حسونة المصباحي
كاتب تونسي
المصدر جريدة العرب
في عام 1982، عاش العرب صيفا مرّا آخر. فقد غزت إسرائيل لبنان لتطرد المقاتلين الفلسطينيين منه. وكانت الدبابات الإسرائيلية تتقدم من بيروت لمّا أقدم الشاعر الكبير خليل حاوي على الانتحار برصاصة في الرأس تماما مثلما فعل ارنست همنغواي. وقد ذكر البعض أن الأزمات النفسية الحادة التي كان يعيشها الشاعر هي السبب في ذلك. وقد يكونون على حق! غير أنها ليست السبب الوحيد. فمنذ بداية مسيرته الشعرية، عرف خليل حاوي بإيمانه بما كان يسمّيه بـ: “البعث العربي”.
بعث يتيح لأمة العرب أن تنهض من كبواتها، ومن رماد الانحطاط لتجد تحت الشمس المكان اللاّئق بها. لكن لمّا عاين أن “البعث” خبا، وانطفأ، أطلق على رأسه الرصاصة القاتلة، ورحل عن الدنيا بعد أن عانى طويلا من “الدوار العربي”!
وقد عاش خليل حاوي المولود في “جبل الدروز″ عام 1919 طفولة قاسية، فبسبب مرض والده الذي كان يعمل بنّاء، اضطرّ إلى ترك المدرسة وهو صبيّ ليقوم بأعمال قاسية ومهينة ابتغاء الحصول على القوت اليومي له ولعائلته وهو يقول عن ذلك: “والدي كان بنّاء، يعمل كعادة البنائين الشويريين، يرتحل في مستهلّ الربيع إلى سوريا للعمل هناك، وبخاصة في منطقتين: منطقة جبل الدروز، والجولان.
وربّما أثّرت المناقبيّة الدرزيّة تأثيرا قويّا، لكنه خفيّ، في سلوك الشويريين. وهو سلوك تغلب عليه صفة الفروسيّة في مقدمها العربي. وقد مرض والدي ولي من العمر اثنتي عشرة سنة. وكان مرضا عصبيّا موجعا.
وضاقت بنا سبل العيش فتحتّم عليّ وأنا كبير إخوتي وأخواتي أن أترك المدرسة وأبدأ في العمل كما يبدأ الكثير من الشويريين. ومن أوجع الذكريات، كان عليّ أن احمل الحجارة في بناء “البلوكاج” بين الطريق والرصيف. الموجع في الأمر توقّف زملائي الطلاّب للتحدث معي مع العلم أنني كنت أعيش من قبل حياة يمكن أن تمرّ مترفة بالنسبة إلى دخل والدي”. وفي المناسبات والأعياد، كان الفتى خليل حاوي يفضّل البقاء في البيت لأنه لا يملك ثيابا جديدة. وأحيانا كان يعذبه السؤال الوجودي الذي عذّب أبا العلاء من قبله، فيتساءل لماذا تزوّج والده وأنجبه؟ كما كان يفكر أيضا في طبيعة الله فتصيبه الرعدة أمام غموض الكون والوجود، ومصير الإنسان على الأرض.
كان واضحا أن الأعمال الشاقّة التي قام بها في فترة طفولته، ومراهقته تركت بصماتها عليه، وطبعته بحدة في سلوكه، أما عصاميّته فقد أكسبته اعتدادا بالنفس، وفخرا بالطبيعة الجبلية التي عاش فيها
وكان خليل حاوي في الرابعة عشرة من عمره لمّا عمل في “التطبين والتبليط”. وهو عمل شاقّ كان يجبره على النهوض عند الفجر، ولا ينتهي منه إلا عند هبوط الليل. فكان يعود إلى البيت وحذاؤه ينضح بالكلس الذي كان يؤثّر في قدميه تأثيرا بالغا. وقد واصل خليل حاوي هذه الأعمال المهنية الوضيعة حتى اندلاع الحرب الكونية الثانية. وعندئذ عمل في الجيش البريطاني في بيروت. وبالمال الذي حصل عليه من عمله ذاك، انتسب عام 1946 إلى مدرسة “شارل سعد” في “الشويفات”. وبعد حصوله على شهادة البكالوريا، التحق بالجامعة الأميركية ببيروت ليتحصّل منها على شهادة الماجستير.
وبين عام 1956 وعام 1959، دَرَسَ في جامعة “كامبريدج” البريطانية وأحرز على شهادة الدكتوراه. وكانت أطروحته عن جبران خليل جبران. وخلال إقامته في بريطانيا، اكتسب ثقافة فلسفية عميقة قلّما امتلكها شاعر عربيّ آخر من أبناء جيله، وهو يقول عن ذلك: “كان المفهوم السائد آنذاك هو أن الفلسفة تفسد الأدب، والشعر بالخصوص.
وربما كان لثقافتي الفلسفيّة بعض الأثر في تمايز شعري عن شعر الآخرين من روّاد الشعر الحديث. وأعتقد أن الفكر الفلسفي عمّق الرؤيا الشعريّة دون أن يوشّحها أيّ أثر من أثر الفكر الذي يقرّ تقريرا، أو يردّ على سبيل الحكمة المأثورة!”. وكان خليل حاوي عضوا بارزا في الحزب القومي السوري الذي أسّسه ابن بلدته انطون سعادة.
لكن بعد إعدام هذا الأخير عام 1949، انفصل عن الحزب المذكور بسبب خلافات عميقة جدّت بينه وبين قيادته. وقد أوجعه هذا الانفصال كثيرا إذ أنه وجد نفسه فجأة وحيدا أمام العالم. وقد عبّر عن ذلك في ديوانه: “نهر الرماد”، وعنه كتب يقول: “في “نهر الرماد” حيث يغلب التوحّد والوحشة، ومجابهة الوجود فردا وحيدا يفتقد ما عرفه من قبل من مساندة الرفاق له. ثمّ انتقلت من الشعور بالعدمية إلى اكتشاف قيم الحضارة العربية من جديد.
وأدركت أن الحزب القومي السوري كان على خطأ أساسي عندما دعا إلى وحدة تهمّ “الهلال الخصيب”، وباسم سوريا، والحضارة السورية، وأصبحت أعتقد أن الدعوة إلى مثل هذه الوحدة نفسها يجب أن تكون باسم العروبة لأنها السّمة الجوهريّة التي يتّسم بها تراث هذه المنطقة، هذا مع الاعتقاد بقيام وحدة عربية أشمل”.
كتب حاوي إلى حبيبة عمره الكاتبة العراقية ديزي الأمير: قد أستيقظ في أيّ صباح لأقرأ في الصحف أن لبنان تبخّر، حذف من الخريطة، وأن أهلي لاجئون، أو أنهم قتلى منطرحون على التراب في 'الشوير'، أو هم في طريقهم إلى التشرّد الأبدي… لو كانت العودة إلى لبنان مفيدة لعدت، ولو كان الجهاد محبّبا لتركت الدرس وجاهدت، مأساة فظيعة انتظارها أفظع من وقوعها.
وكان واضحا أن الأعمال الشاقّة التي قام بها في فترة طفولته، ومراهقته تركت بصماتها عليه، وطبعته بحدة في سلوكه. أما عصاميّته فقد أكسبته اعتدادا بالنفس، وفخرا بالطبيعة الجبلية التي عاش فيها.
وعن ذلك هو يقول: “ظلّت الطباع الجبليّة التي نشأت عليها تؤكّد ذاتها بعنف يبلغ حدّ المغالاة في مجال الخلق الشعري، والالتزام بالعقيدة العربية التزاما يطرح قضيّة الانبعاث العربي على مستوى مطلق. ومما يعرف عنّي التأكيد على الاستقلال بالرأي، واعتبار نفسي أصلا في التراث العربي، وفي الدعوة إلى بعثه من جديد. واعتبار المقاييس التي أستند إليها هي أصلح المقاييس.
وهذا الأمر دفعني أحيانا إلى الثورة على بعض المسؤولين العرب ثورة مباشرة بلغت حدّ التعنيف، والتوبيخ. ومما أقوله: لا فضل لمسلم على مسيحي إلاّ في أصالة عروبته. وكنت أرفض الشعور الذي تنطوي عليه الدعوة العربية، كأنها دعوة متأصّلة تأصّلا تلقائيّا في نفوس المسلمين، وهي وافدة على نفوس المسيحيين من خارج”.
وكان احتقار خليل حاوي لبعض المثقفين المسلمين يبلغ أشده عندما يظنّ هؤلاء أن إسلاميتهم تجعلهم متأصّلين في عروبتهم!
وبعد انقطاعه عن النضال السياسي ضمن الحزب القومي السوري، أصبح الشعر الهاجس الوحيد لخليل حاوي. فهو-أي الشعر- “يستولي على نفسه. وهو أقرب إليه من النساء”.
وكان دائم القلق على مستقبل لبنان. وفي قصيدة بعنوان: “في بلادهم” التي نشرتها مجلة “الآداب” عام 1957 بدا وكأنه يتنبأ بالكوارث والفواجع التي ستضرب لاحقا هذا البلد الصغير والجميل:
وغدا يندكّ لبنان
وينفى شعب لبنان ويستعطي الشعوب
غير أن الأعين الصمّاء لا تحكي وتحكي:
أنت منبوذ غريب…!
سوف تستعطي الشعوب…!
ونفس هذا الإحساس بالفاجعة نجده في المقطع التالي من الرسالة التي كتبها إلى حبيبة عمره، الكاتبة العراقية ديزي الأمير، وفيها كتب يقول: “قد أستيقظ في أيّ صباح لأقرأ في الصحف أن لبنان قد تبخّر، قد حذف من الخريطة، وأن أهلي لاجئون، أو أنهم قتلى منطرحون على التراب في “الشوير”، أو هم في طريقهم إلى التشرّد الأبدي. إن هذا الخوف يحتلّ أفكاري أحيانا حتى يمنعني من النوم ليالي، وأحيانا يتمثل في صورة مرعبة غبّ النوم، فأستيقظ مذعورا… ولو كانت العودة إلى لبنان مفيدة لعدت. ولو كان الجهاد محبّبا لتركت الدرس وجاهدت، مأساة فظيعة انتظارها أفظع من وقوعها!”.
وقبل انتحاره بسنة واحدة، كتب قصيدة وهو في مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت، فيها يقول:
طال صمتي
من ترى يسمع صوتا صارخا في صمته
يسمع صوتي
فاتني الإفصاح أدركت محاله
بين تهجير وجلد واغتيال وعماله مفصحا عن غصّة الإفصاح في قطع الوريد…
ولعله كان قد أقنع نفسه حينئذ بأن الانتحار هو الوسيلة الأفضل لكي يسمع العرب “صوته الصّارخ في الصمت”