b_achefri_g
بوجمة أشفري
سأفترض أنني قرأت قصة “الأخر” لخورخي لويس بورخيس لأول مرة. القراءة الأولى تثير الدهشة، وتكون -في الغالب- فارغة من النوايا المسبقة المكدسة في ذاكرة القارئ. إنها أشبه بالاكتشاف الأول للوجه في المرآة. ذلك الوجه الذي كنا نعتقد، ذات طية من طيات الطفولة، أنه وجه آخر.
توجد قصة “آخر” في مجموعة قصصية تحت عنوان “كتاب الرمل”، وهذا أمر غريب. أمر لا يقع إلا في الحكايات، حيث لا يفصل عالم الجن عن عالم البشر إلا شعرة أو نهر يسهل اجتيازه، وحيث يختلط الجد بالهزل. وعوالم الكتابة عند بورخيس لا تبتعد كثيرا عن هذا المنبع الميتافيزيقي. إذ كيف يمكننا أن نقرأ قصة موجودة في كتاب رملي، ما أن نحمله بين أيدينا حتى ينساب كالماء من بين فروج الأصابع. يتعلق الأمر باستعارة، استعارة رملية كالزمن الذي يستحيل الرجوع إلى بدايته، أو الوصول إلى نهايته. فالزمن لا يبدو متناهيا إلا عندما لا يوجد. إنه، وكما يقول غاستون بشلار، “لاشيء إذا لم يحدث فيه أمر…”، فالزمن فارغ بدون حوادث.
يستيقظ بورخيس، ذات صباح، باكرا حاملا معه معاناة الحلم ووهن الشيخوخة، والحكم بعدم الحركة، والاقتصار فقط على التسجيل والتذكر. حكم يتقوى بإفراط عبر الأرق والحادثة، وتغير الوجه، وفشل الجسد، وانتصار الروح، وواجب الألم، والمحو، وإذلال النفس لتحرير الآخر. تصبح المصادفة إلزامية وضرورية. إنه، هو والآخر. هو في سن السبعين، والآخر لم يتجاوز بعد سن الثلاثين. يخترق المسافة باتجاه الوراء. يتعارك مع النسيان لاختبار الذاكرة. يلتهم العالم، لكن العالم يلتهمه هو أيضا، يمنع عنه النوم، لأنه يتسلى بأحلام اليقظة. الانتصار مؤقت، ذلك لأن الذاكرة يصير وزنها ثقيلا لا يحتمل. التنكيل المعذب للأرق هو رحم العزلة والخوف، حيث الكائن تائه، وعاء فارغ من الأحاسيس الخارجية. يقال إن ذاكرة بورخيس موقوتة كالديناميت، فذكرى أو كلمة واحدة يستطيعان أن يفكا أسر حلقة من الروابط اللامنتظرة، واللانهائية.
الكاتب يصير شخصية، ويسمى باسمه أو بأسماء أخرى عديدة: “بيير مينار”، أو “خوري لويس بورخيس”، أو “أحد أمراء ألف ليلة وليلة”. الكاتب يعيش مضاعفه (أو آخره)، يجعله حقيقيا قابلا للتصديق، ويضفي عليه أو يخلطه بإسنادات كاذبة وحقيقية تخدع المتلقي.
“الآخر هو الذات”. ذات صباح من صباحات عام 1969، يستيقظ بورخيس، ويجد نفسه جالسا: “كانت الساعة العاشرة صباحا، وكنت أستريح على مقعد أمام نهر شارل. وكان هناك عن يميني، وعلى بعد خمسمائة متر، بناية شاهقة لم أعرف أبدا أن لها اسما (…). على الطرف الآخر من المقعد الذي أجلس عليه، جلس شخص ما…”. بورخيس يحلم أو يتخيل (هو يقول بأن الواقعة وقعت فعلا، وأنه لم يكن يريد أن يرويها في حينها حتى لا يفقد صوابه) لقاءه مع بورخيس الشاب. يتحاوران، ويسعيان إلى التعرف على بعضهما. يكتب الكاتب ذو السبعين عاما قصة هذا اللقاء، بعد أن يمر عليه زمن طويل، ويجعله “واقعيا وحقيقيا” كأحد تجليات ذاكرة دائمة البحث عن الكلية والوحدة.
إن عمل بورخيس في معظم كتاباته النثرية (والشعرية أيضا)، هو تقليص المتعدد إلى المضاعف، ثم في النهاية إلى الواحد. ورغم تقابل شخصياته، فهي ليست إلا تنوعا لشخصية واحدة، هي شخصية الكاتب. يفك، بنفس المنطق، ثنائية العالم وتمثله من خلال نفي الواحد ونهائية النصوص والكتاب، إذ عبرهم يتجلى الظاهر المخادع لواقع فرد.
يعدد بورخيس ذاته، ويجعل من “هو” آخرين، يحلمون ويعبرون عن أفكاره الخاصة. ألم يكتب ذات قصة: “أنا هم آخرون، إن أي رجل هو كل الرجال”. وفي موقع آخر، يقول: “ليس هناك إلا موضوع واحد، وهذا الموضوع المستحيل تقسيمه هو كل واحد من كائنات هذا الكون”. يحلم بأن شخصا ما يحلمه:
“- كلا. هذه البراهين لا تبرهن على شيء. فإذا كنت بصدد رؤيتك في الحلم، من الطبيعي أن تعرف ما أعرف…
لقد كان الاعتراض صائبا، فأجبته:
– إذا كانت هذه الصبيحة وهذا اللقاء حلمين، فكل منا لابد أن يعتقد أن الحالم هو. ربما توقفنا عن الحلم، وربما لم نفعل. وبين هذا وذاك نحن مرغمان على قبول الحلم، مثلما قبلنا الكون، وقبلنا أن نكون مولودين، وقبلنا أن نرى بالأعين، ونتنفس”.
يظهر الحلم كشكل من أشكال التنقل بين التمثل والمادة، بين الذات والكون، مثل حركة في اتجاه هوية الشيء، وتعدد الأجزاء المتقابلة. إنه في هذه الحركة المزدوجة حيث يقيم، على التوالي، البهاء والرعب. يقول بورخيس: “أنا أخاف من نزع هذا القناع، لأنني أخاف من روية وجهي الحقيقي، الذي أتخيله فضيعاً”. ويضيف: “عندما كنت أختبئ، كنت أراني في المرآة، مضاعفا ثلاث مرات، ينتابني خوف وهلع شديدان من فكرة أن هذه الصور لا تتطابق تماما نعي، وأبدأ بالتفكير في الرعب الذي أكابده وأنا أكتشف اختلافي في كل صورة من الصور الثلاث”.borges
لعل الزمن هو الإشكال الأساس في قصة “الآخر”، بل إنه أيضا إشكال كل كتاباته الأخرى. يعلن في أحد تصريحاته قائلا: “بالنسبة لي، الزمن هو موضوعتي الأساسية”. عندما يكتب بورخيس هذه الموضوعة، تثرا أو شعرا أو مقالة، فهو لا ينفلت من تأثير الفيلسوف الألماني شوبنهاور، الذي يقول بصدد الزمن: “لا أحد عاش في الماضي، لا أحد سيعيش في المستقبل. الحاضر شكل كل الحياة. إنه تملك، ولن يستطيع أي شر أن يخطفه”. ومع ذلك، فبورخيس يحاول أن يتعارك مع هذا التصور بالتخيل، وبالحلم، وبالافتراض. يقول في قصة “الآخر”: لقد كان الماء الرمادي يجرف قطعا كبيرة من الثلج، كما كان النهر، لا مفر، يذكرني بالزمن، صورة هيرقليط الألفية”. “بغتة استقر لدي انطباع (وهو ما يطابق حالة إعياء، حسب علماء النفس)، بأنني قد عشت فيما قبل هذه اللحظة”. “عادت بي هذه النغمة إلى بهو تلاشى، وإلى ذكرى ألفارو مليان لافينور الذي قضى منذ أمد طويل. ثم تذكرت الكلمات، كلمات الشطرين الأولين. لم يكن الصوت صوت ألفارو، غير أنه كان يحاول أن يكونه. وتعرفت عليه برعب”.
يعطي خورخي لويس بورخيس أهمية كبرى للزمن أكثر من الفضاء. فالفضاء، بالنسبة إليه، متاهة. هو إذن، يحول الفضاء إلى زمن. الزمن هو الفكر، والعالم هو امتداد لهذا الفكر. بورخيس مولع بفكرة مفادها أن الزمن لن يكون واقعا خارج ذواتناـ إذ إنه خطاطة بسيطة لفكرنا. يتعلق الأمر بتقديم الزمن ليس كطريق واحد، بل كسبل لا متناهية، ذلك لأن تدابير عديدة تحضر عند كل حدث. الزمن ليس خطا، إنه حزمة ألياف متوازية أو متفرعة.
في القصة، وخورخي لويس بورخيس يتحاور مع آخره وهو شاب، يقول:
“- في هذه الحال، أنت تدعى خورخي لويس بورخيس، أنا أيضا خورخي لويس بورخيس. نحن في 1969، وفي مدينة كمبريدج.
أجابني بصوتي:
– كلا، بل بعيدا بعض الشيء.
وبعد برهة ألح:
-إنني في جنيف، جالس على مقعد، وعلى بعد خطوات من الرون. الغريب هو أننا نتشابه، بيد أنك أكبر سنا وشعرك رمادي”.
الزمن/المتاهة ليس، في الواقع، إلا امتدادا للزمن المثالي، فهو يقوم على فكرة أن تاريخ البشر أو تاريخ فرد ما ليسا إلا إنجازا لتعدد حالات موجودة في أزمنة مفترضة أو ممكنة.
المتاهة، يقول بورخيس: “علامة بديهية على الدهشة، والدهشة -الذهول بالنسبة لأرسطو، منبع الميتافيزيقا- هي أحد الانفعالات الثابتة في حياتي. يقول شيسترتون: “كل شيء يمر، لكن يبقى دائما الذهول، والأخص الذهول أمام اليومي””.
نحن مع بورخيس، في قصة “الآخر” أو في قصص أخرى، في متاهة، في حلم، أو أمام مرايا متعدد ذات وجه واحد، على حد قول ابن عربي:
“ما الوجه إلا واحد غير أنه إذا أنت عددت المرايا تعددا”.
—————
المقال مأخوذ من الواحد والمتعدد: دراسات في قصص بورخيس، كتاب لـ: بوجمعة أشفري، صادر عن منشورات مجموعة البحث في القصة القصيرة بالمغرب، الدار البيضاء، 2003