بول شاوول... عالم بلا رائحة

alrumi.com
By -
0




استغرقتُ عدة أسابيع، مكمماً، لأكتشف أنني فقدتُ حاسة الشم. عندما كنت أتمشى في ‏الشوارع (وأنا لم أفوّت يوماً واحداً من دون أن أخرج من بيتي برغم منع التجول ‏والإغلاق)، وأتمتع بمرأى الأشجار المصفوفة على جوانب الطرق وكذلك النباتات ‏والورود التي أحاذيها، لم أنتبه إلى أن العالم حولي بات بلا رائحة، (كل شيء في هذا ‏العالم رائحة) بلا شميم، رائحة اللارائحة ، شميم اللاشميم، ينسمّ الهواء وأرى أوراق ‏الأشجار المختلفة بألوانها، وأغصانها وجذوعها.‏


وعندما دخلتُ إلى السوبر ماركت للتبضع، امتدت أمامي الفاكهة والخضار والأجبان ‏واللحوم والمخبوزات، ولكن كلها عديمة الشم، عديمة الفوح. مجرد معروضات ‏‏"رائعة" فلا مشموم التفاح أو الموز أو الجزر والخيار طافح. فأنفي مسدود بكمامة ‏وكأن كل هذه الأنواع باتت مجردة من رائحتها، أتنفس الكمامة فترتد أنفاسي إليها، ‏بل وبعد شهر أو شهرين، كدتُ أخاف من تلك الروائح، لأنها مغطاة بالفيروس. لا ‏تلمسها إلا إذا كنت واضعاً القفازات، حتى كأنها هي أيضاً تضع القفازات، عليك أن ‏تلتقطها برؤوس أصابعك إذا لم يكن بقفازات، وتبعدها مسافة عنك، لكي لا تصيبك ‏بالعدوى. ‏


تخشاها أولاً وثانياً وثالثاً: فاللمس ممنوع هذه الموجودات والمأكولات كما تعامل أي ‏صديق في الشارع بالتباعد مترين على الأقل، لأنك تخشى أنفه، ويخشى فمك، ‏وترتاب بأنفاسه، ارتيابك بأنفاسك، كبرت مسافة الهواء التي تنقل رائحة الشخص ‏‏(ملابسه، عرقه، عطره،...) فالناس (كالفيروس) بلا رائحة، وحذارِ أن تخطئ ‏وتحاول أن تشمّ ما في يديك حتى الكتاب أو الجريدة، فهناك المحظور، وهنا الموت، ‏عليك أن تقتنع بأن الناس والأشياء والنباتات والأزهار، باتت بلا رائحة. فالموت في ‏الرائحة، والموت في الملمس وهذا يعيدك إلى وسواسك: هل ستعتاد ما آلإليه العالم: ‏بلا لمس، بلا شميم، ليصبح مع الوقت من عاداتك ومن أوصابك، ومن هواجسك، ولا ‏عليك أن تفكر كثيرا في هذه المسألة المؤقتة، لكي لا تصبح دائمة، متصلة بأمراض ‏النفس، والبدن، والبعد، والخشية، والنفاد..‏


ولكن، عندما تحمل أغراضك إلى البيت وتنزعها من أكياسها عليك أن تسحب كل ‏حبة منها، أو كل باقة، وأنت تتسلح بورقة كلينكس. ولهذا إياك أن تعوض عدم شميمك ‏إياها في المحلات والشوارع وبتقريبها من أنفك، لتقتنع بنفسك بأن عليك ألا تنزع ‏الكمامة، وأنت ترفع تفاحة، أو باقة نعناع، فدعها في ملموسها ومشمومها بعيدة. ‏


ثم عليك، أن تعقمها (كما تعقم يديك وحتى ملابسك) ثم تنشفها، وهنا، يمكن أن تتجرأ ‏‏(وإن بخوف) على تقريبها من أنفك، وهنا، تعينك جرأتك على رفعها أمام وجهك ‏وتشمها وتكاد تصرخ: آه ما أروع فوح التفاح الجبلي أو الخيار الشمسي... لكن، حتى ‏في هذه البهجة الانفرادية، تتوقف فجأة: ماذا لو لم أعقمها جيداً؟ وهنا بالذات يسري ‏خوف في أوصالك. فالفيروس يحط على الأجسام الصلبة، الطاولات، الكراسي، ‏القبعات، الكتب، والفاكهة، فتعمد مرغماً لحل هذه الإشكالية إلى تقشيرها، ولكن عليك ‏أن تعقم السكين!، فقد يكون التقط منها طرفاً من الفيروس!‏


تبتعد عنها قليلاً ثم تقاربها (كما تقارب أفعى) وتتركها على الطاولة... لتحتفظ بجمال ‏شكلها وخضرتها وصمتها... فحسب، تكتفي بذلك، وتختار لغذائك طعاماً آخر، من ‏دون رائحة، ومن دون أي أثر ملامس.... ومن دون ركوب خطر داهم... ومن دون ‏أن تنتزع كمامتك، وقفازك، في المنزل تكتشف مرة أخرى أن العالم ما زال بلا ‏رائحة... ومن دون لمس، فقط العيون تمتلك حرياتها الكثرى في التعبير... ولكن، ‏يبقى تعبيراً ناقصاً.‏


(*) شاعر لبناني

Tags:

إرسال تعليق

0تعليقات

إرسال تعليق (0)