أنطوان جوكي
لا تضم سلسلة "شعراء من اليوم" الشهيرة لدى دار "سيغير" الفرنسية باستثناء الشاعر المصري الكبير جورج حنين، سوى اسمٍ عربي واحد هو أندريه شديد الشاعرة بالفرنسية. والمثير أن الدراسة التي وضعها الشاعر البلجيكي جاك إيزوار عام 1977 عن شعرها، استُنفِدت نسخها قبل فترة من المكتبات، ما اضطُر دار النشر أخيراً إلى طبعها من جديد بعد قيام إيزوار باستكمال بحثه عن المرحلة الأخيرة والمثمرة من مسار الشاعرة.
يتوقف الشاعر البلجيكي أولاً عند هوية أندريه شديد المتعددة وانتمائها إلى الشرق والغرب معاً، خارج أي ازدواجية مؤلمة. ففي مكان ما تقول: "ليس لدي شعور بانقطاع أو تمزّق ما، وإنما بعالمٍ أكثر التحاماً، لا حدود داخله، وأعتقد بأن الحواجز بين البشر مزيّفة ومختلقة وبأن الأساس هو أرض مشتركة". وتظهر هذه الوحدة منذ دواوينها الأولى، وكانت الشاعرة لا تزال قريبة من مرحلة الصبا تنتظر ملء السعادة وتنشد يقينها بذلك. وفي هذه الدواوين، يلاحظ إيزوار على الفور حساسيتها ازاء النص كنص، ومفهوم كلمة "نص" وبنيته، من خلال الأهمية الجوهرية التي تُعيرها شديد لعملية ولادة القصيدة كانبثاق سحري ولكن بخاصة كعمل حرفي على كل كلمة. وبذلك تكون من بين الشعراء الفرنسيين الأوائل الذين تجرأوا على الإلحاح على مفهوم البنية النصية، كما يبدو ذلك جلياً في عناوين هذه الدواوين: "نصوص لوجه"، "نصوص لقصيدة"، "نصوص للكائن الحَي" و"نصوص للأرض الحبيبة". والمقصود في ذلك تعرية القصيدة من ثوبها الرومانسي، وكأن شديد شعرت منذ بداياتها بضرورة رد الكلمات إلى الكلمات والنظر إليها على أساس متانتها ورسوخها كحبرٍ على الورق. ولا نعجب حين ندرك مدى ثقة الشاعرة بالكتابة، بصقل الكلمات، ورغبتها في معانقة كل شيء، أرضاً وبشراً، بهذه الوسيلة النبيلة. فمشروعها الأول، الذي حققته بمهارة وجرأة يشهد عليهما مسارها الفريد، هو "رواية الحياة".
وفعلاً، منذ ديوانها الأول "نصوص لوجه" 1949، يلاحظ إيزوار كتابة مذهولة بكلماتها الخاصة، وأناشيدها الخاصة، تستشعر كل شيء من خلال نوعٍ من المعرفة الصافية. وستتخلى شديد بسرعة عن غنائية فائضة في النصوص الأولى، فتضبط وترصّ كل كلمة منذ ديوانها الثاني، "نصوص لقصيدة" 1950، ما يترجم ميلها الداخلي وإرادتها في الحضور داخل الطبيعة. ولهذا نجدها فيه تنظر في كل مكان وتصف كل ما يقع تحت أنظارها. وقد يبدو هذا المسعى بسيطاً للغاية، ولكن بتعبيرها عن الأشياء بهذه البساطة تتمكن شديد من عيش هذه الأشياء وإحيائها تحت أنظارنا، بكامل تفاصيلها. وتقدّم في هذا الديوان قصائد قصيرة تقوم ظاهراً على محاصرة وقائع عادية، كالنورَس أو العُلّيق أو البحر أو الجزيرة. لكن وراء نُدرَة كلماتها يتبيّن تأمّلها للنور الخفي داخلها، وتحت اختلاج عباراتها الحيّة تسوَدّ أحياناً رؤيتها ويظهر القلق والشك وألم الفناء. ويجب انتظار ديوانها الثالث "نصوص للكائن الحَي" 1955 كي تواجه الشاعرة الموت وجهاً لوجه. ففي نص "رفيق الساعة الأخيرة"، يهزّنا ذلك النحيب الصافي أمام قدر الإنسان الفاني، والذي تحاول شديد من خلاله فهم هذه الحال والتآلف معها. ولكن من أبحاثها المؤلمة وتأمّلاتها المُرّة، ومن تدفُّق كلماتها بالذات، ينبثق سكونٌ يخفف الألم ويسمح لها بإدراك الصحو.
وتساهم مشاهدتها للموت عن قرب بتصفية نظرتها وبجعلها تتأمّل الواقع بكامل عريه. كما يتبيّن منذ هذا الكتاب قدرة شديد على إهمال ما نأسف عليه عبثاً وتحويل اهتمامها إلى المذهل في كل يوم.
عام 1960، يصدر ديوانها "وحده الوجه"، فيكتب الشاعر الفرنسي إيف بونفوا لها: "يا للوحدة المنعشة التي تعززها الكلمات المختبَرة ويأتي بها الصوت الخفيض والفاتن الذي يقود حقاً إلى الواقع! كما لو أن كلماتك من دون تكبّر تبدد الضجيج المألوف". ويشير بونفوا بدقة عبر هذا القول إلى ما يجعل شعر شديد قريباً منا: حس الواقع، حتى في التفاصيل الزهيدة ظاهراً، وهو يحاذي واقع القصيدة الثاني، ذلك الذي يستقبلنا ويسحرنا لدى كل قراءة جديدة. ويكتب الشاعر الفرنسي الكبير رنيه شار عن هذا الديوان قائلاً: "يتضمن "وحده الوجه" قصائد غير مستقلة كانت حاضرة في "الأنا" المستمرة قبل أن يقرأها الآخرون ونخطّها نحن. كلها قصائد محبوبة في المستقبل". وبهذه الجملة يبيّن شار أهمية هذا الديوان الحسية والعاطفية وحدوده التي تقع بعيداً في الماضي وتغرس في المستقبل رقّة ساطعة. عام 1925، يصدر لها ديوان "بلد مزدوج"، وتبدو قصائده مفتوحة على كل الفرص ويبرز فيها يسر عفوي في التعبير وكتابة أصبحت مألوفة لدى القارئ. وتبرع شديد داخله في تحميل الكلمات ما تتطلّب بدقة من معنى في شكلٍ يهتز فيه القارئ على طريقته ويتلقى تبعاً لمستواه "العسل والنسغ".
نشيد معاكس
وتقوم في ديوانها "نشيد معاكس" 1968 بإظهار الآخر في كل انسان، وهو هدف جلي لديها وأحد وجوه سعيها الطويل في تعرية الكائن. وتعكس هذه الضرورة الجانب الآخر من مشروعها، تأمّلها الفلسفي حول الكتابة وعملية تكوين القصيدة. وتدفعنا الشاعرة في هذا الديوان إلى طرح عدد من الأسئلة، مثل: من يفعل داخل القصيدة؟ هل الشاعر الذي يكتب؟ ألا يُغيّر النص فعل الكتابة، لدى كتابته؟ ألا يُملي النص الذي يُكتَب شروطه على الكاتب؟
في ديوان "وجه أولي" 1972، تقارب الشاعرة من جديد موضوع الوجه كمرآة للإنسان جسداً وروحاً. وكما في دواوينها السابقة، نجدها لا تُهيّئ اكتشافاتها وتعجّباتها وبساطة مفرداتها انطلاقاً من منهج محدد، وإن بدا التمييز بين المقاربة النظرية والوصف المحسوس دقيقاً للغاية وغير واضح في معظم أعمالها الشعرية. وفي هذا الكتاب بالذات، تحاكي شديد القارئ مباشرة وتوجه إليه رسائل سلام وحنان، وفي الوقت ذاته تبقى حريصة جداً على محاصرة مفهوم القصيدة وتحديد عملية خلقها. ففي القسم الثاني منه، تُحرِّر نحو ثمانين مقطعاً تحاول من خلالها تحديد عملها الشعري وقول ما تمثّل القصيدة بالنسبة إليها: "أيها الشعر/ تقودنا/ إلى جوهر العالم". ولا بد من الإشارة هنا إلى كتابها "أرض وشعر" الذي يتألف من ملاحظات وتأملات حول ولادة القصيدة، كتبتها بين عامَي 1955 و1965.
وقصيدة شديد، وإن حافظت على تقليدٍ شكلي في ظاهرها، تتضمن غلياناً وتمرّداً لا يظهران إلا للمتمعّن في قراءتها. فالشاعرة هي على خلاف الكاتب المعزول في برجه العاجي وداخل أعماله الشعرية. فهي تسافر طوال حياتها وتلتقي بشعراء آخرين وتلبي دعوات الشعراء الشبان وتنشر القصائد والنصوص في الكثير من المجلات الشعرية. ومن هذا النشاط تغذي فضولها الذي لا ينضب. وممارسة الشعر لديها تطغى على الجهد النقدي الذي لا يظهر إلا في كتاب "أرض وشعر" وفي شكل متقطّع. وهذا يدل على انعدام هاجس مراقبة الشعر لديها ورغبتها في صوغ الكلمات من داخل جسد القصيدة فحسب، ما يؤدي إلى قصيدة معاشة، مُستشعَرة يوماً بعد يوم ومنبهرة. ويعتبر إيزوار ديوان "اتخاذ جسد" قصيدةً عن ولادة الشاعرة الثانية، عن سيرورة مجيئها الطويل والمدهش والمؤلم إلى العالم: "بالعنف/ في الجروح/ تأتي".
لكن شعر شديد لن يلبث أن يتخلى عن رقّته أو حنوّه ليواجه البداهة المؤلمة. ففي ديوانها "تآخٍ في الكلمة" 1975، ترى الشاعرة في الكلمات أدواتٍ بائسة أمام ما يحيط بنا وما نحن عليه: "ما فائدة الكلمات/ أمام الموت المحتم". ولكن داخل هذا الديوان، تفضي الأسئلة المتعلقة بالجسد والحياة والموت إلى نصٍ رائع عنوانه "من عمرٍ واحد"، تستقبل شديد فيه ميولاً ورغبات وأصواتاً، وتبدو البشرية جمعاء قريبة منها. وهذا الاندفاع نحو الآخرين يُحْييها ويفتنها: "البارحة وغداً/ هما من عمرٍ واحد". وبين ارتفاعٍ وسقوطٍ، بين انسياخ وتوهّجٍ، تصرّ نصوص هذا الكتاب على شق طريق التشابهات وإحصاء براهين اشتراكنا في أرضٍ واحدة وكشف آثار تآخينا. لكن حرب لبنان لن تلبث أن تفاجئها، فتُصدر عام 1976 ديوان "طقوس العنف"، وهو كناية عن صرخة عميقة تنسج الألم والثورة داخله قصيدة ذات حدّةٍ لم نعهدها في دواوينها السابقة. وإذ تفقد كلماتها فجأةً براءتها ورقّتها لتظهر مثقلة بالرصاص والغضب والإحباط، تبدو قصائدها مثيرة للسخرية بالنسبة إليها. إذ ما نفع الكتابة حين تخرّب الحرب كل شيء وتمزّق البشر والحجر؟ وخلف هذه القصائد، يتراءى لنا تاريخ زمننا ككل. فمن خلال حرب لبنان، تعبّر شديد بقوة عن رفضها لكل أعمال العنف في العالم. ومن عمق انفعالها كامرأة نجدها تتطلّع بجرأة نحو المستقبل آملةً منه إزالة الخيبة الراهنة. فكلماتها الأخيرة في هذا الكتاب تقول: "لتأسيس الغد/ استقبل على طاولة مفتوحة/ أطفالك مجموعين".
بعد هذا الديوان، تتوقف شديد عن كتابة الشعر، كما لو أن فظائع حرب لبنان جرّدتها من صوتها الغنائي. ويجب انتظار سنوات عدة بعد نهاية هذه الحرب كي تعود إلى الشعر من جديد، فتُصدر خمسة دواوين، هي: "ما وراء الكلمات" 1995، "الحديقة المفقودة" 1997، "أراضي النفَس" 1999، "يبقى القلب" 1999 و"إيقاعات 2003، وأوّل ما يستوقف إيزوار في هذه الدواوين هو تغيّر نبرتها وتنوّعها، في ما وراء الكلمات، كما تشير بنفسها. فمن العنصر البسيط والخاص والدقيق منذ 1950، حين كانت تصوّر طيور النورس والعلّيق والحدائق وتخاطب الأزهار والبحر والثلج، تنتقل شديد تدريجاً إلى التساؤلات الوجودية في نصوصها الحديثة التي تتميّز بصوتٍ غني ومضبوط تنقى داخله عبقريتها ولغتها، وبنظرة يقظة ومشحوذة تتفحّص بدقة واقعنا اليومي، من دون تجميلٍ أو تهويل.
ويدهش إيزوار التواصل بين أعمالها الشعرية القديمة والحديثة على المستويين الشكلي والمعنوي، وكأنها جسدٌ واحد يتنفّس وينام ويستيقظ ويسير نحو أراضٍ مجهولة. وإن أشارت قصائدها إلى أحداث أو مآسي عصرنا، إلا أنها تتمكّن دائماً من الخروج من الرتابة اليومية البائسة لمنح ذاتها حضوراً متجدداً. فما وراء العذابات المحتومة والموت السائر بمكر، عرفت شديد كيف تخلق فضاء حرية خاصاً بها: فضاء قصيدة تسيل كالمياه الجارية. وما يمنح أعمالها طابعاً راهناً، هو في النهاية ذلك التراث الرهيف بين شرقٍ وغرب الذي نستشعره فيها. ولعل الشاعرة لا تبحث، بحسب إيزوار، إلا عن هويتها الأساسية. فطوال مسارها الشعري، يظهر هاجس التعريف عن ذاتها. وفي ديوانها الأخير تقول بلا مواربة: "أنا متعددة/ أنا واحدة/ أنا من هناك/ أنا من هنا".
نشر في الحياة يوم 06 - 08 - 2004