من التُّهَم التي واجَهَتْ الروائي الفرنسي غوستاف فلوبير، عقب صدور روايته الشهيرة "مدام بوفاري" في 1856 هي الإباحية، وإشاعة الفُح...
من التُّهَم التي واجَهَتْ الروائي الفرنسي غوستاف فلوبير، عقب صدور روايته الشهيرة "مدام بوفاري" في 1856 هي الإباحية، وإشاعة الفُحْش، ما أدّى إلى مَنْعِ روايته زمناً طويلاً. وهذه الاتهامات، في واقع الحال، واجَهَتْ العديد من الروايات الرائدة في الغرب، قبل أن تتغير النظرة إلى هذه الأعمال الأدبية ويُجاز نشْرُها، كما هو الحال مع رواية "يوليسيس" لجميس جويس، التي مُنِعَتْ في أميركا وأستراليا وبريطانيا، وأيضاً رواية "لوليتا" لنابوكوف، و"عشيق الليدي تشارلي" للورنس، وغيرها من روايات كان سبب المنع أو سبب المحاكمة في بعض الحالات هو تهمة الإباحية. والذي يتعلَّق، في الحقيقة، بمجرد جرأة الكُتَّاب لتصوير الفعل الجنسي، بشكلٍ صريحٍ أو إيحائي، وهو ما يبدو أن تيار الرواية الواقعية البِلْزاكيّة، كان يتجنَّبُه.
.
إلا إن فلوبير، رائد الواقعية الاجتماعية والنفسية، كان يرى بأن "تصوير الواقع" سيبقى ناقصاً إن لم نتطرَّق إلى تلك الزوايا المعتمة أو المحجوبة بستارٍ من أفعال ونشاط الإنسان، ومنها حياتُهُ الجنسيّة.
.
لم يتطرَّق فلوبير في روايته "مدام بوفاري" إلى ما يُضاد القناعات الأخلاقية السائدة في عصره، وحَكَمَ على مصير بطَلَتِهِ إيما بوفاري بالخسران الذي أدَّى بها إلى الانتحار، وهو ما يمكن عدُّهُ ترضيةً أخلاقيةً لأولئك القرّاء الذين استفزَّهُم تهتُّك هذه البطلة. حسناً، لقد كانت امرأةً "بلا أخلاق"، وقد عاقَبَها الربُّ ونالَتْ جزاءها.
.
على الرغم من ذلك فإن القرّاء لم يغفروا للكاتب تصويرَهُ للأفعال الجنسية. إن الإباحية في نظَرِهم هي تسليط الضوء على ما هو معتِمٌ في الحياة الاجتماعية. وربما رأى أحدهم أن الأخلاقي في الأدب أن يُغَطّي في الكتابة ما هو مغطّىً اجتماعيّاً.
.
لكنه من المفارقة ربّما، أن ولادة الرواية الحديثة كانت أساساً بسبب تفعيلها لخاصية "التلصُّص". لقد نَشَرَ موظف المطبعة صاموئيل ريشاردسون، في العام 1740 مجموعة رسائل متخيَّلَة من خادمةٍ في بيتِ نبيلٍ إنجليزيٍّ، أرسلتها إلى أهلها في القرية.
.
كل الرسائل كانت تحكي عن محاولات إغواء السيّد لها، وكأن الكاتب كان يتلصَّص من خلف النافذة على هذه المحاولات ذات المضمون الجنسي، والذي فَتَنَ القرّاء لاحقاً، وجعل "باميلا" الرواية الإنجليزية الأولى والأكثر رواجاً ومبيعاً، أو، حسب كولن ويسلن، الرواية الأوربية الحديثة الأولى، تعريضاً بالفكرة الشائعة عن ريادة "الدون كيشوت" للإسباني سيرفانتس التي نُشِرَ أول أجزائها في 1605.
.
شعور القرّاء الإنجليز أنهم مع باميلا الخادمة في غرفة سيّدها أثناء محاولة إغوائها، هو ربما ليس جوهر رواية ريشاردسون فحسب، وإنما جوهرٌ وعصبٌ ظلَّ ممتداً في كل تاريخ الرواية الأوربية، والعالمية ضمناً.
.
إن هذا الحضور التمثيلي للقارئ خلف الأستار والحُجُب، هو ما يجعل الرواية شيئاً أكثر من مجرد حكاية تُروَى. وما يرقد خلف هذه الأستار هو، بحسب مرافعة فلوبير الدفاعية عن روايته، الحقيقة.
.
إن الحقيقة، حسب فلوبير، لا تنفصل عن الأخلاق. يجب أن تؤسِّس الأخلاق لنفسها على الحقيقة، وليس بتجاهُلِها. والحياة السّريّة، ومنها النشاط الجنسي، هو جزءٌ من الحياة العامة للإنسان، هذا إن لم نَرْفَع التقديرات، مع فرويد ومُجْمَل بحوث علم النفس الجنسي، لنرى أن الجزء الأكبر من حياة الإنسان يرقد في السرّ والعتمة، وأن العامل الجنسي أكثر تأثيراً في سلوك وتفكير ومزاج الإنسان بعشرات المرّات مما يَدَّعي الإنسانُ عادةً.
.
بحسب دراسة أجْرَتْها جامعة أوهايو ونشرتها صحيفة "ديلي ستار" البريطانية في 2013 أن الجنس، بشؤونه المتعددة يخطر في ذهن الرجال 34 مرّة في اليوم، والنساء يفكرّن به 18 مرّة.
.
إن هذا التأثير بالغ الأهمية للجنس وما يُحيط به من قضايا، يحضر في الأمثلة الشهيرة مع ملحمة طروادة، وتعلُّق "باريس" الطروادي ب"هيلين" الإسبارطية، ويمكن تتبُّع تأثيرات محورية مماثلة في كل جوانب التاريخ الإنساني، ومن ذلك ما يُقال عن سبب توجُّه هولاكو إلى الشرق العربي الإسلامي، بعد غزْوِهِ للمدن الفارسية، وعدم توجُّهِهِ إلى الشرق المسيحي، ما يُعْرَف اليوم بجورجيا وأرمينيا صعوداً الى روسيا، وأن السبب في ذلك هو تعلُّقُهُ بزوجَتِهِ المسيحية.
.
على أية حال، كان الدخول إلى مخادع الأبطال في الروايات ورؤية "أفعالهم" الجنسية، غزواً لمناطق جديدة من الواقعية، وتمزيقاً لحاجز النفاق الأخلاقي ما بين العالَمَين السِّرّيّ والعلنيّ، وهي مهمةٌ كبيرةٌ قام بها الأدب الروائي الحديث، ولكن الواقعية استمرَّت، لتغزو قلاعاً أخرى، حتى انتهينا إلى الهلاوس والخيالات والافتراضات باعتبارها جزءاً من مكونات الواقع، وهو ما ترسَّخَ مع الرواية الحداثية مع فرجينيا وولف وجيمس جويس وآخرين.
.
يرى بعض الأدباء والنقّاد أن المبرّر للجنس داخل الرواية، وما يحدِّد مستواه أو "كمّيّته" في أي رواية، هو الفِعْل الدرامي، فإن كان الجنس مبرَّراً درامياً وله وظيفةٌ دراميةٌ فهو مقبولٌ، وإلا فهو زائدٌ ويمكن التخلّص منه، مثلما يمكن التخلُّص من أي مادةٍ أخرى زائدة داخل نسيج الرواية.
.
أما كونديرا فيردّ على ملاحظةٍ تؤشِّر كثرة المادة الجنسية في رواياته، بأن الجنس حدثٌ كاشفٌ عن الذات الإنسانية، ففيها يتبدّى من الإنسان شيءٌ لا تَفْضَحُهُ تصرُّفاتُهُ في الحياة الاجتماعية العامة. إنه فجوةٌ لضوءٍ مختلفٍ يُعَرّفنا على الإنسان بدرجةٍ أكبر.
.
وباستعادةٍ لمرافعة فلوبير، فإن الأكثر أهميةً في التعامل مع الجنس، هو انهمام الرواية الحديثة بالحقيقة، وكسْرها لحاجز النفاق، وتعزيز وظيفة الأدب في التعريّة والفحص والنقد وتفكيك السائد المتكلِّس من القناعات والآراء.
.
المقال كاملاً على موقع منصّة الاستقلال الثقافي:
https://dipc.ps/page-2385.htm
ليست هناك تعليقات