Page Nav

HIDE

Grid

GRID_STYLE

اخبار عاجلة

latest

حياة عارية وبربرية بوجه إنساني: جدل “كورونا” بين أغامبين وجيجيك

  ترجمة: سولارا شيحا إعداد وتقديم: محمد سامي الكيال كتب الفيلسوف الإيطالي الشهير “جورجيو أغامبين” مقالة قصيرة آواخر شهر شباط/فبر...


ترجمة: سولارا شيحا
إعداد وتقديم: محمد سامي الكيال
كتب الفيلسوف الإيطالي الشهير “جورجيو أغامبين” مقالة قصيرة آواخر شهر شباط/فبراير الماضي، ينتقد فيها اجراءات الحكومة الإيطالية في مواجهة انتشار فيروس “كورونا”، ويرى أنها تعميم لـ”حالة الاستثناء”، لتصبح وضعاً طبيعياً يحدّ من حريات وحقوق البشر، وهو بحسبه ميل واضح لدى السلطات في عصرنا.
مقالة أغامبين جاءت في وقت مبكر، قبل ظهور التداعيات الكارثية لتفشي الوباء في إيطاليا، وأثارت كثيراً من الردود والانتقادات، لعل أكثرها أهمية مقالتان كتبهما المفكر السلوفيني “سلافوي جيجيك”، ينتقد فيهما ميل جانب من اليسار إلى “نموذج اختزالي”، يعتبر كل الظواهر بناءً اجتماعياً مرتبطاً بتقنيات السلطة والتطويع، وهو نموذج تم تعميمه فكرياً منذ آواخر الستينيات، بفضل كتابات المفكر الفرنسي “ميشيل فوكو”، ويُعتبر أغامبين أبرز ممثليه المعاصرين. يؤكد جيجيك أن هذا المنظور عاجز عن تحديد الفروقات والتمايزات الدقيقة في عمل وتدخلات السلطة. “كورونا” أدى إلى أشكال جديدة من التضامن الاجتماعي والدولي، كما طرح  مسألة التحكم بفائض القوة التي تملكها الدول الحديثة. العالم، بحسب جيجيك، قد يكون على أعتاب ثورة فكرية وسياسية بسبب التغيرات التي فرضها الوباء. وهو ما لن يستطيع المتمسكون بالنماذج اليسارية التقليدية إدراكه.
أغامبين من جهته كتب مقالة ثانية، رد فيها بشكل غير مباشر على منتقديه، متحدثاً عن قيام السلطة بردّنا إلى وضعية “الحياة العارية”، وإلغاء “جيرتنا الإنسانية”، عن طريق إجراءات العزل والحظر والإغلاق. وحذّر من تطبيع هذه الاجراءات الاستثنائية، فمثلما خلّفت الحروب تقنيات سلطوية ثقيلة، ظلت مستمرة في أوقات السلم، يمكن أن يستمر “الاستثناء” الذي أدى إليه انتشار “كورونا” حتى بعد انتهاء حالة الطوارئ الصحية.
ردود جيجيك لم تتوقف، أعلن من جديد “اتخاذ مسافة” من آراء أغامبين، فالتضامن اليوم بحسبه لا يكون باستمرار “الجيرة الإنسانية” كما نعرفها، بل ربما كان التباعد والانفصال بين البشر، رغم كل ما يسببه من ألم، الشكل الأسمى والأكثر رقياً للتعاضد الاجتماعي. وتحدّث عن نمط ما من “الاشتراكية الاضطرارية”، التي لم يستطع حتى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تجنّبها، فقد اقترح الأخير مشروع قانون “تولي مسؤولية إدارة القطاع الخاص” لمواجهة الأزمة وتبعاتها الاقتصادية. هذه الاجراءات، كما يرى جيجيك، قد تصبح حتمية، وهي تشبه “شيوعية الحرب”، أي النمط الاضطراري من التنظيم الاقتصادي والاجتماعي الذي عرفته روسيا في فترة الثورة البلشفية والحرب الأهلية. السؤال الآن: لمصلحة من ستكون هذه “الاشتراكية”، الفئات الأغنى كما حدث في الأزمة المالية عام 2008، عندما صيغت خطط الانقاذ الحكومية لمساندة المؤسسات المالية الكبرى، أم عموم المجتمع، الذي سيدفع الثمن الأكبر في مواجهة الوباء؟
يبدو أن الوباء ستكون له آثار كبيرة على الفلسفة السياسية المعاصرة، فهو يضع كثيراً من نظرياتها أمام اختبار عملي: هل أصبح النموذج النظري عن عمل السلطة الحيوية مُتجاوزاً فعلاً كما يرى جيجيك؟ أم أن “الثورة الفلسفية”، التي يبشّر بها في وعينا لذواتنا، وعلاقتنا مع بيئتنا وظروفنا الاجتماعية، ليست أكثر من تصور طوباوي؟ إلى أي مدى يُغفل أغامبين الوقائع الموضوعية بإصراره على المنهج البنائي في التفكير، وهو المنهج الذي يعتبر ما يحسبه البعض “طبيعياً” بناءات اجتماعية متعلقة بتقنيات السلطة والمعرفة؟ قد تعطينا الأشهر والسنوات القادمة بعض الأجوبة، ولكنها بالتأكيد ستكون أجوبة قابلة للتأويل، ما سيفتح مجالاً لمزيد من الجدل، وتعديل النماذج الفكرية القائمة.
فيما يلي ترجمة لمقالة جورجيو أغامبين الثانية، التي نُشرت ترجمتها الألمانية في جريدة NZZ السويسرية، تليها ترجمة مقالة سلافوي جيجيك المنشورة مؤخراً في صحيفة Die Welt الألمانية.

جورجيو أغامبين: لسنا أكثر من حياة عارية
لايكتفي الفيروس بإصابة الأفراد فحسب، وإنما يمتدّ ليصيب كامل المجتمع. ها نحن نعتاد على حالة طوارئ لا نهاية قريبة لها. فما الذي سيترتب على ذلك؟
الخوف مستشار سيء، إلا أنه يكشف كثيراً من الأمور التي يود المرء تجاهلها عادةً. أول ما كشفته موجة الذعر التي أصابت إيطاليا بالشلل هو أن مجتمعنا لم يعد يؤمن إلا بالحياة العارية. وبات جلياً أن الإيطاليين تفادياً لالتقاط العدوى، مستعدون عملياً للتضحية بكل شيء: ظروف الحياة الطبيعية، العلاقات الاجتماعية والعمل، وحتى الصداقات والعواطف والقناعات الدينية والسياسية. ليست الحياة العارية، والخوف من فقدانها، أمراً يوحّد البشر ويجمعهم، بل يفرّق بينهم ويصيبهم بالعمى.

القيمة الوحيدة: البقاء
كما الحال في رواية ألساندرو مانزوني “المخطوبون”، التي تصف الطاعون الكبير الذي أصاب مدينة ميلان، يُنظر فجأة للآخرين على أنهم مجرّد ناشرين مُحتَمَلين للفيروس، يجب تجنّبهم بأي ثمن، والابتعاد عنهم مسافة أمان لا تقلّ عن متر. وليس للموتى، مَوتانا، الحق في جنازة، ومن غير الواضح بعد ماسيحل بجثث أحبابنا. مُحيَت الجيرة الإنسانية، ومن الغريب أن تلتزم الكنيسة الصمت حيال ذلك.
ماذا سيحلُّ بالعلاقات الإنسانية، في بلد اعتاد العيش بهذه الطريقة لفترة لا أحد يعرف لها نهاية؟ وماهذا المجتمع المتجرّد من كل القيم عدا محاولته البقاء؟
يكشف الوباء حقيقة ثانية ليست أقل إثارة للقلق: حالة الاستثناء، التي حرصت الحكومات أن نعتادها منذ بعض الوقت، تحوّلت فعلاً إلى الوضع الطبيعي الجديد. لقد انتشرت أوبئة أكثر خطورة في الماضي، ولكن أحداً لم يفكر وقتها في إعلان حالة طوارئ، مثل التي نشهدها اليوم، تعيقنا حتى عن التحرك بحرية.

إنها الحرب
اعتاد الناس العيش تحت وطأة الأزمة وحالة الطوارئ الدائمة. ولا يبدو أنهم لاحظوا أن حياتهم اختزلت إلى وظيفتها البيولوجية فقط، وخسرت بذلك ليس بعدها الاجتماعي أو السياسي فحسب، وإنما الإنساني والعاطفي أيضاً. لا يمكن لمجتمع يعيش حالة استثناء دائمة أن يكون مجتمعاً حراً. نحن نعيش فعلاً في مجتمع ضحّى بالحرية في سبيل مايسمى “دواعٍ أمنية”، وحكم بذلك على نفسه بالحياة في ظل حالة دائمة من الخوف وانعدام الأمن.
ليس غريباً أن يذكر المرء الحرب عندما يتعلق الأمر بالفيروس، تجبرنا تدابير الطوارئ في الواقع على العيش تحت قوانين حظر التجول. إلا أن حرباً مع عدو لامرئي، عدو يمكنه أن يعشش داخل كلٍّ منّا، هي الأكثر عبثية بين كل الحروب، إنها في الحقيقة حرب أهلية. العدو ليس في الخارج وإنما يكمن داخلنا.
ما يُثير القلق ليس الحاضر بالدرجة الأولى، أو ليس الحاضر فقط، وإنما ما يحمله المستقبل. مثلما تُخَلِّفُ الحروب لأوقات السلم سلسة من التقنيات المشؤومة، فمن المرجح أيضاً استمرار التجارب والإجراءات الناتجة عن الأزمة الصحية الطارئة، والتي لم تكن الحكومات من قبل قادرةً على فرضها. سواء تمثلت بإغلاق الجامعات والمدارس، وإعطاء المحاضرات والدروس حصراً عن طريق الانترنت، أو حظر التجمّعات واللقاءات لنقاش أي موضوع، سياسياً كان أم ثقافياً، أو إلزامنا بالرسائل الالكترونية وسيلة تواصل وحيدة فيما بيننا، وجعل الآلة بديلاً لكل لقاء-عدوى بين الناس.

سلافوي جيجيك: بربرية بوجه إنساني
أجد نفسي مؤخراً راغباً بالإصابة بالفيروس، سأتخلّص وقتها على الأقل من حالة الارتياب المنهكة التي أعيشها. علاقتي بالنوم تشكّل هي الأخرى علامة واضحة على قلقي المتزايد. قبل حوالي أسبوع، كنت انتظر المساء بلهفة: وأخيراً!  يمكنني الهرب إلى عالم الأحلام وترك كل مخاوف حياتي اليومية خلفي. والآن، على العكس تماماً، أخشى النوم لأن الكوابيس تلاحقني ليلاً وتوقظني مذعوراً، كوابيس عن الواقع الذي ينتظرني.
عن أي واقع أتكلم؟ نسمع كثيراً هذه الأيام عن حاجتنا الماسة لتغيّرات اجتماعية راديكالية، في حال أردنا حقاً التعامل مع تبعات الوباء الحالي (وأنا من الذين يروّجون لهذا)، إلا أن تغييرات جذرية تحدث بالفعل. يواجهنا فيروس “كورونا” اليوم بما اعتبرناه مستحيلاً: لم نكن لنتخيل أبداً هذا الانقلاب الذي شهدته حياتنا اليومية.
توقف العالم الذي عرفناه عن الدوران، بلدان بأكملها مغلقة بالكامل، وكثيرون منّا محتجزون في منازلهم (عدا عن أولئك المحرومين حتى من هذا الحد الأدنى من الوقاية). نجد أنفسنا في مواجهة مستقبل غامض، وحتى في حال نجاة معظمنا، ستبقى الأزمة الاقتصادية الهائلة تلوح في الأفق.
كل هذا يعني أن رد فعلنا يجب أن يحقق المستحيل هو الآخر: ما يبدو غير ممكن ضمن إحداثيات النظام العالمي الحالي.
المستحيل قد حدث بالفعل، وعالمنا توقف عن الدوران، والمستحيل هو بالضبط ماعلينا تحقيقه لتفادي الأسوأ: ما هو الأسوأ؟
لا أعتقد أن التهديد الأكبر يتمثل بانتكاسة إلى بربرية صريحة أو صراع وحشي على البقاءـ بما يرافقه من اضطرابات عامة، وإعدامات ميدانية مذعورة، إلخ (بالرغم من امكانية حصول شيء شبيه في حال انهيار النظام الصحي وغيره من الخدمات العامة). ما أخشاه أكثر من الوحشية الصريحة هو البربرية بوجه إنساني: إجراءات قاسية لحفظ البقاء، تُطبّق بشيء من الأسف وحتى التعاطف، ولكنها تستمد شرعيتها من آراء الخبراء.
يمكن لمراقب يقظ أن يلحظ بسهولة تبدّل نبرة من هم في السلطة أثناء مخاطبتهم لنا: لا يحاولون فقط إظهار الهدوء والثقة، وإنما يتفوّهون باستمرار بتنبؤات مرعبة: من الوارد استمرار أزمة الوباء لعامين، وسيصيب الفيروس في المحصلة من ٦٠ إلى ٧٠ بالمئة من سكان الكوكب، حاصداً ملايين الأرواح.
باختصار، رسالتهم الحقيقية هي وجوب بتر وتقليص الفرضية الأساسية لأخلاقنا الاجتماعية: رعاية المسنين والضعفاء (أعلنت إيطاليا فعلاً عن إمكانية حرمان المصابين بأمراض عضال، والمسنين الذين تجاوزوا الثمانين، من الرعاية الصحية في حال تفاقم الوضع، أي سيُتركون ببساطة للموت).
يمكننا ملاحظة كيف ينتهك قبول منطق “البقاء للأقوى” المذكور أبسط مبادئ الأخلاق العسكرية، والتي تنصّ، بعد المعركة، على وجوب معالجة المصابين بجروح خطيرة أولاً، حتى لو كانت فرص نجاتهم ضئيلة (إلا أن نظرة أقرب تقلّص المفاجأة، فلطالما تصرّفت المستشفيات بذات الطريقة مع مرضى السرطان).
لتجنّب سوء الفهم، أنا واقعي تماماً هنا، يجب برأيي حتى تأمين أدوية تساعد على موتٍ دون ألم للمرضى الميؤوس من شفائهم، لتجنيبهم المعاناة غير الضرورية. ولكن عوضاً عن التوفير والاقتصاد، يجب أن يكون هدفنا الأول تقديم المساعدة غير المشروطة للمحتاجين لضمان نجاتهم، وبغض النظر عن التكاليف.
لذا اختلف، بكل احترام، مع جورجيو أغامبين، الذي يرى في الأزمة الجارية علامةً على أن: «مجتمعنا لم يعد يؤمن إلا بالحياة العارية. وبات جلياً أن الإيطاليين، تفادياً لإلتقاط العدوى، مستعدون عملياً للتضحية بكل شيء: ظروف الحياة الطبيعية، والعلاقات الاجتماعية والعمل، وحتى الصداقات والعواطف والقناعات الدينية والسياسية. ليست الحياة العارية، والخوف من فقدانها ـ أمراً يوحّد البشر ويجمعهم، بل أمراً يفرّق بينهم ويصيبهم بالعمى». إلا أن الوضع أكثر غموضاً بكثير: إنها تقوم بتوحيدهم أيضاً! ترك مسافة أمان، والبُعد الجسدي، هو أيضاً نوعٌ من ابداء الاحترام للآخرين، فقد أكون أنا نفسي حاملاً للفيروس. يتجنّب ولديَّ لقائي هذه الأيام، لخشيتهما إصابتي بالعدوى (المرض قد يكون عابراً في حالتهما ومميتاً في حالتي).
نسمع مؤخراً مراراً وتكراراً أن كلّ فرد منا مسؤولٌ شخصياً، ويتوجب عليه التقيّد بالقوانين والقواعد الجديدة. وتعجّ وسائل الإعلام بأخبار عن أناس أساءوا التصرّف، وعرّضوا أنفسهم والآخرين للخطر (دخل رجل إلى سوبرماركت وبدأ بالسعال، وما إلى ذلك). المشكلة هنا شبيهة بتناول وسائل الإعلام للقضايا البيئية من منظار المسؤولية الفردية (هل قمتَ بإعادة تدوير جميع الصحف والمجلات القديمة؟ الخ). التركيز على المسؤولية الفردية، بالرغم من أهميته، يتحوّل لأيديولوجيا بمجرّد أن يشرع بالتعتيم وتوجيه الاهتمام بعيداً عن السؤال الكبير حول كيفية تغيير النظام الاقتصادي والاجتماعي. لا يمكن خوض المعركة ضد كورونا إلا يداً بيد مع النضال ضد التهويمات الأيديولوجية، وباعتبار هذه المعركة جزءاً لا يتجزأ من النضال البيئي الأوسع. تخبرنا” كيت جونز” أن انتقال الأمراض من الحيوانات البرية إلى الإنسان هو «الثمن الخفي للتنمية الاقتصادية البشرية. أعدادنا كبيرة في كل مكان، ننتشر في بقاع كانت إلى حد ما غير مضّطربة، ونعرّض نفسنا للخطر أكثر وأكثر. نقوم بخلق مواطن ملائمة لانتقال سلس للفيروسات، ومن ثم نصاب بالذهول عندما تنشأ فيروسات جديدة».
لذا لا يكفي تنظيم نوع ما من الرعاية الصحية العالمية للبشر، بل يجب أخذ الطبيعة بعين الاعتبار: تهاجم الفيروسات النباتات أيضاً، التي تشكّل مورد الغذاء الرئيسي لنا، مثل البطاطا والقمح والزيتون. علينا التفكير بالصورة الكبيرة لعالمنا، بكل ماتحتويه من مفارقات وتناقضات.
من المهم، على سبيل المثال، معرفة أن الإغلاق العام في الصين، جرّاء فيروس كورونا، أنقذ أرواحاً أكثر من عدد ضحايا الفيروس نفسه (في حال صدّقنا الإحصائيات الرسمية لعدد الضحايا): يقول “مارشال بوركه”، اقتصادي الموارد البيئية، إن هناك علاقة مؤكدة بين تلوّث الهواء والوفيات المبكرة نتيجة التعرض لهذا التلوّث. «عند أخذ هذا العامل بعين الاعتبار، فمن الطبيعي، مع الاعتراف بغرابة الأمر، أن نتساءل ما إذا كانت الأرواح التي ينقذها هبوط مستويات التلوث، بعد عرقلة الاقتصاد جراء كوفيد-١٩،  تتجاوز عدد ضحايا الفيروس نفسه؟ حتى في ظل فرضيات محافظة للغاية، أعتقد أن الجواب هو “نعم” مدوّية». خلال شهرين فقط، يجزم بوركه أن هبوط مستويات التلوث أنقذ حياة أربعة آلاف طفل دون سن الخامسة، وحياة ثلاثة وسبعين ألف مسن، فوق عمر السبعين، في الصين وحدها.
نجد أنفسنا في مواجهة أزمة ثلاثية الأبعاد: بُعدٌ طبي (انتشار الوباء)، بُعدٌ اقتصادي له تبعات قاسية بمعزل عن نتيجة الوباء، إضافةً لأزمة صحة عقلية علينا عدم الاستهانة بها. تتفكك الإحداثيات الأساسية لعالم وحيوات الملايين من الناس، وسيرمي هذا بثقله على كل شيء، من الطيران في الإجازات والعطل إلى تواصلنا الجسدي اليومي. علينا التفكير خارج إحداثيات سوق الأسهم والربح، وإيجاد طريقة أخرى لإنتاج وتقسيم الموارد اللازمة. في حال دراية السلطات، على سبيل المثال، بأن شركةً ما تقوم بحجز الملايين من الأقنعة الطبية، منتظرة اللحظة المناسبة لبيعها، يجب ألا يتم التفاوض مع الشركة المذكورة، يجب ببساطة مصادرة الأقنعة.
أفادت وسائل الإعلام أن ترامب قدّم عرضاً بقيمة مليار دولار أمريكي لشركة الأدوية الحيوية الألمانية” CureVac”، بغرض تطوير اللقاح للولايات المتحدة بشكل حصري. صرّح ينس شبان، وزير الصحة الألماني، أن محاولة إدارة ترامب احتكار الشركة أمر مرفوضٌ كلياً وغير قابل للنقاش: «”CureVac” ستستمر بمحاولة تطوير لقاح لكل العالم، وليس لبلدان بعينها دون غيرها». نرى هنا مثالاً نموذجياً عن الصراع بين البربرية والحضارة.
إلا أن ترامب ذاته اضطر إلى الاستعانة بقانون “الإنتاج الدفاعي”، الذي سيتيح للحكومة ضمان استجابة القطاع الخاص لإنتاج المعدات الطبية الطارئة بالكميات الضرورية: «أعلن دونالد ترامب عن اقتراح قانون لتولي القطاع الخاص. الرئيس الأمريكي صرّح بأنه سيلجأ إلى بند فيدرالي يتيح للحكومة قيادة وتنظيم القطاع الخاص استجابة للأزمة الوبائية» حسب تقرير وكالة “أسوسشيتد برس” ،و«صرّح ترامب بأنه سيوقع على قانون يمنحه سلطة التحكم بالإنتاج الصناعي المحلي وتوجيهه، في حال استلزم الأمر».
عندما استخدمتُ مصطلح “شيوعية” قبل عدة أسابيع، تعرّضتُ للسخرية، ولكن، هاهو ترامب يُعلِن «عن اقتراح قانون لتولي القطاع الخاص»، هل كان بإمكان أحد تخيل عنوانٍ كهذا قبل أسبوع فقط؟ وما هذه سوى البداية، سيتوجب علينا اتخاذ المزيد من التدابير المشابهة في الفترة القادمة. أضافةً لما سبق، يجب التنبيه لضرورة التنظيم الذاتي المحلي للمجتمعات، في حال تعرّض النظام الصحي العام لضغط شديد.
ليس الانعزال لأجل النجاة كافياً، كي تنجح محاولات العزل يجب أن تعمل الإمدادات والخدمات العامة الأساسية بنجاح: الكهرباء، الغذاء والأدوية (سنحتاج عمّا قريب لقائمة بالمتعافين، الذين شكّلوا مناعة ولو مؤقتة ضد الفيروس، بغرض حشدهم للعمل العام العاجل).
هذه ليست تصورات عن شيوعية مثالية، وإنما عن شيوعية تفرضها ضرورات البقاء العاري. إنها للأسف، نسخة مما كان يُعرف عام ١٩١٨ في الإتحاد السوفييتي السابق بـ”شيوعية الحرب”.
«في الأزمات كلنا اشتراكيون»، حتى ترامب يفكّر  بتطبيق نوع من الدخل الأساسي غير المشروط: شيك بمبلغ ألف دولار لكل مواطن بالغ.
سيتم إنفاق تريليونات الدولارات، في انتهاك صريح لكل قوانين السوق، والسؤال الملح: كيف؟ من أين؟ ولمصلحة من؟
هل ستكون هذه الاشتراكية الاضطرارية اشتراكيةً للأغنياء؟ (لنتذكر خطة إنقاذ البنوك في الأزمة المالية عام ٢٠٠٨، في حين خسر ملايين الناس مدّخراتهم الصغيرة)، هل ستُختَزل موجة الوباء هذه إلى فصل جديد في الرواية الطويلة التي أطلقت عليها “ناعومي كلاين” مصطلح «رأسمالية الكوارث»؟ أم سينشأ نظام عالمي جديد، أكثر تواضعاً ربما، ولكن أكثر توازناً؟

ليست هناك تعليقات