحت الرياح تعصف به يمينا وشمالا، فقد انتهى زواجه الأول والثاني الى الإنفصال والطلاق. وتوفي ابنه حيدر في الفليبين التي كان قد قصدها مع زوجته. ولم يفقد سعدي يوسف فقط وطنه العراق الذي انتهى الى دكتاتورية قادته الى العديد من الحروب المدمرة وأخيرا الى الإحتلال الأميركي وانما رأى كل ما آمن به ينهار أمام عينيه. فبعد انحسار المقاومة الفلسطينية شهد انهيار التجربة الثورية في اليمن الديمقراطية، ثم سقوط المعسكر الإشتراكي ونهاية الإتحاد السوفياتي. وكان أكثر ما آلمه هو رؤية الكثير من رفاقه الشيوعيين العراقيين ينتقلون الى تأييد الإحتلال الأميركي لبلادهم والعمل مع سلطة الإحتلال والقوى الدينية المتطرفة التي خربت المجتمع العراقي مما اضطره الى أن يزج نفسه في مهاترات افتقرت غالبا الى المستوى الثقافي الضروري.
رحيل سعدي يوسف خسارة كبيرة تلحق بالشعر العراقي والعربي، ولكن ما يخفف من هذه الخسارة هو انه قدم لنا في حياته كل ما قدر عليه من عطاء شعري دافق سوف يجعله حاضرا بيننا دائما.
ليست هناك تعليقات