شربل داغر... الرسول بين خبر وصورة (1 من 3)

alrumi.com
By -
0



صور تمثيلية للرسول


(أنهيتُ، في السنة المنصرمة، كتابًا عن الفن والفقه، وعن الصراع على الصورة. أكتفي، أدناه، في ثلاث تدوينات متتالية، بالوقوف عند أجزاء من الفصل الثامن من الكتاب، لمعالجة "مسألة" تصوير الرسول التي تختلف، في المدونة، بين أخبارها وإنتاجاتها، عما هي عليه في إعلام يهوى وينشر تلفيق الأخبار، أو يتسرع في شدّ معانيها، بما يناسب السياسة والعنف وكره الآخر.

هنا، التدوينة الأولى).


ينقل المسعودي في كتابه الشهير، "مروج الذهب ومعادن الجوهر"، حوارًا جرى بين رجل من قريش، من ولد هبار بن الأسود، بعد حلوله في الصين في القرن الثالث الهجري، وبين ملك الصين : "ثم قال للترجمان : قُلْ له : أتعرف صاحبك إن رأيتَه (يعني النبي)؟

قال القرشي : وكيف لي برؤيته وهو عند الله عز وجل؟

فقال : لم أردْ هذا، وإنما أردتُ صورته.

فقلت : أجل.

فأمر بسفط فأخرج فوُضع بين يديه، فتناول منه درجًا، وقال للترجمان : أرِه صاحبه. فرأيتُ في الدرج صور الأنبياء، فحرَّكت شفتي بالصلاة عليهم (...).

هذا نوح (...) في سفينة ينجو بِمَن معه (...).

وهذا موسى (...) وبنو إسرائيل (...).

وهذا عيسى بن مريم (...) على حِماره والحواريون معه (...).

ثم رأيتُ صورة نبينا محمد (...) على جَمَل، وأصحابه محدقون به، في أرجلهم نعال عربية من جلود الإبل، وفي أوساطهم الحبال، قد علقوا فيها المساويك".

هذا خبرٌ، وهناك غيره بما يفيد عن وجود صور للرسول، أجنبية وإسلامية. هذا ما يتوقف عنده د. زكي محمد حسن، في دراسة بعنوان : "السيرة في الفن الإسلامي" (1940)، (وهي دراسة باكرة من دارس عربي، وبالعربية)، ويسرد بعض وقائعها، ومنها تصاوير لبعض حوادث السيرة النبوية في مخطوط كتاب "جامع التواريخ" للوزير رشيد الدين، ويرقى إلى العام 707 هـ - 714 هـ، ومحفوظ في جزء منه في "الجمعية الآسيوية" بلندن، فيما يوجد الجزء الآخر في مكتبة جامعة إدنبره في اسكتلندا. كما يشير د. حسن إلى تصوير فارسي معروف لسيرة الرسول، ولا سيما "المعراج" منها.

هذا ما كشف عنه بدوره د. بشر فارس في مخطوط مصوَّر (1948)، و"يبدو الرسول ووجهه غير محجوب بنقاب، كالذي يحجبه في طائفة كبيرة من المنمنمات الفارسية اللاحقة". كما يخصص د. ثروت عكاشة قسمًا كبيرًا من كتابه "التصوير الإسلامي الديني والعربي" (1977) لتصاوير الرسول. ومن المعروف وجود تصاوير للرسول في التقاليد الفارسية، ترقى إلى العهود الإيلخانية (1256-1353)، والتيمورية (1370-1506)، والصفوية (1501-1722)؛ كما ترافقت هذه الصور مع تقاليد تصويرية في عدد من المخطوطات خاصة بأحداث متصلة بالرسول، ولا سيما "المعراج" منها.

لا يجد الدارس صعوبة في التوفق بصور للرسول، ومنها مزوقات (منمنمات) وسجاجيد فارسية تصور أحداثًا مختلفة من حياته، ومنها ما جرى تغطية وجهه فيها. كما يؤكد الدارس عبد الوهاب المؤدب وجود مخطوط يصور حياة الرسول، من مدينة هرات، ويعود إلى القرن الرابع عشر؛ كما يشدد على أن تصوير الرسول كان مقبولًا في آسيا الوسطى وفي العالم التركي، فيما سرى المنع في البلدان العربية. ومن المعروف كذلك ظهور شرائط مصورة عن الرسول، في نشريات أوروبية، من دون أن تثير ضجة، آخذين في عين الاعتبار أنها بقيت في نطاق بلدانها.

ملاحظة المؤدب سليمة إذ لا نجد في محفوظات مشرقية أو مغاربية أو في الجزيرة العربية صورًا للرسول، ما يحتاج، في حد ذاته، إلى بحث وفحص : أيعني أن بلاد الرسول نفسها بقيت "متشددة" في مسألة الصورة الدينية، بل في صورة الرسول تحديدًا، بالتمايز مع غيرها؟


لا يوجد نص شرعي إسلامي ينهي عن تصوير الرسول، بل يمكن الحديث عن تقاليد دينية-فنية قد تجيز أو تنهي عن هذا التصوير تبعًا للمجتمعات والممالك والعهود... ولكن ما يستوقف في هذه الصور هو أنها لا تشبه الرسول أبدًا، بل هي صور متخيلة عنه تمامًا : توقفَ أحد الدارسين عند صور وجهية فارسية للرسول وعند أصولها الفنية في عمل مصورَين فوتوغرافيين مستشرقين : دولينرت ولاندروك (de Lehnert et Landrock)، من دون أن تعود بالضرورة إلى المتن الإسلامي القديم الخاص بسيرة محمد، والذي حفل بمادة إخبارية واسعة عنه.

من يّعُدْ إلى المتن العربي القديم، سيجد مدونة واسعة في "وصف" الرسول، أو في "حِلْيَته" (حسب لفظهم). هذا ما يمكن الوقوع عليه في : الأحاديث النبوية، والسيرة النبوية، والمغازي وغيرها. وتشتمل الكتب على أوصاف الرسول : في هيئته، ومظهره، وأعماله وخلافها، ما يفيض عن حمولات أي صورة فنية له. أهناك فارق، وربما فوارق، بين الخبر عن الرسول وبين تصويره؟

يرد في مطلع كتاب "الشمائل المحمدية والخصائل المصطفوية" البيت الشعري التالي :

وفاتكم أن تبصروه بالعيون فما فاتَكم وصفُه هذي شمائله

هذا القول الشعري يفيد عن العلاقة التي أطلبُ عرضَها ودرسَها في هذه الفقرة، وهي أن كتبًا كثيرة وصلتْ وتتحدث عما فاتتْ رؤيتُه، وما يمكن نقلُه كلامًا. هذا البيت الشعري يرسم علاقة يُراد فيها من الكلام أن يحفظ "وصفَ" ما لم تستطع العين رؤيته؛ وهو ما يمكن أن يُقال كذلك في معرض تصوير الهيئات الغائبة، وما توفره الصورة الفنية من "وصف" لها. فماذا توفر الصورة الكتابية عن الرسول؟


يكاد يكون كتاب الإمام الترمذي (209 هـ - 279 هـ)، "الشمائل المحمدية والخصائل المصطفوية"، من أقدم الكتب التي وصلت حول هذا الموضوع، وأشهرها وأوسعها انتشارًا وأكثرها شروحًا وحواش. وترد في الكتاب أحاديث ونقول كثيرة تتناول : خلق الرسول، وخاتم النبوة، وشَعره، وترجله، وشيبه، وخضابه، وكحله، ولباسه، وخِفه، ونعله، وسيفه، ودُرعه، ومِغْفره، وعماته، وإزاره، ومشيته، وتقنعه، وجِلْسته، وتكأته، واتطائه، وأكله، وخبزه، وإدامه، ما يقوله قبل الطعام وبعده، وقدحه، وفاكهته، وشرابه، وتعطره، وضحكه، وكيف كلامه في الشِعر وفي السمر، ونومه، وصومه، وبكاءه، وفراشه وغيرها.

يذكر الترمذي، على سبيل المثال، عن شَعر الرسول، أنه كان "إلى نصف أذنيه"؛ و"كان له شَعْرٌ فوق الجُمة، ودون الوفرة". كما كان "مربوعًا" في جسمه، وهو "بَعيد ما بين المنكبين"، و"كانت جُمته تضرب شحمة أذنيه"؛ و"لم يكن بالجَعْد ولا بالسَّبِط"، و"كان يبلغ شعره شحمة أذنيه"، وكانت له "أربع غدائر" لما قَدِم إلى مكة. كما كان "يُكْثر دهنَ رأسه، وتسريح لحيته، ويُكثْرُ القِناع، حتى كأن ثوبه ثوبُ زيات". وكان له شيب في صدغَيه؛ وعدَّ أحدهم "أربع عشرة شعرة بيضاء" في شعره؛ و"كان إذا ادَّهنَ رأسُه لم يُرَ منه شيبٌ، فإذا لم يُدهن رؤي منه شيء"؛ فيما قال آخر إنما كان شيبه "نحوًا من عشرين شعرة بيضاء". بينما يفيد آخر أن شعره قد "علاه الشيب"، وأن "شيبه أحمر"؛ فيما يرى غيره أن هناك "شعرات" وحسب من الشيب في "مفرق رأسه"، و"إذا ادَّهن واراهن الدهن". أما أبو عيسى فقال : "هذا أحسن شيء روي في هذا الباب وأفسرُ؛ لأن الروايات الصحيحة أن النبي (صلعم) لم يبلغ الشيب". أما أبو هريرة فقد أكد خضاب الرسول؛ وهو ما يؤكده غير قول...

وزعمَ بعضُهم أنه كان للرسول "مكحلة يكتحل منها كل ليلة، ثلاثة في هذه وثلاثة في هذه"؛ وهو ما نُقل عن ابن عباس أيضًا. وكان أحبّ الثياب إلى الرسول : القميص؛ وكان كمُّ قميصه يبلغ "الرُّسغ"؛ وكان "يتوشح" بـ"ثوب قطري" (أي : من قطر)؛ ومما يُحبه "الحِبْرة"؛ ومما لبسَه "حلة حمراء"، و"بردان أخضران"، و"مِرْط من شَعر أسود"، و"جبَّة رومية ضيقة الكمَّين" وغيرها.

انبنتْ أقوال الترمذي، في وصف الرسول، على الأحاديث النبوية، وهو ما تضمَّنه بعدد أكبر منها كتاب الحسين بن مسعود البغوي (432 هـ-516 هـ) : "الأنوار في شمائل النبي المختار"، الذي ضم ألفًا ومئتين وسبعة وخمسين حديثًا نبويًّا، موزعة على مئة واثنين من الأبواب، ومذكورة بأسانيدها المتصلة من المؤلف إلى النبي. من هذه الأبواب ما اختص بالشمائل الشريفة، وفي صفة لباسه، وذكرِ قميصه وجبّته وإزاره، وفي ذكر رمحه وسيفه وقوسه ونبله، وفي ذكر طعامه وإدامه وما كان يحب منه، وفي ذكر سفره واستقباله ورجوعه، وفي مرضه ووفاته وغيرها.

يُنبه البغوي، في مستهل كتابه، إلى عظمة ما يقوم به، وصعوبته بالتالي. إذ كيف له أن "يصف" ما هو بعيد المنال : "على أن مقام رسول الله (صلعم) أبعد من أن يُنال، وأعلى من أن يُدرك، وأخلاقه وشمائله أعظم من أن تُوصف، وأجلُّ وأكثرُ من أن يُحاط بها". وهو قولٌ يُظهر أن الانصراف إلى "الوصف" مسبوقً في وصفه، إذ إن "عظمة" ما آلت إليه صورة الرسول لدى مسلمين ومسلمين، ومنهم البغوي نفسه، باتت صورة علوية، مثالية، لا يصحُّ فيها الوصف الإنساني، وإن كان للوصف أن يتناول الرسول في جسمانيته وأفعاله.


لو توقفتُ أمام أبواب هذا الكتاب، لوقعنا على أحاديث في : شعره وشيبه، وسروره وضحكه ومزاحه، وفعلِه عند العطاس، وحيائِه وصفة كلامه وصمته، وصفة مَشْيه، وصفة جلوسه واتكائه، وصفة نومه، وصفة وضوئه وغسله، وما كان يفعله قبل الوضوء والغسل، وفي استطابته، وسواكه وتيامنه، ولباسه وذكر قميصه وجبته وإزاره وردائه وبردته، ولبسه الصوف، وعمامته وقلنسوته، وتقنعه، وخاتمه، وخفة خِفِّه ونعله، وفراشه ووساده ولحافه وقطيفته، وحمزته وحصيره، ومنبره وكرسيه وسريره، وقبته، وعنزته وحَرْبته وعصاه وقضيبه، ورمحه وسيفه وقوسه ونبله، ومِغْفره ودرعه والترس، ورايته ولوائه، وشعاره في الحرب، وخيله وسرجه، وبغلته وحماره، وناقته، وأكله، وطعامه وإدامه وما كان يحب منه، وأكله التمر والفواكه، وشربه وسقيه غيره، وشرابه وما كان يحب منه، واستعذاب الماء، وقدحه وصحفته، وقوله عند الفراغ من الأكل ودعائه للمضيف، وضيافته ووليمته، ونكاحه ومعاشرته وحبه للنساء، وتطيبه ومحبته للطيب، وترجيله الشعر وتعهده وتدهنه، ومشطه ومرآته ومدراه، واكتحاله، وحجامته وأخذه شعره وظفره، وسفره واستقباله ورجوعه، ومرضه ووصيته ووفاته وسنه، وتركته وغيرها.


(الصورة : الرسول، في مخطوط عثماني، في القرن السابع عشر).

عن الفايسبوك

Tags:

إرسال تعليق

0تعليقات

إرسال تعليق (0)