«وسع الغيم بصبحيّات/يرحل خلف تلال تلال؛ ويبقو بنيّات السمر وحدّن صبيان/طياييرن زرق وحمر يا شكال شكال؛ ودراج الدار عليانة/بشلوح النار تعبانة/شاعر حامل غمر غناني/وقاصد ديرتكن قاصد؛ عم بيهدر نهر الهادر/والصنج يرنّ/وبيدر مزروع بيادر/مزروع رجال؛ لو فينا نهرب ونطير/مع هالورق الطاير/تنكبر بعد بكيّر/شو صاير شو صاير؛
واللي انكتب عالمجد/بكلّ سيف انكتب».
تتّصف كلّ هذه الاقتباسات من شعر الأخوين رحبانيّ المحكيّ، أي الذي يتبع اللهجة اللبنانيّة العامّيّة، بظاهرة يمكن أن نسمّيها ظاهرة التكرار. في المدرسة كانوا يعلّموننا أنّ واحداً من شروط البلاغة هو تجنّب التكرار. ولكنّنا اكتشفنا في ما بعد أنّ هذا عين الهراء، وأنّ هذا الكلام لا ينطبق على النثر، ولا ينطبق بطبيعة الحال على الشعر. فهناك، في الحالتين، نوع من التكرار تستعذبه الأذن، وتستعذبه ذائقة القارئ. من يتمعّن في الشعر العربيّ القديم، يجد أنّ كبار الشعراء، كالمتنبّي وأبي فراس وأبي نوّاس، كانوا يلجأون إلى التكرار في بعض أبياتهم، والمحصّلة أنّ هذا التكرار كان يضاعف حضور الموسيقى في هذه الأبيات ويزيد بلاغتها. وأورد مثالاً على ذلك قول المتنبّي: «أمّا الأحبّة فالبيداء دونهم/فليت دونك بيداً دونها بيدُ»، وقول أبي فراس: «إذا صحّ منك الودّ فالكلّ هيّن/وكلّ الذي فوق التراب تراب».
هذا التكرار المستعذب يلجأ إليه الأخوان رحبانيّ في الأمثلة التي أوردناها أعلاه، وهي غيض من فيض. طبعاً هذه الظاهرة البلاغيّة، التي فات معظم العرب أن يوفّوها حقّها في كتب البلاغة، ليست غريبةً عن الشعر العامّيّ عموماً، ولا بدّ من أنّنا سنعثر على أمثلة مشابهة في إنتاج ميشال طراد وأسعد السبعلي وطلال حيدر وغيرهم. أمّا لدى الأخوين رحبانيّ، فهي تمتاز بتنوّعها الكبير، إذ يجري تارةً الاكتفاء بتكرار الكلمة ذاتها بغية تكثيف المعنى كما في «تلال تلال» أو «شكال شكال»، وطوراً يتّخذ التكرار أشكالاً أكثر تعقيداً تقوم على نوع من التوازي «وبيدر مزروع بيادر مزروع رجال»، حتّى إنّه يترافق أحياناً مع تكرار في الحروف هدفه تكثيف إيحائيّة النصّ الشعريّ كما في «عميهدر نهر الهادر» للتعبير عن صوت النهر.
لا تغيب هذه الظاهرة عن الشعر العامّيّ الرحبانيّ في مراحله المتأخّرة، أي بعد انفجار دماغ عاصي الرحبانيّ العام ١٩٧٢، وحتّى في الأعمال التي حملت توقيع منصور الرحبانيّ منفرداً. ولكنّ كثافتها تتراجع، كما تتراجع «الحربقة» في صوغ النصّ الشعريّ العامّيّ الذي يستنجد بهذا النوع من التكرار، ما يجعلني أطرح الفرضيّة أنّ هذا النوع من التكرار البلاغيّ المستعذب يمكن عزوه، بالدرجة الأولى ولكن ليس حصراً، إلى الشقيق الكبير عاصي فيما تفرّد منصور بنوع من التكرار البلاغيّ اللافت في قصائده المكتوبة بالفصحى، كما حاولتُ أن أثبت عبر دراسة معمّقة في كتابي عن فيروز والأخوين «عن جبال في الغيم» (ص ١٠٩-١١٥). ولعلّ من أجمل الأمثلة التي تطالعنا في هذا الصدد هذا المطلع الرائع في مزجه بين الاستعارة والتكرار: «أقول لطفلتي إذا الليل بردُ/وصمت الربى ربىً لا تحدّ».'
مدونة نشرها الدكتور اسعد قطان في صفحته الفايسبوكية