تبحر جزيرة اليوم الحادي عشر، ضمن النطاق الجغرافي لهذا الأرخبيل المروع، لا باعتبارها جزيرة " كاليبسو" الأوديسية المغرية بالإقامة الهانئة الدائمة ، بل مثلما لو كانت (الجزيرة - الشبح ) العائمة في محيط الوقائع المتلاطم. تظهر لردح من المواقيت، طال أو قصر، فيعمد لاحقا إلى إزالتها نهائيا من الخرائط ، بعد التيقن من أنها غير موجودة في الواقع. كذلك نأمل من هذي الكراسة المفرد خطابها الضمني ولاوعيها النصي ليوميات وسجل المعزل الصحي أن تكون سطورا رجيمة يمكن التغافل عنها بعد النجاة و شطبها بالمرة من خرائطية الوجدان و الذاكرة، أو بالحري العودة إليها القهقرى لتأمل "مشاهد ما بعد المعركة " باستعارة العنوان البليغ لرواية خوان غويتيسولو وهي تؤرخ لما بعد (زمن ) انحسار الفظائع و المآسي . قلت عودا على ذي بدء : تبحر في اتجاه شاطئ الكاتب والفنان الكويتي المبتكر والعابر للأنواع، الأستاذ عبد الله لذيذ ، صاحب فكرة (الرزنامة / المتحف) الحاملة لعنوان " كواليس " (2019)، وذلك من خلال رسمته غفيلة الإسم ، التي تستلف بألوان قشيبة و إقتصاد "مينيمالي " في الخطوط و الأشكال وتوزيع درجات التظليل و رواء التخييل ، شخصية " الأمير الصغير" للكاتب و الطيار والشاعر الفرنسي أنطوان دو سانت - إكزوبيري (1900-1944) ، لكنها تزيحها عن حكايتها الطفولية و حبكتها الأصلية على نحو جذري، كي تروي بها حكاية عالمنا المفورس الكظيم وفق حبكة أخرى مغايرة تماما . فالقاطن الأوحد لكويكب " بي 612 " لايبارح مسكنه في اتجاه كوكب الأرض الذي كان مخيبا لآماله بفعل الأشخاص الستة السخفاء ضيقي الأفق المحتشدين بالمثالب كما أتى في المحكي- الإطار لل " النوفيلا "، وإنما يقوم برحلة عكسية فيغادر هذه المرة كوكب الأرض المكروب الملتاث بالوباء الأخضر، الملطخ بالخراج والدماميل " الكورونية "، في اتجاه آفاق أرحب، مرفوعا إلى أعلى بحزمة حبال يسحبها سرب حمام مندفع بحمية بلغ عدده التسع. رمزية الحمام هنا شاخصة كمعطى مباشر يمنح مدلوله بلا مقابل. فالفرج بعد الشدة دني على شاكلة حمامة السلام البيضاء ل بابلو بيكاسو، التي حملت بمنقارها غصن الزيتون و الهناءة للعالم بعد الحرب . لكن ، هذا المعطى مموه ومخاتل في جلية الأمر. إذ لو أن البشر غادروا كوكب الأرض و حلقوا في السماء العلى و المجموعة الشمسية ، لتوجب عليهم إيجاد كوكب آخر بديل في المجرة ليغيئوا إليه . وهذا أمر مستحيل طبعا من الناحية العملية وغير منطقي من الناحية النظرية . في الحقيقة ، إن ما يقترحه علينا المبدع عبد الله لذيذ من خلال تفعيل معنى " انصهار الآفاق " الغاداميري ، و المظان "الهرمنيوطيقية " لأيقونته ، ليس هو القيام بهجرة " كسمولوجية " جماعية أو حتى هجرة " كوسمي -كوميكية " كونية على طريقة " إيتالو كالفينو " الهزلية ، وإنما هو الرجوع إلى فلسفة "الأمير الصغير " في تدبير و تسيير و تنمية كويكبه المجهري . تنظيفه المواظب لبراكينه الثلاثة النشيطة أو الخاملة. تشذيبه للأعشاب الضارة و تهذيبه للأغصان الناتئة التي اقتربت من اجتياح سطح الجرم الصغير . إقناع الوردة بعدم التمارض بسقيها و الجلوس بمعيتها و إبعاد اليرقات الشريرة عنها و صنع كرة زجاجية لحمايتها من هبات الريح العنيفة السموم. تجنيب الأكباش أكل النباتات المشوكة و إقعادها في الظل كي تتعلم خصال الحكمة و قهر نرجسية النفس . التملي ببهاء ورونق النجوم المتلألئات عوض عدها مثل النقود في مخلاة الرأسمالي الجشع البخيل . يود عبد الله لذيذ أن يخبرنا بأن خلاصنا من هذه الضائقة يكمن في عودتنا الرومانسية إلى براءة العالم و صفاء سريرته،و التصالح مع حيواناته و بيئته ، بعد أن أضحى الساكن متوحشا " كانيباليا " يمضغ و يسترط نفسه و أطرافه الحيوية على شاكلة " زحل آكل نجله "، التيتان - كرونوس" المطيح المزدرد لكافة أولاده الأربعة عشر ، في لوحة الرسام الإسباني " فرانسيسكو غويا " ضمن باقة " اللوحات السوداء ". لعمري إذا ما كانت حزمة الحبال وطيدة بما يكفي ، و سرب الحمام تواقا لملاقاة طائر " السيمورغ " ، قائد السالكين في (الزمان) الواسع و الدهر غير المنقطع و في منظومة فريد الدين العطار الشعرية ، ساكن الدوحة العظيمة التي تحفظ كل البذور في المحيط الواسع للوجود على مقربة من سر الخلد الكتيم ، مؤكد أننا سوف نفلح في إنجاز هذا الأمر الجلل القادر على إنقاذنا من عقبى التهاوي في الفراغ ..من يدري ؟
28/03/2020