ترجمة فرزدق الأسدي
لو لم يكن تحذير وزارة الطاقة لتفريغ الفيلا كان من المستبعد أن يخطر على بال معصومة وعائلتها أن يدعوا أحداً إلى فيلاهم. الفيلا التي وفقاً لقرار الوزارة يجب أن يتم إخلاؤها قبل نهاية الشهر لم تكن تعد سوى مشروعاً مهدوراً كان من السهل التظاهر بالسخاء بشأنه. بهكذا فيلا كان بإمكان عائلة معصومة أن يتظاهروا بالمضايفة مكتسبين بذلك شعبية لدى القريب والبعيد. وبعد انتقالهم إلى الفيلا الجديدة كان بإمكانهم العودة إلى انطوائيتهم والتعالي على الآخرين.
كلنا كنا خريجي فرع السينما، وتقبلنا دعوة معصومة بحيرة، وبالرحب والسعة طبعا. الفيلا كانت في قعر واد معشوشب نضر، وكما تصفها معصومة كانت أصوات البلابل وهدير النهر تجعل أجواءها في الليالي “تجنن“.
كان المبلغ الذي استلموه مقابل ترك ذلك المكان ومغادرته ضعف سعر الفيلا. وكانوا قد استبدلوها على الفور بفيلا أفضل بكثير في منتجع “نمك آبرود“. لكن معصومة كانت تتأفف بتحسر. كانت تحب غرفتها التي تطل نافذتها على شجرة تين. في الغرفة ذاتها كانت تؤدي صلواتها في أوقاتها الأولى.
نحن كنا قد سمعنا عن الفيلا فقط، ولم نكن نعرف مكانها أو شكلها. وطبعاً وفي هذا العصر من لا يعرف شيئاً عن الفيلات. لكن ما كان يثيرنا هو شيء آخر: كلنا كنا نضمر بداخلنا رغبة في بروجكتور السيد يوسف شاهي؛ حيث أن دور العرض كانت قد أوقفت بعد انتصار الثورة عرض الأفلام الأجنبية وذلك بحجة مواجهة الفحشاء.
اصطحب يوسف شاهي معه قطته بريسا وصديقته “هما“، ولم يكن يدري أن والد معصومة كان يتجنب شعر القطط بسبب مواظبته على الصلاة، وهو لن يدعها تدخل الفيلا. كان يوسف شاهي قد عثر على القطة في الشارع وتبنى رعايتها. وكانت “هما” كما تصفها بهناز أكثر البنات إثارة ممن رأتهن مؤخرا.
كلما اجتزنا في طريقنا الأجزاء التي تمر عبر الغابات كانت هما تخرج نصف جسدها من نافذة السيارة جالسة على حافة الباب وتسرح بصوتها تغني. كان يرافقانا كذلك حسين وزوجته. وبما أن حسين لم يكن يمتلك رخصة سياقة كانت زوجته تجلس خلف المقود. كنا أنا ويوسف شاهي نراعيه في سياقتنا ولم نقد بسرعة. خاصة في الليل حيث أن الطرق في شمال البلاد تفتقر إلى الإنارة الجيدة، والضباب يخدع العين.
أنا انطلقت نحو الفيلا بعد يوم من ذهابهم إليها. كانت بهناز قد ذهبت مع حسين وزوجته إلى هناك. وما إن وصلت إلى مدينة رشت واتصلت ببهناز لكي أسأل عن عنوان القرية حتى قالت إنهم قد غادروا الفيلا وهم في الطريق نحو كيسوم. كنت أعرف الطريق ولذلك قدت بسرعة إلى هناك. رأيت سياراتهم عندما كنت أقود في منتصف شوارع صومعه سرا. هناك رفعت فوطة السيارة فوق رأسي وأدرتها كما يديرها رعاة البقر، أي أنني قد نلت منكم. وكطفلة صغيرة في الروضة لوحت لي بهناز بيديها الناصعتين وهي تضحك.
نظرة واحدة كانت تكفي لكي نعرف أن يوسف شاهي قد نال منه الشيب حيث كان يمسك المقود بتلك الطريقة بكلتا يديه. كانت بهناز قد أشارت إلى أنه قد انفصلعن زوجته، ومنذ حوالي سنة وهو يعيش مع هذه البنت هما. لم أنبته إلى وجود القطة في سيارتهم قبل أن نصل إلى شاطىء كيسوم. ربما لأن هما كانت خارجة من نافدة سيارة يوسف شاهي منتزعة ربطتها، ولم تغادر الابتسامة شفتيها. التمايز كان لها وحدها. حيينا الآخر. زوجة حسين كانت مزاجية وكانت تتجنب الجميع، وبين الحين والآخر كانت تنهر القطة وتتسبب بالضحك. وكان حسين يهدئها بترديد عبارة “حبيبتي“. على الشاطىء كانت بريسا تلوذ بحضن يوسف شاهي من هدير الأمواج. بنبرة أمومية قال يوسف شاهي إنها لم تر البحر لحد الآن وإن هياجها يعود إلى حساسية قطط هذه الفصيلة من الأصوات. صار ذلك سبباً لكي نستذكر متى رأى البحر كل منهم لأول مرة في حياته. أنا لم أتذكر على الفور، أطرقت قليلاً حتى تذكرت. كان البحر لي نشارة زجاج تتلاعب وتغرز ضياء الشمس بكثير من الإبر.
كانت بهناز ذاهبة إلى المرافق عندما قلت لـهُما إن القطط لا تعجبها لأنها تمثل الأنوثة. كانت هما تخطط بأصبعها على الرمال الرطبة. لم تعقب على كلامي بشيء؛ وبعد فترة أدركنا أنها تمتلك قطة أيضاً لكنها لم تصحبها معها. عندما تشبعنا بالبحر تركناه من أجل الغداء إلى الغابة المفروشة هنا وهناك بالروث الجاف والطري للأبقار المحلية. هواء الغابة وبدلاً من رائحة الوحوش كان مليئاً بروائح الحيوانات الأليفة. وهذا ما لم يكن يروق لنا.
تساءل حسين من أين لنا أن نعرف جهة الريح. يوسف شاهي كان يعرف وقال “من هذه الأشجار التي تغطي الطحالب جهة منها؛ الرطوبة تهب من البحر، لذلك فإن جهة هبوب الريح هي من البحر باتجاه الغابة.”
بمجرد أن افترشنا بسطنا وأوقدنا الموقد المتبقي من الآخرين أمسكت هما بورقة أو اثنتين مليئة بالنوطات، وانصرفت نحو الأشجار التي كانت الرياح قد كسرت البعض منها، وشرعت بالغناء. غنت من دون توقف أو كلل. كانت ترتاد دورة لتعليم الغناء. على الغداء كانت تترنم بنغمات وسط لقمها. سألتها هل سمعت بالبيت “لايطيق الكون همّ عشقه“. فقالت إنها لم تسمعه من قبل، وأدهشتنا بذلك.
دار الحديث بعدها عن الأفلام التي رآها كل منا. لحسن الحظ مضيفتنا معصومة كانت على ذوق متوازن في هذا الشأن، وكانت متوافقة مع أي اختيار لأي منا. زوجة حسين كانت تقطب عند سماعها أسماء بعض الأفلام. كما جاء ذكر اسم تاركوفسكي.
حل الليل. فجمعنا أغراضنا وانطلقنا. اشترينا في طريقنا بعض الأشياء، وطلب حسين أن نترك له اختيار البطيخ. وانحدرنا نحو الفيلا… نحو الوادي. بدأ المطر بالهطول؛ وعندما وصلنا إلى الفيلا كانت زخاته متراكمة وكان لوقعها على الصفائح صوتاً حلوا. نزل والدا معصومة من السلالم لاستقبالنا. خلال الطريق كانت معصومة قد سردت لنا القصة. والد معصومة كان من السياسيين في أوائل الثورة، وبعد الثاني من أغسطس كان قد أفاق من خدره وأخذ عموداً في الصحف وبدأ يعاكس السياسيين الإصلاحيين مقارناً الثورة دوماً بالثورة الفرنسية. قالت معصومة إنه وبعد أحداث صيف ٢٠٠٩ قد انتابته الكآبة، فهاجر من طهران إلى هذا الوادي. مكتبته كانت في الطابق الأرضي، وفور الدخول إليها كانت رائحة العطن تملأ الأنوف. كانت تتوسط المكتبة طاولة منضدة متربة، وفوقها كرتان بلون صفار البيض. بما أني كنت ضيفاً جديداً سألني فور وصولنا عن اسمي وحالي. التفتّ إلى الأطراف وتساءلت: “هل حقاً من المقرر أن يغرق هذا المكان تحت كتل المياه؟“
انتبهت إلى أن معصومة كانت تتغيب في غرف الفيلا كلما تكلم أبوها عن أيام شبابه. بعد أيام وعندما كنا نتكلم جالسين على حجارة الساحة في مدينة رشت بعد شرائنا بعض الحلوى قالت معصومة إنها ولحد ٢٠٠٩ كانت على خلاف مع أبيها، وأنهما ولعدة أشهر ما كان يحادث أحدهما الآخر ولو بكلمة واحدة. استخدمت جملة جيدة حين قالت إن “الفتنة” قصمت ظهر الكثيرين وجعلتهم أكثر تواضعاً.
كان أبوها وديعاً لطيفاً وكلما ضحك كان جبينه ينضح بقطرات العرق. كما لو أنه أقسم ألا يتكلم من دون وثائق ومستندات، كلما دار الحديث على حدث كان يبحث عن ما كتبه عن ذلك الحدث في الصحف ليرينا إياه. لم يعد خافياً أن المرارة التي كانت تعشعش في ذاكرتنا جميعاً كانت تضيق ذرعاً بقصاصات جرائده أو بالأحرى بكلماته تلك، وكنا نراعيه احتراماً له. في الحقيقة كنا ننتظر يوسف شاهي الذي كان الأقرب عمراً لوالد معصومة أن يقول أخيراً “لنطفئ الأضواء يا شباب” لكي يبدأ تشغيل البروجكتور.
بما أن الفيلا كانت في أعماق الوادي أتصور حتى في النهار كان من الممكن إسدال الستائر والتفرج على الأفلام، فكيف بالمساء! ليس أمام الشمس طريق إلى تلك الأعماق. وكان لتغريد البلابل على خلفية مشاهد الأفلام وقع كهدير المياه الجوفية تحت سطح الشارع. وفي نهاية الأمر نزل يوسف شاهي السلالم وأشارت هما بحاجبها أنه قد نزل لكي يأتي ببالبروجكتور؛ ولكن بعد أن يعتني ببريسا ويدللها قليلا. تفحص حسين الجدران وهو واقف وسط الغرفة يسند يديه إلى ظهره. الحائط الشمالي كان مناسباً جداً للعرض لكن مصباحاً يعكر استوائه. كان النشاط يعلو محيا والد معصومة بسبب امتلاء الفيلا بصخب الشباب. فأخذ كرسياً وصعد بخفة فوقه وانتزع المصباح من الأسلاك لبلصقهما بالشريط اللاصق. ابتل عرقاً ثانية فجلس وأشعل سيجارة. سألت “وأين سيتم بناء السد بالتحديد؟” قالت أم معصومة إنه قد أنشئ لكنهم لم يفتحوا المياه بعد. بعد أن استعاد أنفاسه قال والد معصومة: “أنا وزوجتي رأيناه، لكن معصومة لم تره… يقع على بعد كيلومترين من هنا.” التفتنا إلى معصومة التي كانت مقرفصة على حافة النافذة. قالت: “الآن ولم يفارقني كابوسه… لو رأسته ستتوقف حياتي!” قال أبوها: “جاءوا وسألوا أتريد نقوداً أم ترخيصاً بقطع الأشجار. لا أعلم هل رأتيم ذلك أم لا ولكنهم وصموا الأشجار التي يمكن قطعها. قلت لهم قد تقدم بي العمر أكثر من أن أخوض مع صنف العمال. أعطوني النقود.”
استغرق يوسف شاهي وقتاً طويلاً حتى جاء بالبروجكتور ونصبه. شعره كان مبتلاً بالكامل وصار مجعداً بفعل المطر. أطفأنا المصابيح. وكانت تلك الليلة الأولى من الليالي الثلاث العجيبة التي قضيناها هناك.
لم يعد خافياً أن ذلك الحائط أوقد بأشعة نور البروجكتور. لا أدري لماذا تيبس ريقي. النور الذي انقض بهمينته علينا انفتح على سهل. امرأة بشعر ذهبي مجدول ترتدي تنورة كانت جالسة على سياج تتجه نحو السهل وظهرها لنا. ومن أعماق السهل ومن بين الأعشاب التي كانت الريح تهزها بشكل مخيف كان يقترب منها رجل أصلع يرتدي بذلة ويمسك حقيبة بيده.
لم نعد نرى معصومة خلال السنين الثلاث الأخيرة. كنا نذكر هما في بعض الأحيان هل قادرة بصوتها الذي كانت تسرح به بين الحين والآخر على أداء “بت أحرس حرم القلب ليلة بعد ليلة” بنبرة جهورية. كنا قد قررنا الذهاب إلى بيت يوسف شاهي لكي نلقي الأفلام على الحائط في العتمة لكننا لم نذهب قط. لم تكن معصومة قد انقطعت عنا بعد. نزاع قانوني دفعها إلى السؤال عنا. كان النزاع حول قطعة أرض بمساحة خمسين هكتاراً اشتراها أبوها ذات يوم في أطراف مدينة همدان. يبدو أنه كان ينوي بداية مشروع زراعي وصناعي متواضع فيها، لكن جهوده لم تفلح في استعارة قرض ضخم من المصرف. كانت الأرض متروكة لحالها، كما أن نشاطه الصحافي قد جعله يغفلها، وبعدها ثبطت عزيمته وتركت الأرض قفراً. أما الآن فقد ظهر شخص من أحفاد أمراء السلالة القاجارية عارضاً وثيقة ملكية يدعي بها أن له الحق في الارض، وشرع ببناء سياج حولها. أخبروا والد معصومة بالأمر، فاحتدم النزاع. كانت أوراق الأمير سليماً، ولم يكن هناك أي شك في أنه سوف يقنع القاضي. كان والد معصومة يمتلك دفتر ملكية مختوماً من يد أولى أصدرته دائرة العقارات في مدينة همدان. كما كان بحوزته نسخة من الوثيقة التي عرضها الأمير القاجاري والتي كانت تضم الانتقالات التي طرأت على العقار، وكانت دائرة العقارات بهمدان قد أصدرت الدفتر المختوم استناداً إليه. إن كان بإمكان والد معصومة أن يأتي بنسخة المستند إلى المحكمة لأثبت أن سند الأمير إنما كان مهجوراً لم يتم تدوين المبايعات اللاحقة عليه. والآن أين هي النسخة؟ هنا بيت القصيد. إنه مغلف بالسلوفان وموضوع في ملف بلاستيكي داخل الفيلا التي كانت المياه قد غمرتها منذ عامين. لقد نسوا فتح تلك الخزانة التي كان بابها الخشبي قد التوى بفعل رطوبة الجو فصارت عصية على الفتح.
كانت هذه ذريعة اتصال معصومة ببهناز. معصومة كانت أن خالي غواص متقاعد من شركة النفط وكان اختصاصه إجراءات الأمان في آبار النفط، وأن صورته تحتل خلفية غلاف إحدى الكتب الدراسية للدورة المتوسطة لعدة أعوام، في لقطة كان خارجاً فيها من الماء رافعاً بيده أداة مفتاح إنجليزي وهو يبتسم للكاميرا. كان القصد واضحاً. كان على خالي جواد أن يغوص لكي يخرج الوثيقة من تلك الخزانة. وحقه كان محفوظاً. فبدل استئجار محام ودفع مبالغ طائلة عديمة الجدوى يدفعون مبلغاً لغواص مرة واحدة وينتهي الأمر. هكذا يكون الأمر اقتصادياً أكثر.
اتصلت بخالي وشرحت له القصة. في البداية قال إنه لم يعد بذات القوة التي كان عليها في سابق العهد، ولن يقدر على ذلك بمفرده. وبشكل لا إرادي قلت “حسناً… أنا أغوص معك إلى الأسفل.” لا أعلم لماذا قلت ذلك، ولا أظنني سأدرك ذلك أبداً. ذات زمان ولشدة إعجابي بخالي وصورته خلف الكتاب كنت قد شاركت في دوراته التدريبية للغوص، رغم أني لم أكملها. قلت: يكفينا التنسيق مع مدير السد… وأنه لو اطلع على سيرتك الذاتية لن يخالفتل أبداً. تلجلج قليلاً، لكنه وافق أخيراً. يبدو أنه كان مضطراً لاستئجار بذلة الغوص لي من أصدقائه القدامى. كان ينقصنا قنينة هواء سعة ١٢ ليتراً ومصباحا. بأمر خالي أعطينا عنوان متجر “الدولفين الذهبي” لمعصومة لكي تعدهما لنا من هناك. وذهب والد معصومة لكي يأخد موافقة مدير السد. لم يوافق المدير على الخطة. قال إن الأمر يحمله مسؤولية قانونية. لكنهم حصلوا على واسطة من داخل وزراة الطاقة. اتصلوا به، وشرحوا الأمر، وفي النهاية أخذوا إجازة الغوص.
عثرنا على المكان الدقيق للغوص من الصفصافات التي كانت تبتت في شق الجبل وكنا آنذاك نرفع رؤوسنا لكي نراها وكانت جذورها الآن في قعر المياه. كنا في منتصف الخريف ولم تكن الثلوج تساقطت بعد. والد معصومة يمسك عكازه وبمساعدتنا ومساعدة معصومة كان يصاحبنا قدماً بقدم. قال إن اتبعتم هذا الشق سوف يصل بكم إلى الضلع الجنوبي للفيلا. شددنا المُعدات على جسمينا. فتحت معصومة خارطة الفيلا مرة أخرى أمام أعيننا وأبقت عليها مفتوحة. كانت قد وضعت بقلم الحبر الأحمر علامة على مكان الوثيقة. رفع خالي يده بأنه لا حاجة لذلك. طوت معصومة الخارطة ودستها في جيب معطفها. وجهها كان شاحبا. أنا وخالي جواد نظر كل منا إلى الآخر وقفزنا في المياه معا. غلب صوت الشهيق والزفير وصوت الدورة الدموية على كل شيء. استغرقنا عدة دقائق لكي نعتاد المياه. استطعنا أن نغوص إلى أعماق أبعد ونخلص أنفسنا من التيار على سطح المياه. خالي كان منتبها إليّ وسألني عدة مرات إن كانت تنتابني مشاكل في التنفس. وكل مرة كنت أجيبه برفع إبهامي. لكن قلبي كان يدق داخل أذني من شدة الخوف. أحكمت قبضتيّ على المصباح كي لا ترتجفان، وأوقدته. صوبت نوره نحو الجهة التي كان خالي يتقدم نحوها. إلى أين نحن ذاهبون؟
اتضحت لي البناية من خلف كتل المياه الخضراء والزرقاء. لم أجرؤ على التحديق فيها. كما لم أكن أجرؤ على التحديق في رغوة أمواج البحر في بدايات الفجر. رهيبة كانت. ضربت ضربتين قويتين بالزعانف لكي أصل إلى خالي. تمهل لحظة ونظر إلي، وابتسم. كنا معلقين في المياه. بكلتا يديه أشار “انتهى كل شيء، وصلنا، تحمل خمس دقائق فقط.” مع ذلك لم أعد أطيق النظر إلى تلك البناية ذات الطابقين. شهقت شهقات ممتدة علني أبطىء من ضربات قلبي. شرائط من الطحالب كانت تتدلى من الفيلا. تتراقص مع حركة المياه. المصابيح لم تكن تقوى على إضاءة الفيلا كلها، وهذا ما كان يزيد من رهبة المكان. كنت أعرف مكان المكتبة، لذلك أشرت لكي نستدير ونأتي من خلف البناية. ضربنا بالزعانف ومررنا من جانب شجرة التوت التي كنا نهزها من أجل البطة الهولندية التي كانت معصومة تطعمها التوت المتساقط. الشجرة كانت على غير شكلها، كما لو أنها دائخة تترنح بفعل تهديد ضربات زعانفنا.
للحظة لمحت عيناي نوراً يسطع من الطابق العلوي للبناية. بأقصى سرعة ممكنة داخل المياه أدرت رأسي. لم يكن هناك أي نور، كان وهماً بصرياً، أو كان أثر ضغط المياه على الأعصاب. قالها خالي قبل غوصنا في المياه لكي أنتبه حين الغوص. لكن كانت تخطر على بالي أشياء أكثر مما قاله خالي قبل الغوص. أشياء من دورات الغوص تلك والتي كنت أتصور أنني نسيتها إلى الأبد قبل أن نغوص فعلا في هذه المياه. كلها كانت عبارات مرتبطة بالمياه، والآن حيث باتت المياه تطوقنا من كل جانب، كانت تخرج من الخدر والنسيان.
لوح لي خالي أن أصوب الضوء، متسائلاً عن سبب تأخري دوماً. رفعت المصباح وضربت بالزعانف. وصلنا إلى باب المكتبة. تلك البوابة الحديدة التي كانت تقفل ثلاثاً كي لا يتسلل منها الدواب واللصوص لم تعد هناك. ربما اقتلعها بعض المحليين بعد تفريغ الفيلا طمعا في بيعها في سوق الحديد أو تركيبها على بيته. تسللنا إلى الداخل عبر مكان البوابة الخالي. كنا نجتاز آفاقاً من الجدران والآفاق. عثرنا على الخزانة خلف أجمة. أخرج خالي سكينه وضرب على خشب الخزانة عدة مرات. تحطم الخشب متناثراً في المياه. كمن يشتت سرباً من الدبابير أمام عينيه بعثر خالي قطع الخشب. جثوت بركبتي على الأرض لكي لا تجرفني الأمواج اللامرئية. صوبت المصباح. كما لو أنها لم تعد إليه ترك خالي يده معلقة في المياه دائخة تترنح مثل أجمة. حرك يده قليلاً، وامتدت اليد إلى داخل عتمة الخزانة. عيناه كانتا ترمقانني من خلف النظارة، لكن نظرته كانت غائرة حيث كانت أنامله تبحث في عمق الخزانة. بحث إلى أن أخرج الملف. نفض الملف من المياه، غسلت المياه الوحول، وبان لون الملف. لوح لي بإبهامه أي هيا لننطلق. نهضت بركبتي وانطلقت قبله. لكن قبل أن أصل إلى باب المكتبة رأيت حفرة في السقف يبدو أنها كانت تنتهي إلى الممر أو إلى الطابق العلوي. إستدرت ونظرت قليلاً. لم أر خالي. تمنيت لو أن هُما تطلق الآن وللحظة في هذه الغابات ولو عشر صوتها في تلك الأيام. أنا كنت تحت المياه ولم أكن أصدق أن صوتاً يمكن أن يصدر من حنجرة بشرية. الأغنية كانت تراود الخيال، وإن لم ألتفت إليها قد تغدو عبثا. علقت المصباح على عارضة حديدية جرداء، وبأربع ضربات بالزعانف وصلت إلى الحفرة. بحذر ولكي لا تخدش النخالة ملابس الغوص دفعت نفسي إلى أعلى، وفجأة رأيت ما كنت أتوقعه. لم يكن النور الذي قد رمقته وهماً بصرياً. “ستاكر” بصلعته والعالم بحقيبة ظهره والكاتب بملابسه المتسخة كانوا مستلقين على الكنبة يحدقون في الحائط المقابل. كان الحائط وضاءاً بفعل بروجكتور لامرئي يعرض فيلماً بجودة ناصعة كالمرآة: أنا وبهناز مستلقيان جنباً إلى نجب ورأسانا على وسادة، ويد يوسف شاهي على كتف هما وهو يتفرج مثلنا. أما والد معصومة فجالس على كرسي طويل القوائم خلف طاولة المطبخ المفتوح على الصالة يدخن ويتفرج بتدقيق. معصومة جالسة في مكانها المعهود على رف الشباك تنظر جانبيا في هذا الاتجاه، وحسين بينما زوجته تغط في النوم يتفرج بعين تعمّد تضييقها ويمضغ الحب على مهل.
Published: May 30, 2020 (updated: May 31, 2020)
Filed under: قصة قصيرة, كتابة, مرتضى كربلائي لو, ترجمة
Tags: فيلا, فارسي, قصة قصيرة إيرانية, كيسوم, لامرئي, مكتبة, مياه, مزاجي, مستندات, مصباح, نفط, نمك آبرود, نور, نزاع قانوني, نسيان, نشاط, نظرة, همدان, هدير الأمواج, وزارة الطاقة, آبار, أفلام, أمان, أيام الشباب, أجمة, أحداث ٢٠٠٩, أدب فارسي معاصر, إنارة, إيران, الفتنة, الفحشاء, القاجارية, القصة, القطط, الكون, النخالة, الوادي, الأمير, الأشجار, الإصلاحيين, البحر, البطيخ, البطة الهولندية, الثورة, الريح, السهل, الشق, الصفصافات, العقار, الغابات, بروجكتور, تاركوفسكي, تاريخ, تعالي, جهاز عرض, حيرة, حبيبتي, حسرة, خلاف, خارطة, خدر, خزانة, رشت, زعانف, سلالم, سند, سوق الحديد, سينما, سخاء, سد, شمال إيران, شيب, شاطئ, شجرة تين, شعبية, شعر ذهبي, صلوات, صخب, ضباب, ضربات قلب, طريق سريع, عمر, عتمة, عرق, عشق, عطن, غواص