الشكل التاسع المتقارب والمشكل لهذا "الأرخيبيلاكوس" (حسب الكلمة اليونانية التي تعني البحر- الرئيس)، يجد ضالته في التصوير الشمسي مثلما يحب أن يسميه رولان بارث، باعتباره السجل المرئي لحيوات الناس الفردية، ومدونة العين الخاصة بحوليات المجتمع، وفق عدد لانهائي من الإمكانيات و المسافات و الأبعاد ووجهات النظر. وذلك من خلال صورة المؤلفة الموسيقية و الناشطة الإجتماعية وفنانة الفوتوغرافيا الأميركية المشهورة باربارا بيمان، التي أطلقت عليها عنوان "إبان زمن فيروس كورونا ". وهي ملتقطة بالأبيض والأسود، من زاوية خلفية مقربة، تراعي العمق وتدرجات الظلمة وضوء النهار، غداة شهر مارس الجاري، بأحد شوارع مدينة نيويورك الكوسموبوليتانية مترامية الأطراف والثقافات، بعد أن باتت فجأة سوداوية خاوية ومقفرة على عروشها، تحت طائلة " الكرنتينة"، ترزح وتئن تحت وطأة الهباء. إذ تبدو البنايات صماء والعمارات صامتة بغلظة وغارقة في سبات عميق محايد دون نأمة أو حركة أو نقاط استدلال مرشدة. السيارات جامدة ورابضة مثل كومة خرداوات معدنية معطلة بعد نهاية حرب كونية كبرى لامرئية. المحال والمتاجر التجارية موصدة الأبواب والشبابيك بلا رواد أو زبائن أو جمهور حاشد أو راجلين على شاكلة " في بلاد الأشياء الأخيرة" لبول #أوستر أو على منوال "أمريكا مرئية عبر الصور على نحو معتم" لسوزان #سونتاغ، حيث هنالك شيء لا إنساني و يائس وبائس، ومناخ بارد من الحجر والأسمنت والأسفلت يقف على حافة الدمع ولا حاجة فيه البتة لاستعمال الزمن. بلا غرو، إنه إعلان صريح عن انتهاء المدينة. احتضارها ونفاذ شرط وجودها. موتها الآزف الحثيث. سقوط ملكيتها في يد الإفلاس والعدم العاتيين. وعلى مرمى من العدسة اللاقطة، حذو الجانب الأيمن بالضبط، ثمة كلب صغير كخروف ضامر، من فصيلة "الكانيش"، الذي يعتبر -تاريخيا - من حيوانات الزينة المنزلية الأليفة الصديقة للبشر منذ مئات السنين. مربوط بأنشوطة وكيدة إلى الحاجز الحديدي للشارع العمومي، الذي تجاوره طاولة مقهى بكرسيين شاغرين يتموضعان في الباحة الخارجية. الكلب . " الكانيش". الوفي المطيع. يديم النظر المتردد الضائع في اتجاه زجاج المقهى، حيث نرمق بالكاد سيقان صاحب الكلب المتواري وراء البوابة. وراء الزجاج. وراء ملصق إشهاري، ربما. يستعد على ما يبدو للمغادرة. للمغادرة دون الكلب. في حل من صديقه الوفي المطيع. لقد خمن جديا وقرر عمليا التخلي عنه. التخلي عنه وسط أدغال هذه المدينة الشبحية الفارغة. رحماك يا إلهي، فمع مقدم الوباء اللعين، نصير الشر الأول وكفيله، ها هو المرء فسدت أخلاقه واندحر نبله، فجعل يفر من أخيه وبنيه وامرأته وصاحبه وصاحبته وأمه وأبيه، بل يتبرأ حتى من قطته أو غيلمه أو طائره أو من كلبه. من كلبه "الكانيش" الجميل الوديع، الذي طالما كان "في عنقه" يربت عليه ويدغدغ شعره الناعم الكثيف. تعلم الخذلان والإعراض مخافة العدوى. كم أنت جبان وخؤون وساقط ومترد ومنحط أخلاقيا يا إنسان عالم اليوم، بعد أن فضحتك وعرت خوارك وسوءاتك وجبة حساء خفاش ساخنة بسوق بيع الحيوانات في مدينة "ووهان" الصينية. لعلي أكون مخطئا على طول الخط، والمالك براء من كلامي . يقضي غرضا خفيفا ظريفا وهو في طريقه لاستعادة كلبه "الكانيش"، الذي لا يطيق عنه فراقا.. من يدري؟
26/03/2020
التصنيÙ:
ثقافة