علي بدر* حينما سافرت من شنغهاي للقاء إي كاي الروائي الصيني الذي يعيش في إحدى القرى البعيدة في الصين الغربي، فوجئت بمنظر المباصق في الحافلة،...
علي بدر*
حينما سافرت من شنغهاي للقاء إي كاي الروائي الصيني الذي يعيش في إحدى القرى البعيدة في الصين الغربي، فوجئت بمنظر المباصق في الحافلة، وهي حافلة كبيرة ومبردة يصعد فيها المزارعون وسكان القرى تنقلهم من شنغهاي إلى القرى المترامية الأطراف في امبراطورية تاريخية عمرها 4000 عام، أقدم حضارة متعلمة، قامت بأكبر الاختراعات في التاريخ: البوصلة، البارود، الطباعة، البورسلين، الجسور، السفن...الخ لكنها بقيت إلى اليوم غامضة لعدد كبير منا. كان مشهد المبصقة مقززا فعلا، شيء أشبه بالطاسة العريضة يقوم المسافرون في البصق بها، وهي تترجرج أمامك طوال الطريق. كان تقززي مريعاً غير أني كتمته، لكني بحثت عنه فيما بعد في عدد من الروايات الصينية، وإن كنت وجدته كمشاهد عرضية، لكن بمحض المصادفة وجدت أن هذه العادة كانت قائمة في الولايات المتحدة الأميركية إلى عهد قريب.
بدأت عادة البصاق في أمريكا نتيجة لعادة مضغ التبغ والتي كانت منتشرة على نطاق واسع فيها حتى عهد قريب. كانت هذه العادة محل استياء من قبل المثقفين الأوروبيين الذين رأوها شائعة في البداية بين البحارة كما تورد ذلك رواية ذئب البحار لجاك لندن في سبيل المثال، وبالرغم من افتخار البحار وولف لارسن بها إلا أنها أكسبت الأمريكيين سمعة سيئة. ومن هنا ندرك أن ما يقرب من نصف التبغ في الولايات المتحدة كان يستهلك عبر المضغ كما يقول داني ريبرك، فقد تطورت زراعة التبغ المخصص للمضغ بسرعة في الولايات المتحدة منذ عشرينيات القرن التاسع عشر بمساعدة الأنظمة الصناعية الجديدة لمعالجة التبغ، لا سيما في فرجينيا وكارولينا الشمالية. وتحولت إلى صناعة ضخمة بعد ان كانت تنتج عبر منتجين صغار.
لكن ما هي التكاليف الاجتماعية لهذه العادة المقرفة؟
لقد أدى مضغ التبغ إلى ظهور وباء كاسح من بصق الرجال في الأماكن العامة، وضحته روايات القرن التاسع عشر بشكل تلميحي. فالتدخين ينطوي على درجة ملحوظة من السعال والبلغم لكن مضغ التبغ يؤدى إلى وباء حقيقي من البصاق كما يقول مارك توين. لذلك تم إدخال المبصقة التي كانت شائعة في أوربا في القرن السابع عشر للتكيف مع عادات البصق لدى المدخنين في أميركا، وأصبحت هذه الأوعية أكثر أهمية مع انتشار مضغ التبغ. وأصبحت المباصق متوفرة في كل مكان.
وأنا أبحث في كتاب عن الإعلانات في أميركا في القرن الثامن عشر، وجدت اعلانا منشورا في عام 1769 ، لأحد عمال ألواح الصفيح في فيلادلفيا بين بضاعته "أواني البراز، وأواني البول في السرير وأواني البصق. وقد أعلن متجر في عام 1772 عن أجهزة في مدينة نيويورك تتضمن قائمة طويلة من العناصر المستوردة بما في ذلك "أحواض البصق" ومن بين مخزون جوزيف ستانسبيري من الأواني الخزفية المستوردة المتوفرة في شارع الحاجيات القديمة أواني بصاق، هذا جعلني أعود إلى زيارة راهب بلجيكي في العام 1776 إلى فيلادليفيا وقد قرأت الكتاب ولكني لم أفهم جملة وردت فيه: أن مدينة فيلادلفيا عام 1776 كانت عبارة عن أواني بصاق زرقاء وبيضاء.
وبعودتي إلى الصحف في تلك الفترة استنتجت أن عادة البصاق قد نمت في أمريكا الشمالية بشكل تدريجي مع التوسع الهائل في الإنتاج الصناعي لتبغ المضغ في القرن التاسع عشر. فالرجال يبصقون رزمًا من التبغ الممضوغ وعصيره أينما كانوا. فأصبح البصاق على الأرض سواء في داخل البيوت أو في الأماكن العامة، وهذه العادة الأمريكية الفوضوية وغير السارة أدت إلى نقاش مطول في الصحافة، فرضت فيما بعد قوانين محلية وقوانين خاصة بالولايات للسيطرة عليها وإيقافها. وقد امتلأت صحف القرن التاسع عشر بتعليقات ساخرة حول هذه الظاهرة فيتساءل مثلاً محرر صحيفة الليبراتور في العام 1874 في مقاله إن كان يمكننا أن نطلق صفة نبيل على رجل يمضغ أو يدخن التبغ بحضور السيدات وينفث أنفاسه الحادة في وجوههن؟
وهنالك مشاهد عديدة عن الرجال الذين يسافرون في عربات القطار كل يوم حيث تنتفخ أفواههم بالتبغ ويظهر عصيره البني حيث يُبصق منه باستمرار وهو لا يلوث الجاكيتات والقمصان فقط ولكنه يلوث السجاد والمقاعد والطاولات. وكانت أزياء النساء في أوائل القرن التاسع عشر الطويلة تلاحقها المشاكل التي أحدثها بصاق التبغ على الأرض. ومما لفت نظري هي مقالة لناقد أدبي لم يكتب اسمه في صحيفة نيويورك تودي كانت مخصصة لرواية لكاتبة اسمها ديزي والتون بقوله "إن فساتين النساء الطويلة جرفت كل الأوساخ والطين في الشوارع والأرصفة، وكانت بمثابة ممسحة لبرك التبغ في كل مكان".
لقد اشتكت النساء اللواتي كن يسافرن في وسائل النقل العام والقوارب البخارية من أن "ماضغي التبغ يغطون الأرضيات باللعاب فتمسحه ثيابهن الطويلة أثناء المسير". وهذه من سخريات همنغواي عن الحياة في القرن التاسع عشر. لكن الحل: إما منع البصاق، أو ارتداء فساتين أقصر، هي ملحوظة وردت في مفكرة مسافر ألماني إلى نيويورك، ومن السهل أن نعثر على العديد من التعليقات العدائية على هذه العادة - وهي علامة أكيدة على الاختلاف بين القارتين.
في تقرير عن مناظرة في الكونجرس عام 1856 وصف صحفي إنكليزي أحد المناظرين بأنه يتكلم ويبصق في مبصقة جيرانه، بل كتب عن العاصمة واشنطن بأنها "المقر الرئيسي للعاب المصبوغ بالتبغ".
وفي قصيدة يبدو أنها شهيرة ذلك الوقت لألبيرت ريتشاردسون يقول فيها
كل شخص تقابله يبصق على الرصيف
يبصق على الأرض
ماذا تسمى هذه العبودية؟
البصاق في الفندق، في البقالة
عصير التبغ يلوث الأرض والسماء
في العام 1835 قررت بالتيمور من أجل الحفاظ على السجادة الجديدة وضع مبصقة في حجرة الاجتماعات. واستمر التقليد حيث لم تستثن منه حتى الكنائس. فقد ذكرت صحيفة نيو أورلينز في عام 1867 أن التعليمات على باب الكنيسة المحلية بترك التبغ عند الباب تعني أن "المصلين يمكنهم الركوع والصلاة دون تشويه ملابسهم من خلال الدخول في برك من عصير التبغ". وهنا شاعت المباصق داخل المحلات التجارية والكنائس والكونجرس والقطارات والقوارب البخارية – وحتى بليموث روك (ذكرت صحيفة فيلادلفيا عام 1867) أن هذه المدينة لم تعد نظيفة وغير لائقة بسبب عادة بيل جريم في بصق عصير التبغ، ورمي التبغ الممضوغ وبقايا مآدب الطعام في الشارع.
ومع ذلك استمرت العادة الأمريكية في مضغ التبغ خلال القرن التاسع عشر، حتى في أواخر عام 1940 عندما أصدر الكونغرس مراسيم وقوانين تحظر البصاق في الأماكن العامة، كما أن نمط استهلاك التبغ في أمريكا الشمالية بتطوير صناعة السيجار والسجائر لاحقًا أديا إلى القضاء على هذه الظاهرة.
(*) روائي عراقي
ليست هناك تعليقات