أنيس الرافعي: أرخبيل الفزع (26) قداس جنائزي من أجل شهداء جيش الأثواب البيضاء

alrumi.com
By -
0



(إلى فدوى العبود ، العين الجميلة المتجهة نحو الداخل في السرد )

" الروابط اللاسببية": من المفاهيم الأساسية التي أوردها العالم النفساني السويسري " كارل غوستاف يونغ "(1875-1961)في مؤلفه الحجة : " التزامن: مبدأ رابط لاسببي"، والذي ساق بين ثناياه عدة أمثلة عن الحالات اللافتة للتزامن ، على الأخص الشاهد المشار إليه بالبنان و الإشادة ل " الثماني سمكات " (الموافق لعدد الحوادث الجارية المرقمة التي سوف أخبركم بها تدريجيا بعد حين ) . يقول السيد " يونغ " غفر الله لنا و له ، عبر قناة ترجمة رائقة لثائر ديب مفتلذة من كتاب " التزامن : العلم و الأسطورة و الألعبان ": " اليوم هو (الجمعة) . لدينا سمكة على الغذاء. ويحصل أن أحدا ما يذكر عادة " سمكة نيسان". في ذلك الصباح ذاته كنت قد دونت ملاحظة عن نقش . كان النقش يحتوي على صورة كائن نصفه إنسان و نصفه سمكة. بعد الظهر أرتني مريضة سابقة، لم أرها منذ أشهر، لوحات مؤثرة جدا لأسماك رسمتها في هذه الفترة. وفي المساء رأيت قطعة من التطريز فيها وحوش بحرية تشبه الأسماك. وفي الصباح التالي، الثاني من نيسان ، حكت لي مريضة أخرى ، لم أرها منذ سنوات، عن حلم رأت نفسها فيه واقفة على شاطئ بحيرة ورأت سمكة كبيرة تسبح باتجاهها مباشرة وتتوقف عند قدميها. كنت في هذه الفترة منهمكا بدراسة رمز السمكة في التاريخ". هنا تنتهي سفرة ثائر ديب بين السجلين اللغويين، ويبدأ طريق السارد في الحكاية كي يخبرنا بأن الدكتور يونغ قد دون هذه الوقائع المتصادية/ المتنافذة /المتوازية/ المتعاقبة/ المتفقة في الزمن داخل (مفكرته الجلدية القرمزية)، بينما كان جالسا قرب بحيرة . وحين أنهى الجملة الأخيرة ، راح يمشي باتجاه الرصيف البحري . وهناك رأى سمكة ميتة طولها قدم تقريبا و لم تبد عليها أي أذية واضحة ، ولم تكن هناك عصر اليوم السابق. ولما نجمع في ضفيرة واحدة كافة هذه التفاصيل معا، يكون لدينا ما مجموعه ثمانية حوادث على الأقل متعلقة بالسمك. نفس الحوادث المتزامنة كحركة مجموعة سباحين يؤدون حركات راقصة مصاحبة للموسيقى، أو كطبقات المشاهد المترابطة، متحدة الدال و المدلول ، المنقوشة على إهاب ترس "أخيل" المعروف في عالم فن المنحوتات الآثارية. حوادث محتشدة على مدار يوم واحد لاغير هو يوم (الأحد). حوادث مقيدة بحذافيرها بين أطواء (مفكرتي الجلدية البنفسجية )، درءا للنسيان ، الذي اعتبره برنار نويل هو "الشريك الأول للصمت ". فقد بدأت نهاري داخل اغتمام المحجر الصحي الذاتي، بتأمل لوحة تشكيلية بعنوان " تحية للكادر الطبي"، من توقيع الفنان و الشاعر السوري البديع إسماعيل الرفاعي، الحياز لبصمة تشكيلية آسرة، يصور مضمونها مجموعة من الأطباء على هيئة شخصيات مسيحية عارية تجسد مفهوم " التضحية" بمعناه القرباني "السقراطي" و " الواجب " بمغزاه " النبيل "الكانطي "(1) . وعند دنو منتصف النهار، تابعت بعناية كبيرة على التلفاز "روبورتاجا " قصيرا عن " أوبرا لاسكالا " ، التي قرر جميع أفرادها العزف في الآن ذاته بشكل منفرد داخل بيوتهم من أجل أداء سيمفونية " قداس الموتى " ل " جوزيبي فيردي " (1813-1901)، وذلك تحية للطواقم الطبية في شتى أنحاء العالم لوقوفهم الشجاع على المسافة صفر مع الوباء الطالح(2) .وبعد تناول وجبة الغداء ، وصلني من صديق حميم رابط على الهاتف الجوال ، وعندما فتحته قرأت عن النحات التركي المرموق " نجاتي قورقماز " ، الذي أبدع في صنع تمثال جهنمي لطبيب (أطلق عليه مسمى " الدكتور إكس" ) وهو يطعن الفيروس " الكوفيدي" و اقفا على رأس إبرة حقن طولها ميلمتران ولا تلحظ تفاصيلها إلا عبر مجهر ، بغاية لفت الأنظار إلى
التضحيات الجسيمة التي يقدمها أصحاب البزات البيضاء لمكافحة الجائحة(3). ولما أزفت الساعة الرابعة بعد الظهر ، كلمني تيليفونيا شخص مقرب من أفراد العائلة ، ثم بثني هواجسه و خوفه الشديدين على ابنته الصغرى ، التي تشتغل طبية بالمركز الإستشفائي " ابن رشد "، ضمن جناح " المكوفدين " ،ولم يلتق بها منذ حوالي شهر و نصف( 4) . و وقتما استقام مؤشر الساعة السادسة في مينائه ، شاهدت على قناة " اليوتيوب " الاستقبال الحماسي و الجياش لوفد من الأطباءوخبراء الصحة الكوبيين، كانوا قد وصلوا إلى مطار ميلانو لمساعدة نظرائهم في منطقة "لومبارديا" لمكافحة الزحف الشرس لفيروس " كورونا ". الوفد عينه ، الذي هو عبارة عن فرقة إنسانية كونية ،أطلقت عليها تسمية " هنري ريف " ،في إشارة إلى المقاتل الأمريكي الذي شارك في حرب الاستقلال الكوبية ضد الديكتاتور "باتيستا " و المتخصص في الكوارث الطبيعية و الأوبئة(5) .
أكبس زر تشغيل التلفاز كرة ثانية ، فيهوي بصري حسيرا على ممرضة مغربية تقدم تصريحا للقناة الأولى، ثم فجأة تنهار بالعبرات المنسكبة الفاطرة للأكباد ، لكونها لم تحضن بنتيها التوأم لمدة فاقت الشهرين (6) . و أوان كانت العاشرة ليلا تجر قدميها جرا، وأنا عالق في أسر قصة العشق المشبوبة على جبهة الحرب بين الممرضة و الطبيب في فيلم " الملاك الأحمر " (1966) للمخرج الياباني الرهيب وسيد الجمال الآثم " ياسوزو ماسومورا " ( 1924-1986)، توافيني على تطبيق "الواتساب " رسالة تتحدث عن الأرجنتيني "ليونيل ميسي"، الذي وجه عبر حسابه الشخصي الشكر للعاملين في مجال الصحة ، ممن يحاربون في جميع أنحاء العالم لاحتواء آثار انتشار الوباء، كما وصفهم بالجيش الأبيض و بالأبطال المجهولين (7). و قبيل انتصاف الليل بدقائق و دخول اليوم التالي، يرسل لي نظام "ياهو " للمشتركين صورة فوتوغرافية تركيبية لمجموعة من الطبيبات والممرضات و المسعفات بمدينة "ووهان" الصينية، اللائي تركت الكمامات الوقائية و أغطية الرأس و نظارات الحماية، علامات وأمارات و ندوبا وتقرحات غائرة على وجوههن المرهقة. الصورة كانت مدمرة لدرجة جعلت دمعة شريدة تنسفك من أبعد نبع للحزن في روحي.. وحتى لا أنسى : كانت الصورة مشكلة - بالضبط - من ثمانية وجوه (8) . رحماك يا " ت. س . إليوت " فقد خبرت قبل الجميع بأن نيسان هو أقسى الشهور في " الأرض الخراب "!

12/04/2020
Tags:

إرسال تعليق

0تعليقات

إرسال تعليق (0)