لأنه وصل لكنه لم يذق طعم الوصول – اللاجئ يحكي، سركون بولص ثمة.. رجل غريق يشكو من برد هائل يخرج زاحفا من البحر. (سيلفيا بلاث) في المقطع الأ...
لأنه وصل لكنه لم يذق طعم الوصول – اللاجئ يحكي، سركون بولص
ثمة..
رجل غريق
يشكو من
برد هائل
يخرج زاحفا
من البحر.
(سيلفيا بلاث)
في المقطع الأخير من قصيدتها الشهيرة المعنونة “حياة”، رأت “سيلفيا بلاث” المستقبل، نورس طاعن في السن، يرعاه -علي حد استعاراتها- الخَرَف والخوف ممرضتين. كم أفزعتنى رؤيتها تلك، تلك القسوة في أن ذاك المشهد تحديدًا سيكون أول ما سيراه الرجل عند خروجه من البحر وربما المشهد الوحيد الباقي إلى النهاية. ثمة شيء ما يجمعني و ذاك الغريق.
بنهاية هذا العام أكون قد أتممت خمس سنوات بالكمال هنا. نيوإنجلاند، ماساتشوستس، ناحية بوسطن، أقصى الشرق من الولايات المتحدة الأمريكية. تفصلك هنا نصف ساعة عن المحيط، ويفصلك المحيط عن الوطن. للّون الأبيض هنا دلالة لا تخطئها العين. هنا الولايات الأكثر بياضًا عرقيًا، إنكلترا الجديدة، ربما لهذا السبب تحديدًا اختار الثلج أن يهطل هنا غزيرًا، في شتاءات طويلة، وربما لذلك أيضًا تبدو البشرة الداكنة هنا أدكن. الطبيعة هنا عُصابية، تُملي إرادتها على الجميع فلا تملك أمامها سوى أن تفتح عينيك، وأن تشحذ قلبك، وأحيانًا قلمك، لتكتب حين تثقل عليك وطئتها. الجمال هنا يشُد، يجرح، ويُعاير أيضًا. أعادتني الطبيعة هنا إلي الجلوس صامتًا أمام الورق الأبيض بلا نتيجة ولا ضغينة، كما أعادني تنوع الفصول إلى هواية قديمة وهي التصوير الفوتوغرافي. فبين وقت وآخر، أسحب كاميرتي، وأثبّت عدستها ال١٦ مم وأمشي. الكادر مطمئن، كسياج حول بيتك، وأيضًا سخي بما يعطيك الإحساس بامتلاك ما فيه، فأمشي وأمشي، وأعبئ هذا الكادر الواسع بكل ما يمكن التقاطه.
وصلت إلى هنا متأخرًا كثيرًا، فى السادسة والثلاثين، ليس فرارًا من شيء، بل بالأحرى رغبة في كسر جمود الاعتياد.
السفر مبكرًا يجعلك ليناً أكثر. يطرق حديدك وهو لايزال طيّعًا. أما سفرك متأخرًا، فتصل -إن وصلت- وعُدتك من الملاحظة قد اكتملت، وفلسفتك عن الأشياء أقرب للجلوس منها إلى الحركة، في قلبك لكل شيء موضعه المحدد سلفًا. إلى الآن لم أحسم إن كان ذلك مزية أم عيب. أغلب الوقت أقول لنفسي أن لك الآن امتياز التنقل عبر حياتك أستاذًا زائرًا، لا انبهار، ولا انسحاق، ولا شهوة للتحقق، فقط أنفاس طويلة بعمق، يصاحبها إغماض للعين وإطالة للنظر إلى الداخل، وإلى الوراء أكثر.
أضعت مدينتين رائعتين/
وأكثر/
عوالمًا امتلكتها يوما/
أضعت نهرين/
وقارة كاملة/
أحيانًا أتوق إلى
ذلك كله/
لكن لم يكن ذلك بالكارثة.
(إليزابيث بيشوب)
في رائعتها “فن الخسارة” تؤكد إليزابيث بيشوب على ما نعرفه جيدًا. كل ما لك مآله الخسران، للانتهاء، وبرواقية مُضمرة تحاول أن تُلمح إلى أن تلك على الأرجح هى إرادة الأشياء نفسها، أن تُفقد، هكذا ببساطة. الكل في النهاية خاسر لا ريب، ولكي لا تملأ الحسرة قلبك عليك بأن تحول خسارتك إلى فن، وفي النهاية لن يكون الأمر بالكارثة.
اسمي سامح، والحاء هنا حربة تنخس الجنب كتذكير لا ينقطع على أنك غريب، كل ما يطمح إليه هو أن يفهم السياق لا أكثر. أنجبت صبيين هزموا لغتي في أسابيع. فقد بِكري حرف العين أولًا، تلته الحاء، والآن يجاهد مع خاءٍ ملخلخة فقط لأنه يحب الملوخية. أكتب هنا أقل، فلا وقت، وإن كنت أقرأ أكثر لأن الوقت هنا لا نهاية له.
بوسطن -ككل مدينة كبيرة- صاخبة، وصخبها يخفت كلما ولّيت وجهك شطر الضواحي حيث أسكن. لا مقاهي هنا، باراتهم مقاهينا. قرع زجاجات البيرة هنا يعادل قرقعة زهر الطاولة أو قشط الدومينو. تعج الولاية هنا بالشعر والرياضة.
هنا تجد الـ PATRIOTS، REDSOX، BRUINS, والCELTICS . وتجد هنا أيضًا نوداي صغيرة مخصصة للـSLAM POETRY، لا يهم نشاطك طالما تفعله على طريقتك، فأبناء هذه الولاية يروقهم التنافس. عرجت الأسبوع الماضي على المجمع الطبي في المدينة التي أعمل بها لأجل فحصي الطبي السنوي. مبنى فسيح يحتل ناصية كاملة. تهت قليلًا، ثم تلكأت أيضًا. الحوائط هنا تحمل صور “روكي مارسيانو”، بطل العالم في الملاكمة في الوزن الثقيل في خمسينيات القرن الفائت، وابن المدينة، الرجل الذي أطاح بـ”جو لويس”، ولم يسقطه أحد قط. يطلقون عليه هنا THE BROCKTON BLOCKBUSTER. هنا أيضا ولد MARVIN HAGLER، عملاق آخر في وزن المتوسط، وأحد الأربعة الذين تسيدوا هذا الوزن في الثمانينيات. كنت سارحًا في أنف مارسيانو الأفطس في الصورة وهو يجاور الرئيس دوايت أيزنهاور، بينما تطلب الممرضة أن أرخي قبضتي قليلًا كى ينسال الدم في الأنبوب أسرع.
فُتح فجأة باب في
شارع أسير به تائها/
للحظة، شاع دفءٌ
وشبعٌ وصحبة/
أٌغلق الباب فجأة/
كنت لم أزل تائهًا/
حسبتني خاسراً مرتين/
لكن بالمقارنة
بدا بؤسي
مستنيرًا.
(إيملي ديكنسون)
لبعض الوقت، بدا لي ذلك شعار صالح جدًا كي تردده بينك وبين نفسك. حكمة خبيثة تمامًا، ولا مفر إن عولجت جيدًا من أن تُؤخذ على محمل الجد. في الحقيقة لا أطلب أكثر من ذلك، “أن يبدو بؤسي مستنيرا”. هذا ميراث إيميلي ديكنسون، عذراء الشعر وأمه الأميريكية. الدفء، الصحبة، الشبع، تبدو من هنا أشياءً مبالغ فيها، وبين فتح باب وإغلاقه تحدث حياة كاملة، ففي النهاية إذا توفرت الحياة على طريق، فقط طريق، وإن سرت فيه تائهًا، فسيكفي ذلك كي يغدو بؤسك بالتأكيد مستنيرًا.
الطريقة التي
أهال بها علي
غرابٌ
غبرة الثلج
من شجرة شوكران
بدلت حال قلبي
وأنقذت بعضًا من يوم
ظننت أني
قد خسرته بالفعل.
(روبرت فروست)
في نصوصي القديمة أحذف دائما كلمة ثلج، أُكتب عما أعرفه. أقول لنفسي، ما أعرفه يجعلني أنز عرقًا. بطريقة ما يفقد الجميع هنا عقولهم تدريجيًا. فيتامين (د) هنا شحيح، والشمس تشبه لمبة الثلاجة، ورعشة اليد هنا شهيرة. هنا وُلد كل أبطالي المذكورين أعلاه، وفي النهاية وضعت سيلفيا بلاث رأسها في فرن البوتوجاز في بوسطن. وفي المدينة نفسها لم يفلح لا الليثيوم ولا مراسلاته البارعة الجمال مع إليزابيث بيشوب في تهدئة هوس “روبرت لويل” الاكتئابي، ومات في تاكسي. هنا أيضا عاقرت “إليزابيث بيشوب” الخمر، راوحت بين طبيبها النفسي وبيتها الصيفي في ماينMAINE ، حيث أوصت أن يسجل على شاهد قبرها جملتها الشهيرة:
“ALL THE UNTIDY ACTIVITY CONTINUES, AWFUL BUT CHEERFUL“.
وفي ويستر أيضًا، قَتل والد “ستانلي كونيتز” نفسه في حديقة عامة، فلم يسامحه أحد، واضطر ستانلي لأجل ذلك أن يعمّر طويلًا، بعكس ما أراد. أما “لويز غليك”، جارتنا في كامبريدج، ففازت منذ أسابيع بجائزة نوبل في الأدب.
سأكون كاذبًا لو قلت أن كل ذلك لا يجلب بعض الونس، وبعض الدفء، والشبع، وكثير من الصحبة، لكن يظل الشتاء هنا قارس البياض، ويُلزمك بغطاء رأس وكوفية وقفازين وجاكيتNORTHFACE ، وقشعريرة تجلب أحيانًا مفتتحًا لقصائدز يلزمك هنا ملح كثير على العتبة لإذابة الثلج. للثلج بلا شك طعم الماء لكن بلا ارتواء.
بعد بضع أسابيع من وصولي هنا، مسوقًا ربما بما يشبه صلاحية مكتسبة حديثًا، كتبت :
“عزيزي روبرت فروست
ها أنا أضع كلمة ثلج
في قصيدة/
لست أحس بأي
أصالة زائدة/
فقط بعض الخوف
وأنا عائد بسيارتي في
عاصفة ثلجية
الي بيتي الجديد
في منطقة
نفوذك”
*مقاطع الشعر من ترجمتي
Published: December 31, 2020 (updated: December 31, 2020)
Filed under: كتابة, مقال, سامح فوزي
Tags: مارسيانو, ماساتشوستس, نيوإنجلاند, أنفاس, إليزابيث بيشوب, إنكلترا, إيملي ديكنسون, الكادر, المستقبل, الولاية, ال١٦ مم, البشرة, الثمانينيات, الخسارة, الدم, الطبيعة, جمود, روبرت فروست, سفر, سيلفيا بلاث, شهوة, شهيرة, شطر, طعم الوصول, عيب
ليست هناك تعليقات