هُيّئت للثقافة العراقية وقفاتٌ ومحطّات تتأمل فيها أنطولوجيتَها العليلة، وتداوي أقدامَ السائرين المتعَبين في غابات الشَّتات، ووديانِ التحرّ...
هُيّئت للثقافة العراقية وقفاتٌ ومحطّات تتأمل فيها أنطولوجيتَها العليلة، وتداوي أقدامَ السائرين المتعَبين في غابات الشَّتات، ووديانِ التحرّي عن واحة ظليلة.. ومن هذه المحطّات مؤتمر المثقفين، الذي انعقد بدعوة من وزير الثقافة مفيد الجزائري في ١٢ - ١٤ نيسان ٢٠٠٥ .كان هذا المؤتمر أوّل ضوءٍ نفذَ من جدار الفئات المشتتة في المنفى، والأنفسِ المحاصَرة، الرابحةِ أو الخاسرة، المصدومةِ من انهيار الجدار في واقعة احتلال العراق ٢٠٠٣. (والصِنو اللاحق القريب لهذا المؤتمر كان ملتقى الشعر العراقي الأول الذي دعت مؤسسةُ عبد العزيز البابطين مئةً وأربعين أديباً من خارج العراق وداخله لحضور جلساته في الكويت، خلال المدة بين ٧- ١٠ مايس ٢٠٠٥).
غير أنّ هذا المسير/ الانتقال في أنفاق الأزمات والعِلل، كان يتعثر وينقطع وتزداد كُلومُه، بين لقاءٍ ولقاء يتلوه، ومشفى ومحجر ثانٍ يطمِره، وما عاد في الحسبان عدُّ ما انطوى وما سقط من أوراق التقاويم، وما تبرعم واستطالَ على حافات الأحلام والرؤى.. حتى إذا بزغ ضوءٌ في أفق الألفية الثالثة الداخن، ظنّه المُدلِجون نجمَ الثقافة السعيد، وألقوا برحالهم على سفحه.. غَرَبَت الرؤيا كما بزَغَت؛ وانطوى مؤتمرُهم في عشيّة مدلهمّة..
ما أصفُه، ممّا جرى في مؤتمر المثقفين المعقود في فندق بابل أوبري ببغداد ٢٠٠٥، ليس غير محاولة في وصل الأشتات الألفية الموزعة على مشارق الأرض ومغاربها، وقد أفاقت من ذهولها وتحويمِها بأجنحةٍ من جليد، ودخلت البيتَ الذي طُرِدت منه، لتجتمع حول برنامجٍ للإصلاح الثقافي والتغيير الاستراتيجي لاتجاه المسير الطويل بين المحطّات السابقة.. فكان اللقاء أقصرَ اجتماعٍ بعد طول غربةٍ واختلال في معايير الثقافة الوطنية، وأرخى حبلٍ من حبال العودة والاقتراب من روح الوطن العليل.. سرعان ما اعقبته هوّةٌ من هُوى البُعد والافتراق.
اختُتِم المؤتمر باختتام دورٍ قصير على مسرح متأرجِح، وانسحبَ المدعوّون القادمون من المحافظات الى غرفهم، في البناء الزقّوري، بعد عودتهم من المسرح الوطني، في غروب اليوم الثالث؛ حيث قُرئت هناك القرارات وتوصيات الورش المتفرقة. واجهت المؤتمرين أكثرُ من صدمة، أوّلها وفاة الممثل القدير جعفر السعدي على كرسيّه في المسرح الممتلئ، قبل افتتاح المؤتمر بدقائق، ثم انفجار سيّارتين ملغّمتين في طريق المؤتمِرين الذاهبين الى ورش المؤتمر، ضحى اليوم الأخير. هبطت سماءٌ كمداء على الشوارع المحيطة بالفندق، وازداد جنون العجلات المتقاطعة في سيرها بين الحواجز التي نصبتها الشرطة في أثر الانفجار. حبستُ نفسي في قاعة استقبال الفندق نهارَ اليوم الثالث بطوله، كي أواجه صدمةَ آخر الليل، عندما استدعى الوزير ضيوفَ المؤتمر إلى لقاءٍ توديعيّ، في القاعة الخلفية لمطعم الفندق. تجاوزت الساعة منتصف الليل، وهبطنا تباعاً إلى القاعة الخالية من الأثاث، وأحطنا الوزيرَ بحزام متحلل من البروتوكول. كان الوزير قد تخفّف من جاكيتته وربطة عنقه، وإلى جانبه جلس كامل شياع، مديرُ المؤتمر، متداعياً على كرسيه تحت وطأة الاعياء والترقب والاصغاء الكلّي لقولٍ أخير. وكأنَّ ما أنجزَه شياع طيلة الأيام الثلاثة من أقوال وأفعال لم تُشبِع طبيعتَه الحوارية والتزامَه المتأهب دوماً للحضور في الوقت المطلوب.
ارتجل الوزير خطبة، بدّدت الكسل من العيون، ورفعت مقياسَ حرارة القاعة الجرداء درجات. إلا أنّ ثغرات في الخطبة بقيت بلا سِداد، ورنّت كلمات الوزير في القاعة الليلية بلا أصداء. أغدقَ الوزير وعودَ الثقافة الدانية في كؤوس النُعاس، وأراد ان يستأنف خطابَه البروتوكولي في افتتاح المؤتمر بقطفِ الثمار من أشجار الليل المهجورة حول الفندق. أضافَ كلمات مُتعَبة، ختمَها بتلويحة الوداع، ثم اجتاز مع مرافقيه بهوَ الفندق، وقد خلا من أكاليل العرائس المزفوفات إلى أجنحتهنَّ المحجوزة، في مساء ذلك اليوم (الخميس).
عاد الضيوف إلى غرفهم، وظلّ اكثرُ من ضيفٍ أرِق يتجول بين أروقة الفندق الصامتة حتى ساعات الصباح. فثمّة شيء ضائع خلّفته الأذيالُ المعطّرة، وزُوّار غير مرئيين من بُناة الفندق، قدِموا من الخرائب القديمة في بابل ليستمعوا إلى فاصل جديد من عجائب بغداد، أراد حرّاس الثقافة الساهرون اصطيادَهم، دون جدوى؛ بينما أويتُ إلى غرفتي منطوياً على "كلمة" سقطت من خطبة الوزير الوداعية؛ كلمةٍ انزلقت بين حواجز الليل، وأشباح بابل، وتبعت موكبَه الذي ذابَ في فضّة الفجر.
أمام الواجهة البابلية المتدرّجة الطوابق، على أرصفة بغداد الممنوعة من التجوال، عبَرَ دجلةُ بعرائسه الغريقات، المزفوفات على التيّار، تتبعهنَّ "كلمة" الوزير، الذي أبصرَ بفراسته السياسية اليقِظة نهايةَ المؤتمر، وصدمةَ الثقافة التي تنتظر موكبَه. بعد حين من الوقت، ظهرت المفردةُ التي لم يجرؤ الوزير على نُطقها بخطبته، في صحافة بغداد، المشغولة بالتشكيل الوزاري الجديد. استُبدِل بمفيد الجزائري وزير آخر، سينتقل مثله بين حواجز الليل، دافعاً أمامه "كلمة" سقطت من خطاب وداعيّ أمام ضيوفٍ سالفين. تلك الكلمة الوداعية ستعترض أيضاً موكبَ كامل شياع، في ٢٣ آب ٢٠٠٨، لتنهي حواراً ظل ناقصاً في وعيه المُتعَب، وتُسقِطه في نُعاسٍ أبدي.
ليست هناك تعليقات