Page Nav

HIDE

Grid

GRID_STYLE

اخبار عاجلة

latest

أيامه في سان فرانسيسكو

عبد الرحيم الخصار ثمة سؤال يحضر كلما فكرت في العلاقة بين سركون بولص وسان فرانسيكسو: ما الذي جعل قدميْ الشاعر تعلقان بشراك تلك المدينة طوال ه...




عبد الرحيم الخصار

ثمة سؤال يحضر كلما فكرت في العلاقة بين سركون بولص وسان فرانسيكسو: ما الذي جعل قدميْ الشاعر تعلقان بشراك تلك المدينة طوال هذه السنوات؟

إنها الحرية، سان فرانسيسكو مدينة الحرية بشكل مذهل، أكثر مدن أميركا تحرراً وانفتاحاً وتسامحاً مع الآخر ومع ما يريده ويحلم به هذا الآخر، وهذه الحرية هي ما يجعل الأدب والفن ينموان ويتسامقان تماماً مثل أشجار السكويا العملاقة التي لا مكان لها إلا في كاليفورنيا، يقول في حوار مع مارغريت أوبانك: «سان فرانسيسكو مركز الإبداع في أميركا، بل مركز أميركا».

لعله جلس في ساحة يونيون سكوير مراراً ورفع عينيه إلى تمثال النصر العالي الذي يتوسط الساحة، متحسساً ما يحمله في جيوبه من هزائم ومن حنين ومن قصائد كانت تسير معه حيثما سار في شوارع وأحياء هذه المدينة هو القادم إليها من كركوك الضاربة في التاريخ وفي المعارك أيضاً:

«كرسيّ جدّي ما زالَ يهتزّ علي/ أسوار أوروك

تحتَـهُ يعبُرُ النهر، يتقـلّبُ فيهِ/ الأحياءُ والموتى».

هذه هي سان فرانسيسكو المدينة التي هدأت بعد تاريخ من الزلازل، كتب عنها سركون قبل أن يصل إليها في أواخر الستينيات، وحين وصل إليها وجدها شبيهة بما تخيله وتصوره عنها آنذاك: الموسيقى في كل مكان، القصائد المتمردة، الياقات العريضة والشعر الطويل والملابس التي يحركها الهواء مثل رايات تدل على الزمان، زمان الهيبيين بأحلامهم وجنونهم، أولئك الذين انضم إليهم ورقص معهم على أغاني بوب دايلن. ربما تغيرت المدينة الآن مثلما تغيرت معظم مدن العالم، الأجيال التي عاش معها بالأبيض والأسود ليست هي الأجيال التي تدب الآن في شوارع المدينة وأحيائها، عبر جسر البوابة الذهبية أو في حافلات الكابل أو مشياً على الأقدام في توين بيكس وفي شارع لمباردو المتعرج بشكل غريب ولافت.

هذا هو حي فلمور الذي كتب عنه في «حانة الكلب» في منتصف السبعينيات، لكني لا أعرف أين يوجد دكان صديقه الفلسطيني المسيَّج بالقضبان، ألا يزال حياً؟ ألا يزال دكانه مسيجاً منذ ذلك العهد؟ فلمور يضج بالزنوج والجاز وبالآسيويين الذين تجدهم في كل مكان، جاء بهم الذهب حين تم اكتشافه هنا في منتصف القرن التاسع عشر. الحي الصيني أو البلدة الصينية على الأرجح هي أكبر تجمع آسيوي ليس في سان فرانسيسكو فحسب، بل في أميركا برمتها، فعدد سكانها يتجاوز هنا المئة ألف. على مقربة من هذه العيون الضيقة استأجر سركون غرفة رخيصة في أول عهده بالمدينة التي وصل إليها هارباً من ناطحات السحاب في نيويورك ومن حياتها التي بدت له حياة غير شعرية.

اللاتينيون أيضاً يعيشون هنا، خصوصاً المنحدرين من المكسيك التي لا يفصلها عن سان فرانسيسكو سوى التحليق لفترة قصيرة فوق المحيط الهادئ. لم يكن في سان فرانسيسكو قبل 1848 سوى ألف من الساكنة، لكن هذا العدد سيتضاعف عشرات المرات بدءاً من العام الموالي مباشرة بعد اكتشاف الذهب، وهؤلاء الصينيون واليابانيون واللاتينيون والأوربيون بطبيعة الحال جاء أجدادهم إلى هنا من أجل الذهب، لكن سركون بولص جاء به ذهب آخر، إنه الشعر.

يوسف الخال الذي قال له «مكانك يا سركون في بيروت» هو الذي سيساعده حتى يصير له مكان آخر في أميركا، في نيويورك أولاً، ثم في سان فرانسيسكو، بعد أن حجزت له إيتيل عدنان التي كانت تقيم بسان رفائيل في كاليفورنيا تذكرة الطائرة من نيويورك إلى مدينة الذهب.

وعبر هذه البوابة ذات السقوف الخضراء التي يعلوها تنينان وسمكتان كان حامل الفانوس في ليل الذئاب يمر يومياً خارجاً من غرفته بالفندق عابراً البلدة الصينية باتجاه «سيتي لايتس» منجم الذهب الخاص به. حين تجتاز الدرجات الثلاث للبوابة سواء من ناحية اليمين أو اليسار أو عبر الشارع الذي يتوسط الطرفين ستجد نفسك تحت الرايات الحمراء وبين «الأنتيكيات المزيفة» كما سماها سركون، لكن وسط عالم يضج بالحياة وبالحركة وبالأصوات وبالروائح وبكل السحر الذي يملأ سماء الشرق الأقصى.


السيتي لايتس


يترك الصينيين خلفه متجهاً إلى «أضواء المدينة» حيث سيلتقي، على مدار سنوات في هذه المكتبة الرائدة، بأولئك الذين كانوا بمثابة المغناطيس الروحي الذي جذبه من كركوك إلى «الساحل الشمالي» تحديداً حيث تشكل هذه المكتبة زاوية هامة ليس في شارع كولمبوس فحسب، بل في جغرافية الأدب الأميركي عموماً: ألن غينسبرغ، جاك كيرواك، بوب كوفمان، غريغوري كورسو، غيري سنايدر وغيرهم، إضافة بطبيعة الحال إلى لورنس فيرلنغيتي مالك السيتي لايتس. هنا في الطابق الثاني وفي «غرفة الشعر» تحديداً قدم له زعيم البيث ألن غينسبرغ في أول لقاء به قصيدته الشهيرة «عواء» وقد أسعده كثيراً أن هذا الشاب الآشوري ترجم له من قبل نصوصاً أخرى.

هذا هو الحيز الخاص بأدب البيث، لم يتغير منذ ذلك التاريخ، فقط الطبعات تتجدد عاماً بعد عام، ومن هذا الرف أخذ غينسبرغ قصيدته «عواء» وقدمها لسركون الذي استغرق وقتاً طويلاً في ترجمتها، نظراً لتشابكها المركب مع المكان ومع حياة وتصورات جيل البيث، وهذا النوع من النصوص لا ينقله إلى لغة أخرى إلا من عاش قريباً من السياق الذي أُنتج فيه، سركون لم يكن قريباً فحسب، بل كان داخل الدائرة.

كانت السيتي لايتس هي الإقامة الحقيقية لسركون، غيّر مكان سكنه مراراً، لكنه كان ساكناً على مدار سنواته هناك في الطوابق الثلاثة لهذه المكتبة، وفي معظم الوقت في «غرفة الشعر»، كان يخرج من السيتي لايتس ويتحرك بضعة أمتار قليلة جهة اليمين حيث مشرب فيزوفيو الذي كان المكان الأثير لشعراء البيث ولمحبيهم، كان أيضاً بمثابة مضافة لأصدقائهم الكتاب الآخرين القادمين من داخل ومن خارج أميركا. سألتُ النادل الذي يبدو أنه تجاوز عقده الخامس عن مكانين فدلني عليهما: كرسي كيرواك وطاولة كوفمان حيث كان يجلس صامتاً حزناً على اغتيال كنيدي وطالباً من سركون أن يضع قطعة نقدية في الجوك بوكس ليسمع الموسيقى. ربما يكون هذا النادل قد عاش زمن البيث، وربما يكون قد سمع عنه من أسلافه هنا، فحكايات كيرواك وغينسبرغ والآخرين صارت متداولة ومعروفة لدى سكان سان فرانسيسكو وتحديداً لدى رواد شارع كولمبوس.

وإضافة إلى شعراء البيث كان بولص يتردد على رمز آخر يُنظر إليه باحترام كبير هنا، إنه رائد نهضة سان فرانسيسكو كينيث ريكسروت، الشاعر والكاتب الذي قال عنه: «لقد كان عبقرياً ورجل معرفة بامتياز».

كان سركون يرى أن سان فرانسيسكو جمعت في تركيبتها بين باريس وبرلين ولندن وروما والصين أيضاً، وأن كتّابها حقيقيون وليسوا مثل كتّاب نيويورك، وأن هواءها يختلف عن هواء المدن الأخرى، فهنا يمكنك أن تتنسم حريتك بجرعات أكبر. هذا هو حي الهايث أشبوري الذي عرف أكبر موجات الهيبزم حيث كان بإمكان الفرد أن يفعل ما يشاء في أي وقت يشاء وبأي شكل يشاء.

هذه هي مقهى بوينا فيزتا التي تمر أمامها حافلات الكابل الفريدة، ومن هنا رأى سركون جزيرة ألكتراس التي ذهب إليها لاحقاً مع إيتيل عدنان ومع الهنود رفقة «فالو» الفتاة ذات الضفيرة الطويلة التي كتب عنها قصيدته «قارب إلى الكتراس». كانت هذه الجزيرة سجناً فدرالياً لأكبر وأخطر المجرمين، وصارت منذ 1963 مزاراً سياحياً يعبر إليه الزوار عبر المراكب، ويجب عليك إذا أردت الذهاب للكتراس أن تحجز تذكرتك قبل أيام. فثمة طوابير تنتظر. من ساحل سان فرانسيسكو أو من الضفة الأخرى التي يقودك إليها جسر البوابة الذهبية ستبدو لك منارة الكتراس التي تعتبر أول منارة على سواحل المحيط الهادئ. ذهب سركون عبر القوارب إلى ألكتراس مع الهنود في تظاهرة من أجل أن تكون هذه الجزيرة ملكاً لهم، لا لأحد آخر.

من هذا المرتفع يبدو جسر الباي الذي يربط سان فرانسيسكو بأوكلاند ومن ثم ببركلي، المدينة التي سار فيها سركون مع الطلاب المناهضين للحرب على الفيتنام، ومن ثم عقد صداقته مع الهيبيين الذين أخذوه معهم إلى حيث يعيشون قريباً من سوساليتو، وعاش معهم لفترة في سفينة مهجورة.

هذه هي المدينة التي سحرت سركون بولص، ما زال الشعر يسري في هوائها عاقداً صداقته الأبدية مع الموسيقى، كأن سركون لم يمت، كأنه ما زال هناك نائماً في مركب نوح أو جالساً في فيزوفيو يسمع أغاني البيتلز، ويفكر في قصيدة جديدة، كأنه ما زال يجوب بسيارته الكابريس ليل كاليفورنيا ونهارها، ويقف في شارع الكامينو ريال الذي عبره كهنة المكسيك فيما مضى مشدوداً إلى تلك اليافطة التي جعلته يعود إلى الشعر، اليافطة التي كتب عليها بخط واضح «حانة الكلب». وكأنني كنت برفقته من حديقة البوابة الذهبية إلى الجسر الأحمر الذي يحمل الاسم نفسه، ومن ميرينا وميشن وبيير وماركوس والحي الصيني ومقاهي الساحل الشمالي إلى الهرم الأميركي الشاهق.

ترك سركون هذه المدينة في السنوات الأخيرة من حياته، سان فرانسيسكو التي كان يقول إنه لم يشعر فيها بالملل ولو لدقيقة واحدة، لكنه غادرها باتجاه آخر مقتفياً أثر الحياة، طريدتَه التي لم يكن القبض عليها أمراً ممكناً على ما يبدو:

«لا مكان يحلم بوصولي/ والحياةُ / طريدتي الخائفة».

غادر سان فرانسيسكو لأن سؤالا سيرن في داخله، وسيطرحه في آخر كتاب له:

«أينها؟ أين أميركا التي عبرتُ البحر لآتيها، أنا الحالم؟ هل ستبقى أميركا ويتمان حبراً على ورق؟»

(شاعر مغربي)

السفير الثقافي | جريدة السفير

ليست هناك تعليقات