ما الذي سوف يُولَد؟

alrumi.com
By -
0


جاك أتَّالي 
ترجمة غازي ابو عقل  
لا يوجد اليوم ما هو أكثر إلحاحاً من السيطرة على الجائحتين، الصحية والاقتصادية، المُنهالتَين على العالم كما تسونامي. وليس من المضمون أن نتوصَّل إلى السيطرة عليهما، ولئن أخفقنا فإن أعواماً كالحة جداً تنتظرنا. وقد لا يكون حدوث الأسوأ مؤكداً، ومن أجل استبعاد الأسوأ ينبغي لنا النظر بعيداً، وراءنا وأمامنا من أجل فَهم ما الذي يحدث هنا.
أدّى كل وباء كبير منذ ألف عام إلى تبدلات جوهرية في التنظيم السياسي للأمم، وفي الثقافة التي تُوجهه.
على سبيل المثال (ومن دون الرغبة في إزالة تعقيدات التاريخ) يمكننا القول إن الطاعون الهائل الذي حدث في القرن الرابع عشر والذي قضى على ثلث سكان أوروبا، قد أسهم في تجريم المكانة السياسية لما هو ديني وإلقاء تَبِعة ما جرى للقارة العجوز عليه. كما أدى إلى إحداث الشرطة POLICE كشكل وحيد فاعلٍ. قادرٍ على حماية حياة البشر.
وُلدت عندئذ الدولة الحديثة والتفكير العلمي كنتيجة لموجات الصدمة التي أطلقتْها هذه المأساة الصحية الهائلة. يُحيلنا هذان الحدثان إلى المصدر نفسه: اتهام سلطة الكنيسة الدينية والسياسة العاجزة عن إنقاذ حياة الناس، كعجزها عن إعطاء  معنى إلى الموت. هكذا حَل الشرطي محلٍ الكاهن.
وسار الأمر على المنوال نفسه في نهاية القرن الثامن عشر عندما حَلَّ الطبيب محلَ الشرطي لكونه أفضل واقٍ ضد الموت.
انتقلنا إذن في بضعة قرون من السلطة المؤسسة على الإيمان إلى السلطة المؤسسة على احترام القوة، ثم إلى سلطةٍ فاعلةٍ قائمة على احترام دولة القانون.
بوسعنا تقديم أمثلة أخرى، لنجد أنه في كل مرةً حلَّت فيها جائحةٌ في قارةٍ ما، يقضي الوباءُ على رصيد أُنظومتيّ الاعتقاد والسيطرة، لعجزهما عن منع موت أعداد ضخمة من الناس، فينتقم الناجون من أسيادهم ويقلبون العلاقة بالسلطة والسيادة.
وإذا تبين اليوم أيضاً عجزُ السلطات القائمة في الغرب عن السيطرة على المأساة التي بدأت، فإن أنظومة السلطة والأسس الإيديولوجية التي تسندها سوف توضع موضع الاتهام لكي يتم استبدالها بعد مرور مرحلة مظلمة، بأنموذج جديد قائم على سلطة مختلفة، وعلى الثقة بأُنظومة قيم مختلفة.
بتعبير آخر، فإن أنظومة السيادة المؤسَسة على حماية الحقوق الفردية يمكن أن تنهار، ومعها الآليتان (التركيبتان) اللتان وضعتهما موضع التطبيق: السوق والديموقراطية. هذه وتلك من طرائق إدارة تقاسم المصادر النادرة مع احترام حقوق الأفراد.
لئِن أخفقت الأنظومات الغربية فقد نشهد قيام أنظمة سيادية للرقابة تستعمل بفاعلية كبيرة تقانات الذكاء الاصطناعي، لا هذه فحسب، بل قد نشهد قيام أنظمة سلطوية لتقاسم المصادر. (بدأ هذا الأمر في أقل الأماكن استعداداً لقبوله والأقل شبهة بوجود التقنين: في مانهاتن نيويورك، ففي يوم أمس ما كان يحق لأي شخص شراء أكثر من حصتين من الرز). لحسن الحظ هناك درس آخر مُستخلص من هذه الأزمات، هو أن الرغبة في الحياة هي الأقوى دائماً. وأن البشر في نهاية المطاف يقلبون كلَ ما يمنعهم أو يُعيق تَمتعهم باللحظات القليلة التي يعيشونها على هذا الكوكب.
عندما يبتعد الوباء أيضاً، هل سنرى ولادة شرعية جديدة للسلطة لن تكون مؤسسة لا على الإيمان ولا على القوة ولا على العقل ولا على المال الذي يُعَد التحول النهائي للعقل (أو التجسيد الأعلى له). (لكننا لن نراها إلا بعد مدةٍ من وضع السلطة موضعَ اتهام عميق، وبعد طَور من نكوصٍ وتقهقر سيادي لأجل الحفاظ على بقاء حلقات الحُكْم في مكانها، وبعد شعور مائعٍ بالارتياح).
سوف تعود السلطة السياسية إلى أولئك الذين يعرفون أن يبرهنوا أكثر من غيرهم عن التعاطف الوجداني مع الآخرين. وسوف تكون القطاعات الاقتصادية المهيمنة هي أيضاً الأكثر تعاطفاً: الصحة والاستضافة والتعليم والغذاء والبيئة. بالاعتماد بشكل مؤكد على الشبكات الكبرى لانتاج الطاقة والمعلومات وتداولهما، وهو الأمر الضروري في سائر الاحتمالات.
سوف نكف عن شراء الحاجات غير المفيدة بشكل جنوني، ونعود إلى المهم والحيوي وهما استعمال وقتنا على أفضل الأشكال ونحن على هذا الكوكب بعد أن نكون قد تعلَمّنا الاعتراف بأنه أندر الامور وأثمنها. 
إن دورنا هو العمل على أن يكون هذا الانتقال بصورة معتدلة، من دون المرور في أرض يباب ملآى بالأنقاض. وكلما أسرعنا في وضع هذه الخطط بعيدة المدى (الاستراتيجيات) موضعَ التنفيذ كلما تخلصنا بنجاح من هذه الجائحة ومن الأزمة الاقتصادية الرهيبة التي سوف تأتي بعدها.
ترجمة غازي أبو عقل
*جاك أتالي: مستشار الرئيس الفرنسي ميتيران سابقاً*

Tags:

إرسال تعليق

0تعليقات

إرسال تعليق (0)