أحمد سعداوي في إنجيل يوحنّا "في البدء كان[ت] الكلمة"، بما يبدو وكأنه إشارةٌ الى أن الوعي سابقٌ على الوجود، الوعي الذي وعاؤه وحَدُّ...
أحمد سعداوي
في إنجيل يوحنّا "في البدء كان[ت] الكلمة"، بما يبدو وكأنه إشارةٌ الى أن الوعي سابقٌ على الوجود، الوعي الذي وعاؤه وحَدُّه الكلمة. وفي الكثير من الثقافات ما قبل المسيحية هناك تأكيدٌ على قوّة الكلمة، فبالكلمة توجد الأشياء، لأن الأشياء التي ليس لها اسمٌ لا يمكن تصوُّرُها في الذهن وبالتالي لا تملك حيّزاً في الإدراك، وتغدو وكأنها غير موجودةٍ بالنسبة للإنسان. حتى في القرآن الكريم "وعلّم آدم الأسماء كلّها..." البقرة 31. وكأن اسم الشيء هو مناط التعرُّف على الشيء نفسه.
في المراحل السحرية القديمة من وعي الإنسان كان إيجادُ اسمٍ لشيءٍ ما، حتى وإن لم يكن موجوداً في الواقع، هو إيجادٌ واختراعٌ لهذا الشيء. إن عالم الما وراء كلّه مرتبطٌ بعمل اللغة نفسه، الميتافيزيقا كلّها هي عالمٌ من كلمات.
ومن المثير أن الكلمات التي وُجِدَت أصلاً للتواصل بين البشر ونقل المعلومات والوقائع والتجارب، هي نفسها أداة خلق عوالم لا حصر لها، غير موجودةٍ في أحيانٍ كثيرةٍ في عالم البشر الواقعي والفيزيقي. وكأن هذه اللغة من خلال الخيال البشري تبني سعةً إضافيةً للعالم الواقعي، وتُوَسِّع بالتالي من حدود العالم الذي نعرفه، حتى وإن كان بإضافة مساحاتٍ خياليةٍ.
وهنا يأتي سحر الحكاية. كائناتها وعوالمها الخيالية. يقف الكاهن القديم أمام النار ليحكي قصّةً مختصرةً عن حقيقة هذا العالم ودور الأفراد فيه. ويتعامل الأتباع مع حكاية الكاهن بجدّية وتبجيل لأنهم يرونها حقيقية، لكن الأم ترجع مع ابنها الى بيتها، ومن أجل أن تُنيم أطفالها تروي لهم حكاياتٍ أخرى، يعرفون، وتعرف أنهم يعرفون أنها خياليةٌ. حكاية من أجل تهدئة الذهن وإبعاده عن مفردات العالم الواقعي المتراكمة من رحلة النهار، من أجل دفع الأطفال للنوم.
ينامون وهم يعرفون أن الغيلان والسعالي والحيّات الكبيرة، والمرَدَة زُرْقَ البشرة والعمالقة الذين يعبرون البحار والأراضي بخطواتٍ واسعةٍ، كلها كائناتٌ من اختراع الأمّ ولا وجود لها في الواقع.
ولكن، كم يبدو هذا العالم واسعاً ورحباً ويحوي إمكاناتٍ أكثر، مع هؤلاء المردة والغيلان والسعالي، وكم يبدو فقيراً وضيّقاً من دونهم..!
مع الحكاية، إن كنّا نسمعها من الكاهن حول النار، بنبرةٍ جدّيةٍ وصارمةٍ، أو في حِجر الأم وهي تريد تهدئتنا أو تنويمنا، مع هذه الحكاية، نحن نتلقّى فكرةً ما عن "معنى العالم"، حتى قبل أن نتعرّف بشكلٍ جدّيٍّ على هذا العالم.
أتذكر شخصياً، (ومن المؤكد أنها تجربةٌ إنسانيةٌ عامةٌ)، حكايات أمّي الخيالية، وأنا بسنٍّ صغيرةٍ، ربما في الثالثة أو الرابعة. كانت حكاياتٍ مخيفةً، وفيها كائناتٌ تُبَدِّل هيأتها عند الحاجة كنوعٍ من التخفّي. جان معلّقون من أهدابهم في السقوف كنوعٍ من التعذيب. فتيات صغيرات يتِمُّ خطْفُهُن. ولكن، في كلّ هذه الحكايات، وحتى قبل أن أغفو، كانت العدالة تتحقّق، وكان البطل الخيّر والطيّب ينتصر. كان شيئاً مريحاً، لم أكن أدرِكُهُ بعمقٍ وقتها، أن نتحسَّسَ حدود العالم ونعرف أنه بقبضتنا، أو في قبضة وَعْينا، وهذا ما كان صعب التحقق لولا سحر الكلمات.
لقد "رضعنا" منذ البدايات الأولى لوعينا، من خلال الحكاية "غير المقدّسة" التي تهدف إلى المتعة وتزجية الوقت، ولاحقاً من خلال الحكاية المقدّسة، التي تُريد أن تخبرنا بحقائق هذا العالم، أن هناك معنى. إن العالم ووجودنا كلّه محاطٌ ببيتٍ صلْب الجدران لمعنى ما. فأينما تذهب بنا الطرق وإلى أي المسالك أخذتنا المصادفات والأقدار فإن كلّ شيءٍ يَجري بمعنى، وينتهي إلى معنى. هكذا خرجنا إلى الحياة ونحن نُلقي عليها عباءة المعنى مسبقاً. ولا نرى هذه الحياة إلا من خلال عباءة المعنى.
هذا كلّه نحمِلُهُ على أكتافنا ونَرِثُهُ ونُسَلِّمُهُ إلى الأجيال التي بعدنا مرغَمين، فلا وجودَ لجسدٍ متماسكٍ لحياتنا من دون صمغ الحكاية، ومن دون سُلطة الحَكْي المقدَّس والمدنّس.
وبسبب ذلك لا يجلس روائيٌ أو كاتبُ قصّةٍ على طاولته ليكتب إلا ويستحضر هذا القالب المزروع في أعماق وعيه لإنتاج المعنى. إنه يكتب حكايةً ويصنع معنىً ما –معها- في الوقت نفسه. حتى مع الحكايات العبثية والعدمية، فالعبث والعدم هنا هو أيضاً معنى. إنني أوصِلُ رسالةً لك أيها القارئ وأُخْبِرُك بأن حياتك لا معنى لها وعبثية تماماً. أرجو أن تحترم هذا "المعنى" الذي أخبرك به!
واجه كُتّاب الرواية الفرنسية الجديدة هذا السؤال بعمق. وحاولوا وضعَ إجابةٍ عليه، فعلى ما يبدو نحن القصّاصين والروائيين نستعيد مهنة الكاهن القديم حول النار، وإن كان في إهاب ورداء الجَدّة التي تتحدث عن السعالي والغيلان، إننا جادّون جداً في إخبار القارئ بمعنى الحياة التي يعيشها. ونمرّر ذلك في إطارٍ من التسلية والمتعة المفترضة الآتية من القراءة.
إن الحياة في الواقع تسيرُ بشكلٍ خطّيٍّ من دون بدايةٍ فعليةٍ واضحةٍ ولا نهاية، ونحن نقوم، من أجل صناعة حكاية جيّدة، بوضع بداية ونهاية، من دون أي حجةٍ مقنِعَةٍ، وإنما بسُلْطَة الافتراض لا أكثر!
تبدأ حكايتي حين يُوقِفُ البطل من على الرصيف سيارة أجرة، يركب فيها وينطلق وتنطلق معه حكايتي. ما الذي كان يحدث قبل ذلك؟ هذا لا يُهِمّ. أنا أريدك أن تبدأ أيها القارئ من هذه النقطة تحديداً.
رفع آلان روب غرييه، من أجل التمرّد على المعنى الميتافيزيقي للرواية والسرد القصصي بشكلٍ عام، الشخصية من روايته "غيرة". مزج ميشيل بوتور بين حوار الشخصية والسرد الموضوعي العام، وألغى علامات الترقيم. أراد أن يقلّد دفق الحياة كما هي في ذاتها، لا كما تصنعه قوالب الحكي، التي تغرف من الحياة ما يحوي الوعاء فحسب.
ثم جاءت موجةٌ أكثر تطرفاً؛ الرواية الفرنسية الجديدة/الجديدة وحطَّمَت قالب الرواية بشكلٍ كامل. نقرأ قصاصةً من جريدة ثم نقلب الصفحة لنرى بطاقة مترو، ثم مقطعاً شعريّاً، ثم بروفايل يحكي عن شخصية ما، وهكذا... نثارٌ من السرد غير المترابط. وحين تسأل كاتبه، سيقول لك مثلاً؛ أنا أتمرد على المعنى الميتافيزيقي الذي تصنعه الرواية، أتمرّد على الجدّة التي تريد بحكاياتها أن تُنيمنا لا أكثر!
لكن في واقع الحال.. لقد خسِرَت رواياتٌ من هذا الشكل تعاطُفَ القرّاء. ثم بدت وكأنها كمن يطلق النار على نفسه. ولحسن الحظ لم تكن هذه نهاية فن الرواية، ففي الوقت نفسه، ونحن نتحدث هنا عن الستينيّات، صدرت رواية "مئة عام من العزلة" في عام 1967، لتعيدنا إلى رَوي وسَرْدِ الجدّة بشكلٍ صريحٍ. ثم ليبدأ منعطفٌ جديدٌ، وكأنه إعادة اعتبارٍ لتقاليد السرد والحكي منذ بدايات البشرية، وأن الحاجات القديمة ما زالت ذاتها: أن نصنع بالحكاية صورةً ما عن عالمنا، أو ذلك الذي نريد أن نحيا فيه، أو لمجرد أن نشعر بأن العالم واسعٌ حقاً، حتى وإن كان بالغيلان والسعالي والجان والمردة.
.
رابط المقال على منصة الاستقلال الثقافية: https://dipc.ps/page-2072.html
الصورة: كتّاب الرواية الفرنسية الجديدة: آلان روب غرييه، نتالي ساروت، كلود سيمون، ميشيل بوتور.
ليست هناك تعليقات