بينَ أبْغَضِ الأشياءِ إلَيَّ في الثقافةِ اللبنانيّةِ (وهو حاصلٌ في كثيرٍ غيرها على الأرجح!) ما أسَمّيهِ "صناعةَ التحويل". وهو أن ل...
بينَ أبْغَضِ الأشياءِ إلَيَّ في الثقافةِ اللبنانيّةِ (وهو حاصلٌ في كثيرٍ غيرها على الأرجح!) ما أسَمّيهِ "صناعةَ التحويل". وهو أن لا يُناسِبَ شيءٌ ما نظامَ تعَقُّلِكَ للعالَمِ، للمجتمعِ، للتاريخِ، فتَدّعي أنّ هذا الشيءَ ليس ما هو بل هو تحويلٌ لشيءٍ آخرَ يتَقَبَّلُ نظامُ تَعَقُّلِكَ المذكورُ تعاطيه.
فإن كُنتَ لا تملِكُ، مثلاً، عِدّةً فكريّةً تأذَنُ لك بفَهْمِ الصراعِ الطائفيِّ (ومواجهتِهِ)رُحْتَ تزعُمُ أنّهُ صراعٌ طبَقيٌّ جرى تحويلُه إلى شَيْءٍ آخرَ أو أنّ ما بدَأَ طبَقِيّاً أفْسِدَ لاحقاً بالطائفيّة. وفي الحالين تُسْبَغُ على الطائفيّةِ صفةٌ شبحيّةٌ ويُزْعَمُ أنّها تحويلٌ لشيءٍ مغايِرٍ هو حقيقتُها وأنَها زَيْفٌ لا يَصْلُحُ لها أن تكون حقيقةَ نفسِها!
والفائدةُ التي يجنيها المثقّفُ (المؤرِّخُ أو الاجتماعيُّ أو المتفَلْسِفُ، إلخ.) من هذا الزَعْمِ هي الاستغناءُ عن تَحَمُّلِ العَناءِ المطلوبِ لتَعَقُّلِ ما هو واقِعُهُ وهي سُهولةُ الرُكونِ، بَعْدَ رَدِّ هذا الواقعِ إلى سِواه، إلى نظامِ تعَقُّلٍ جاهزٍ ومجرَّبٍ، في حالاتٍ أُخْرى، لتَوَهُّمِ تحصيلِ التعَقُّلِِ المطلوبِ باستعمالِ هذا النِظامِ في ما لا يَصْلُحُ له.
وذاكَ أنّ الطائفيّةَ لا هي وهمٌ ولا هي تحويرٌ لشيءٍ آخر. وإنّما هي نظامٌ مادّيٌّ-ذهنيٌّ شديدُ البأسِ، واقعيٌّ للغايةِ، تُفْهَمُ بما هي نفْسُها وبِنْتُ تاريخِها لا بما هي ترجمةٌ سيّئةٌ لما يغايِرُها. أو الطائفيّةُ - بعبارةِ مارسيل موس - "ظاهرةٌ اجتماعيّةٌ كلّيّةٌ" من القبيلِ الذي يراهُ موس موضوعاً يُعَرَّفُ بِهِ علمُ الاجتماعِ دُونَ سِواهُ، في ما يتعَدّى الموضوعاتِ التي تُخْتَصُّ بها علومٌ اجتماعيّةٌ أخرى ويَشْتَمِلُ عليها.
وهي (أي الطائفيّةُ) إذا استولَت على ما يبدو طبقيّاً، في مبتدإه -وهذا محتمَلٌ جِدّاً - فلكونِ الطوائفِ تكونُ، في حبْكةٍ بعينِها من التاريخ، أرسَخَ في الواقعِ التاريخيِّ وأوسَعَ حيلةً في الصراعِ وأوفَرَ قدرةً على المناورةِ فِيهِ من الطبقاتِ، فيسعُها أن تضعَ يدَها على ما يبدُرُ من حَراكٍ لهذه الأخيرةِ وأن تستتبعَهُ وتُخْضِعَه.
وأمّا الإعراضُ عَمّا هو قائمٌ أو تتفيهُهُ بإزاءِ ما هو أضعَفُ منهُ قواماً، في الواقعِ، فعاقِبَتُهُ إساءةُ التخطيطِ والتصرّفِ، في مساقِ الصِراعِ، والانتهاءُ، في الغالب، إلى حصادِ الهزائم.
صناعةُ تحويلٍ أخرى أراها ناميةً في ماضي ثقافتِنا وحاضِرِها وأكتفي بالإشارةِ العابرةِ إليها هي صناعةُ تمجيدِ النكباتِ أي تحويلِ هذه الأخيرةِ إلى أمجاد. وأكثَرُ ما يَصِحُّ هذا في ما نبادِرُ إليهِ أو يُشَنُّ علينا من حروب. فأنْ نصرِفَ النَظَرَ (لعِلّةِ الجُبْنِ المعنَويِّ الممَوّهِ بالتبَجُّحِ العَنْتَرِيِّ) عَمّا يسوقُنا إلى الخرابِ، كلَّ مَرّةٍ، من أسْبابٍ نُحْجِمُ عن معالَجَتِها... وأنْ نُعْرِضَ عن النقدِ الذاتيِّ المتوَجِّبِ أو نبقى منهُ (جُبْناً أيضاً) عندَ ما يرفَعُ عَنّا العَتَبَ ولا يبْلُغُ إلى فرْضِ التصويبِ المقتضى في نفوسِنا: في مواقِفِنا وفي سلوكِنا وفي توزيعِنا للأغيارِ... وأنْ نغضَّ النظَرَ عن الدمارِ البعيدِ الغَوْرِ الذي يُخَلِّفُهُ كُلُّ نِزاعٍ كبيرٍ في حاضرِنا وفي مستقْبِلِ بلادِنا... وأن نكتفي من الغنيمةِ بالتحوُّلِ مُجَدَّداً إلى كَشّاشِينَ للفينيقِ المعهودِ... فذاكَ أقْصَرُ السُبُلِ إلى جولاتِ دمارٍ مقبلةٍ يقعُ اللومُ فيها على أنفُسِنا قبل وقوعِهِ على الأعداءِ كائنينَ مَن كانوا.
لا أرى بأساً في صناعاتِ التحويلِ التقليديّة: في تحويلِ الأقمشةِ إلى ألْبِسةٍ مَثَلاً. ولكنْ لا يَصْلُحُ مَنْطِقُها أنْ يُسْتَعارَ للنَظَرِ في أحوالِ المُجْتَمَعِ أو في وقائعِ تاريخِه...
(*) نشرها الباحث أحمد بيضون في صفحته الفايسبوكية
ليست هناك تعليقات